ـ كيف يشتغل مبدأ الورود في سيرورة إنتاج وتلقي المثل الشعبي؟
وهل يقوم هذا المبدأ على توفر المعرفة المشتركة فقط أم أن له شروطا أخرى؟ وما طبيعة هذه الشروط؟
ـ وهل تعزى السمة الحجاجية في المثل الشعبي إلى صيغه اللغوية المنطقية أم إلى دقة انسجامه مع سياق التخاطب؟ وما دور الإيقاع في ذلك كله؟
لا يمكن للمتحدث عن الأمثال الشعبية إلا أن يجد نفسه في صلب معضلة العلاقة بين اللغة والفكر، وهي مصب مباحث جمة كالمعرفة والثقافة والحجاج والمنطق والنظم والبيان وبعض العلوم الحية كعلم الأعصاب والذكاء الاصطناعي والبرمجة وعلم الأنظمة الخبيرة وغيرها. وليس لم شعث هذه المستويات بالمطلب المتاح للباحث الفرد في مقال أو كتاب لذلك فقد استقر الاختيار المنهجي في هذه المداخلة على معالجة حجاجية الورود في المثل الشعبي المغربي في صيغة تحليلية للأنساق المحورية الثلاثة التي يحيل عليها العنوان وهي الورود والحجاج وخطاطة التلقي.
أولا: الورود في المثل الشعبي من المبدأ إلى النسق:
يرسم الورود بوصفه مبدأ في حقل اللسانيات بالطريقة الضمنية التي تتوالى بها العناصر، فكل عنصر لغوي، لا يتركب مع الآخر إلا إذا كان ملائما له، وتأتي هذه الملاءمة من طبيعة النظام اللغوي، فهو الذي يفرض هذا العنصر أو ذاك في المنظومة الكلامية، وهو شكل من أشكال الضغوط السياقية. وإذا كان منشأ هذا المبدأ متصلا بالبنية اللسانية للملفوظ في مستوياته الصوتية أو المعجمية فإن له في حقل العلوم المعرفية مستويات تجعله يتحول من مبدإ إلى نسق. كيف ذلك؟ إن الملاءمة وطبيعة النظام المعرفي والمنظومة الكلامية وضغط السياق في الأمثال الشعبية شروط معرفية وثقافية تتجاوز البنية اللسانية للقول: مثال ذلك أن طبيعة النظام المعرفي القاضي بأن يلزم الضيف حدوده لدى آويه هي التي تجعل المتلقي يتمثل بعمق حدة المفارقة المعبر عنها في قولهم: "فْعْشّنَا وْنْشّنَا" أو غير ذلك. ووفق هذا الفهم أيضا يمكن تبين أثر ضغط السياق في قدح شرارة المثل الشعبي؛ فإنتاج هذا الضرب من الأقاويل يشغل في الأغلب –شأنه في ذلك شأن الرمز والأسطورة- المسافة القائمة بين الحالة وإشكالية التعبير عنها، فيغدو المثل تفجيرا بديلا عن طاقة أضعف بكثير من الضغط الذي يمارسه السياق على المتكلم. فأي قول يعبر مثلا عن فعل التعجيز أكثر من قولك للشخص: "جِيتِي تَالْرَحْبْةْ فْلِيُّو أُبْغَايْتِي تْعْطَسْ"؟ أما الملاءمة فقوامها ارتباط المثل بالأطر المرجعية المجددة لثقافة العشيرة اللغوية سواء أكانت هذه الأطر دينية أم خلقية أم أسطورية أو غيرها.. للقارئ أن يلاحظ الإطار المرجعي المشترك الذي تنصهر في بوتقته الأمثال التالية:
كُولْ التّبْنْ وَامْسْحْ فُمّكْ بالسّمْنْ وْدُوزْ عْلَى عْدُوكْ مْصَبَّنْ
عَلّفِيهْ عَامْ مَا يْشَبّعْكْ لِيلَة
الثَّوْرْ الْعَيَّافْ يْشْرْبْ الْغَيْسْ
الْمَدْسُوسَة تْهَرَّسْ الْمَحْرَاثْ
فعلى الرغم من اختلاف هذه الأمثال من حيث سياقاتها ومضامينها إلا أنها تنتمي إلى سجل معرفي واحد متمثل من قبل المتلقي وعلى أساسه يتحقق ورود المثل. لذلك فإن من حيل الصنعة التي لجأ إليها علماء الاجتماع معاشرة القبيلة أو الجماعة البشرية قيد الدرس والبحث. وكان ممكنا الاعتماد في هذا الباب على مترجم يكون هو صلة الوصل بين المجتمع المدروس وبين الباحث، لكن الأنظمة المعرفية لا يمكن نقلها البتة لأنها رؤية خاصة للكون والإنسان والحياة. ومن أكثر الخطابات تمثلا لهذه الخصوصية الخطاب المثلي إنه لا يُشرح ولا يُترجم ولا يقبل البتر لأنه حينذاك يخلو من شرط الملاءمة فيفقد خصوصيته الجمالية والبيانية والحجاجية ليتحول إلى قول ساذج غفل بارد، تأمل قولهم مثلا: }والله مَا قْفْلْتِي لَفَوّرْتِي{ احذف القسم وقل }إلا ما قفلتي متفور{، ثم انظر على حد تعبير عبد القاهر الجرجاني: كيف يكون الحال وكيف يذهب الحسن والحلاوة وكيف تعدم أريحيتك التي كانت وكيف تذهب النشوة التي كنت تجدها؟!
1: نسق الورود في المثل الشعبي يقوم على أس ثلاثة (النظام المعرفي، ضغط السياق، الملاءمة)
ثانيا: السمة الحجاجية في المثل الشعبي المغربي.
يحدد تولمين في كتابه: The use of arguments الحجاج بالابتذال أي أنه يقوم على أساس المعرفة المبتذلة والشائعة التي يشترك فيها جميع أفراد العشيرة اللغوية، كما ذهب بعده دكرو وأنسكمبر (جون كلود) إلى أن الحجاج كامن في كل منجز كلامي بمعنى أن الاستدلال الطبيعي (غير البرهاني) هو الوظيفة الأساسية للغة لأن اللسان البشري في جوهره ذو طبيعة حجاجية ابتداء. والمتدبر للمثل الشعبي المغربي يلاحظ أن الأنماط المعرفية الثلاثة كلها حاضرة:
ـ فمثال المعرفة المبتذلة قولهم: إِلَحْضْرْ الْمَاء بْطَلْ التَّيَمُّمْ.
ـ ومثال المعرفة الاستدلالية عن طريق القياس قولهم: }ذَاكْ لْغْصِينْ مِنْ دِيكْ الشَّجْرَة{. وهو قياس حال العلاقة الوراثية بين الأب والابن أو الأصل والفرع على حال العلاقة بين الغصن والشجرة التي ينتمي إليها وما يلزم عن ذلك من تشاكل وتشابه.
ـ أما توظيف المعرفة البرهانية في المثل فإجراء مطرد في نماذج وصيغ كثيرة، من مثل قولهم: }مْشِيتِي عِنْدْ الْبَايْرَة تْسْحْرْ لِيكْ{، لأن هذا القول ينطوي على قضية تحليلية محمولها الضمني نتيجة منطقية للموضوع.
أضف إلى هذه الأنماط أو الأطر المعرفية البنى اللغوية نفسها المؤسسة للمثل الشعبي إذ من البين أن هناك صيغا عامة مهيمنة كالشرط: }الِّلي دَارْ رَاسُو فْنّخَّالَة كَيْنَقْبُو الدّجَاجْ{ والحوار المستبطن لعلاقات من صنف إبطال النتيجة للمقدمة الكبرى كقولهم: }قَالُو شْمْتّكْ، قَالُو اعْرَفْتْكْ{. والمقارنة التكميمية الاستغراقية La comparaison quantitative par extention كقولهم: }الدُّنْيَا بْكْمَة شِي عْطَاتُو أُشِي رْكْلاَتُو{، والتعميم الاستفراقي كقولهم: }كُولْ دْحَيّشْ عَنْدْ مِّيمْتُو غْزَالْ{، والأمر والتوكيد والنهي وغير ذلك من البنيات اللصيقة بالمثل، والتي لا يمكنه القيام بمعزل عنها. ولا بد من الإضافة في هذاالسياق إلى تلك البنيات اللغوية بنية ثانية ذات طبيعة مختلفة، ويتعلق الأمر ههنا بالإيقاع، وذلك من خلال طرح السؤال التالي: إلى أي حد يعد المستوى الموسيقي في المثل سندا حجاجيا؟
لا شك أن الصوت لا يمثل حجة بالمعنى العقلي المنطقي، غير أن له أثرا ظاهرا على المتلقي شأنه في ذلك شأن المستوى التوقيعي في الأقاويل الحكمية. فلو أن قائلا مثلا عمد إلى عبارة }مَا فْلْهَمّ غِيرْ الِّلي يْفْهَمْ{ وأزال منها بنية التناظر الصوتي وقال: ما فلهم غير لكيفهم من الناس، لكان القول الثاني أقل وقعا وأبعد عن الحفظ والرسوخ. وعموما فإن المثل الموقع يكسب جمالية موسيقية تمنحه مصداقية وقوة تأثير.. ولعل الفرق بين البنيات الأصلية والبنيات المنحرفة عنها فيما يلي جدير ببيان ذلك الأثر:
+ لِوْلْدَتْ لِيهْ مُّو فْغُولْ مَعَنْدْ بُوهْ مَا يْكُولْ
ـ لولدت ليه مو فغول معند بوه ما يدير
+ فْعْشّنَا وَنْشّنَا
ـ فْعْشّنَا وْجْرَى عْلِينَا
+ وْرِيهْ وْرِيهْ وْلاَ عْمَا سِيرْ وْخَلِّيهْ
ـ وْرِيهْ وْرِيهْ وْلاَ عْمَا سِيرْ وْتُرْكُ.
غير أنه قد يعترض معترض ويقول إن هذه الأسجاع لا تحضر في جميع الأمثال الشعبية المغربية، إذ منها ما لا توقيع موسيقي له ومع ذلك يحمل قوة حجاجية خاصة. إن هذا الاعتراض وارد، غير أن هذا لا يمنع أن يحقق السجع الموقع في المثل قيمة حجاجية جديدة تعضد قوته الحجاجية الأصلية الكامنة في مضمونه. ثم لا يخفى أيضا أن المثل الموقع صوتيا يكون إلى الأذن أسبق وفي النفس أوقع.. فيسهل حفظه وتداوله، ولا بد من التذكير في هذا السياق بعلاقة السمة الحجاجية للمثل بفعلين مرتبطين به ارتباطا وثيقا وهما الضرب والسير.
لقد ورد فعل الضرب مقترنا بالمثل في أكثر من عشرين آية من القرآن الكريم، كما اشتق منه علماء اللغة والنقد صيغة مفعل مضافة إلى المثل (مضرب المثل) للدلالة على السياق الخاص الذي يقبل أن يوظف فيه هذا المثل أو ذاك. لهذا جاز التساؤل عن سر هذا الارتباط العجيب بين فعل ضرب وبين المثل: إن النحاة حينما يستعملون عبارة (ضرب زيد عمرا)، فهم يقدمونه مثالا لآثار تركيبية ظاهرة على الكلم كالرفع والنصب وغيرهما؛ كما أن الضرب المعروف عند الصيارفة والذي موضوعه الدرهم يعني ذلك الأثر الذي يتركه الضرب في العملة المتداولة، فلا يزول عنها أبدا. لعل في هذا بعض مما يفسر العلاقة الحميمية بين المثل وفعل الضرب، والذي يمكن إيجازه في عمق الأثر والتداول والسيرورة. وهذا ما يفضي بنا إلى كشف العلاقة الثانية بين المثل وبين فعل السير، تلك العلاقة الْمُفَيِّلَة لدعوى التحجر والجمود في المثل، فحينما يقول الدارس تعليقا على قول ناتج عن حدث أو حالة: "ثم سارت مثلا"، فهو يشير بذلك إلى أن خصوصية ظروف إنتاج المثل لا تحول دون سفره بين السياقات والنصوص والحالات وبين الثقافات أحيانا، ففعل سار ههنا يحمل معنى الحياة والتنقل عبر الزمان والمكان.. ولعل ما كثر سفره وتدوول على الألسن وذاع وشاع يكتسب مصداقية وقوة حجاجية مضاعفة تميزه عن القول الساذج الغفل (الغر)!
ثالثا: خطاطة تلقي المثل الشعبي:
من مظاهر حيوية المثل وحركيته التي سبق ربطها بفعل سار في الفقرة السابقة كونه حاضرا في جميع الخطابات، إن له سلطة خاصة تجعل المبدعين أحيانا في قلب رواياتهم العالمية يدمجون أمثالا شعبية واثقين من فعاليتها في استفزاز المتلقي وتوليد ردود الفعل الجمالية والمعرفية لديه. ولو أنهم التمسوا لتلك الأمثال بدائل في اللغة الفصيحة لما سد ذلك البديل مسد العبارة العامية الأصلية. لهذا فإن المثل الشعبي حاضر بكثافة في الأدب وفي السينما والمسرح وفنون السرد وغيرها، إنه إذن سلطة، إنه ملح الأدب الذي لا عوض له.. ولما كانت للمثل هذه المركزية في الأقاويل الإبداعية فإن له استراتيجية تلق خاصة به، ترتبط بنيته اللغوية وخلفياته النفسية والمعرفية. وفي ما يلي بيان لبعض مكونات هذه الاستراتيجية:
نوظف في هذا السياق مفهوما تقنيا يصف سيرورة التلقي وصفا معرفيا ألا وهو مفهوم الإرماز (Le décodage)، وهو سيرورة تفكيكيةتطال المستويات اللغوية والمنطقية المرجعية والسياقية والإحالية (المضمونية..) للعبارة المثلية. فمثال إرماز الصيغ اللغوية والمنطقية Formes linguistiques et logiques تعالق مقولة الكم في ذهن المتلقي مع الصيغة الصرفية الدالة على التفضيل في بعض الأمثال من صنف: }حْسْنْ مِنْ شِي أُكْرَفْ مِنْ شِي{ أو كقولهم }خَفّ مِنْ رَزْقُو{، فصيغة أفعل تحمل ذهن المتلقي على تمثل درجة قصوى للخفة في جانبها السلبي. وقد يتجاوز إرماز المكون المنطقي للمثل العلاقة بين النحو والمنطق إلى منطق استدلالي حقيقي أو منطق قضايا تحليلية مركبة كما هو الشأن في المثال السابق ذكره: }مْشَاتْ عِنْدْ الْبَايْرَة تْسْحْرْ لِيهَا{. فالمتلقي يدرك بسرعة مفرطة القضايا الضمنية التي ينطوي عليها هذا المثل وذلك في إطار قضية شرطية متصلة تتألف من مقدمة كبرى ومقدمة صغرى ونتيجة:
1: البايرة عاجزة عن تحسين حظها بالسحر
2: فلانة لجأت إلى البايرة
وليس هذا هو المستوى الوحيد الذي يفكك إليه المثل في ذهن المتلقي؛ إذ لا بد من استحضار مستوى المرجعية التي ينتمي إليها المثل، وهناك لا بد من تدخل خبرة الدماغ لفك الأطر المعرفية أو السجلات les registres من أجل كشف الإشتراكات والوصل بين مختلف مكونات المثل المرجعية. بيان ذلك أن قولهم: الِّلي مَا عْنْدُو سِيدُو عَنْدُو لاَلاَّهْ، يحمل المتلقي على استحضار بنية من العلاقات الاجتماعية القائمة على ميزان قوى مختل بحيث يحتاج المسود إلى سند يعضده من طبقة الأسياد، وإلا فإن من النساء من يمكن أن تكون سندا وملاذا. والجدير بالملاحظة أن متلقي هذا المثل المغربي يكون مزودا قبل بمعرفة مبتذلة فحواها أن الضعيف في هذا المجتمع لا يمكنه أن يتحرك في طلب حقه بدون سند، لذلك فقد عم وشاع أن يجتهد كل ضعيف في الحصول على عضد من علية القوم يلوذ إليه عند النوازل. هذه المعرفة المبتذلة الشائعة بين أفراد المتلقين المغاربة هي التي تجعل عملية إرماز مرجعية المثل ممكنة. لذلك فإن هذا النموذج يفقد قيمته التواصلية بله الجمالية إذا نقل إلى اللغة الفرنسية مثلا: Celui qui n'a pas de seigneur dispose d'une maîtresse.
لأن كلا من مفردتي seigneur وmaîtresse لا تحيلان على مرجعية ثقافية ترتبط بالسيادة واختلال التوازن بين طبقات المجتمع.
وثمة بعد هذا خبرة ثالثة تساهم في إمكانية إرماز المثل هي خبرة سبر أغوار التوافق بين نص المثل وضغط السياق الوارد فيه، وهنا ينجز الذهن عمليتين معرفيتين متكاملتين هما: إدراك خصوص العلاقة بين المثل المضروب وبين مضربه الخاص كقولهم: (الُّلوزْ كَيْعْطِيهْ الله غِيرْ الِّلي مَا عَنْدُو ضْرَاسْ) وهو معرفة المفارقة بين مالك اللوز الأدرد(*)، ثم إدراك عموم العلاقة بين المثل وبين المضرب العام الذي هو وجود النعمة بيد من لا يعرف أو لا يتوفر على آليات تشغيلها والاستفادة منها. وهذا التوليف الانتقالي بين ما هو خاص وبين ما هو عام هي سيرورة ربط ذهني شديدة التعقيد، قصارى ما يمكن وصفها به هنا أن ملكة الانتقال من مقولة الجزء إلى مقولة الكل عن طريق القياس والربط الذهني مكون من مكونات الذخيرة المعرفية لدى الملتقي .