رغم ما عرفته الدراسات السردية من تطور ملحوظ في العقود الأخيرة من الدراسة والتمحيص فكل اهتم من جانبه بها ،إلا أنه تم إغفال - إلى حد ما - مكونين أساسيين من مكونات أي خطاب سردي ،والإغفال هنا لا نقصد به الإقصاء التام، وإنما التهميش على حساب عناصر سردية أخرى كالشخصيات والأحداث ،فقد تم تهميش عنصري الزمان والمكان بشكل كبير .
ولا نتوخى من دراستنا هذه الفصل بينهما ،وإنما الدمج إن صح التعبير، ومن ثمة اخترنا على غرار ما ذهب إليه ميخائيل باختين مصطلح الزمكان الذي يقول عنه :"ما يحدث في الزمكان الفني الأدبي، هو انصهار علاقات المكان والزمان في كل واحد مدرك ومشخص. الزمان هنا يتكثف ،يتراص ،يصبح شيئا فنيا مرئيا ،والمكان أيضا يتكثف..."(1). ولنحدد مجال الدراسة أكثر،سنربط هذا المصطلح بمصطلح آخرهو الأسطورة ،فالأسطورة هي أيضا خطاب سردي غير محددة الزمان أو المكان، أو لربما قد يحددا لكن بزمان ومكان متغيرين ، ومن ثمة يتحول الزمان والمكان فيهما إلى عنصرين رمزيين لا أكثر.
وتعتبر رواية عين الفرس للكاتب المغربي الميلودي شغموم،فضاء خصبا لاشتغال الزمكان الأسطوري، فهي رواية مليئة بكل ما هو أسطوري ،وبالتالي أمكننا إدخالها في خانة الروايات الفانطاستيكية .صدرت عين الفرس عن دار النشر الأمان عام 1988، قسمها الكاتب إلى قسمين رئيسين، عنون الأول ب"رأس الحكاية"،والثاني ب"الذيل والتكملة" وقسم كل واحد منهما إلى ثلاثة فصول ،عنون كل فصل بحرف عند جمعها تكون كلمة (عين) الفصل الأول (ع) الفصل الثاني (ي) الفصل الثالث (ن) .
العجائية: إن أول ما يصادفنا في الزمكان الأسطوري الموظف في الرواية هو العجائية، وتتجلى عجائبية هذه الأسطرة كون الزمان والمكان ليسا عاديين زمكان يتسم بالعجائبية ،فمع استهلال القراءة يصدمنا المؤلف بهذه الأسطرة في الزمان خاصة حيث يقول :" الوقائع الغريبة التي سأرويها لكم في هذه الحكاية – وضمنها قصة الولد الولد الرهيب والبنت العجيبة- وقائع حدثت سنة 2081 بإحدى الإمارات الكئيبة "(2). فالعجائبية في الزمان تظهر جليا (2081) وفي المكان (الإمارة الكيبة) .ولا تقف العجائبية عند هذا الحد ليسترسل في القول "...فأنا سبحان مدبر الخلق، قد ولدت سنة 661، ومت بعدها بعشر سنوات ،ثم ولدت سنة 842، ومت بعدها بعشرين سنة ، ثم ولدت سنة 1830 ومت بعدها بثلاثين سنة ، ثم ولدت سنة 1967 ومت بعدها بأربعين سنة ، ثم ولدت سنة 2041 ، ولا شك أني سأموت، إن شاء الله، بعد عشر سنوات ،أي سنة 2091 ! بذلك ،إذا حسبتم سنوات حياتي ،سيكون عمري ،والحمد لله، مئة وخمسين سنة ! أما إذا حسبتم فترات سباتي فإني ، والأعمار بيد الله ، سأكون عمرت قرونا ! "(3) .
فالزمان هنا يتحول إلى زمان أسطوري ،متسم بالعجائبية التي لا يحتملها المنطق ، فالسارد هنا يتلاعب بتيمتين مهمتين هما الحياة والموت أي الولادة والفناء ، فمع كل ولادة يولدها ينبعث من جديد ومع كل بعث ينتقل من حقبة إلى حقبة ومع كل موت يرتاح من الحقبة السابقة ، لكن العجيب أيضا أن السارد هنا لم ينس أي التفاصيل أي أنه ظل محتفظا بذاكرته وبكل الدقائق التي تجري له ،والدليل أنه يتذكر حتى السنوات التي عاشها في كل حقبة، ولعل هذا ما خول له في الرواية أن يصبح الحاكي الخاص بالأمير. ومن العجائبية أيضا في الرواية المكان الذي يتخذ بعدا أسطوريا بالتحول من مكان عادي إلى مكان متغير، يحمل نفس الإسم، لكنه وكلما تقدمنا في الأحداث إلا وتتغير سماته نحو الأسطورية ، فعين الفرس في البداية كان عبارة عن مكبر صوت استعمله الأمير ليصل صور الحاكي محمد بن شهرزاد الأعور إلى الناس " وجيء بكبير المهندسين ، وهو روسي عظيم الخلقة ، فوضع أمامي جهازا صغيرا يشبه رأس فرس بعين واحدة فقال الأميرال : الآن يمكنك أن تحكي بدون عناء ، تأكد من أن صوتك سيصل ، بدون أدنى إزعاج ، إلى كل أنحاء الإمارة بفضل عين الفرس هذه " (4)
لكننا وفي مكان آخر من الرواية سنجد أن عين الفرس نفسها انتقلت لتصبح اسم إمارة من الإمارات الكئيبة، كما سبق يصفها السارد بقوله :" في واحدة من هذه الإمارات الصغيرة الكثيرة التي تشبه رقعة الشطرنج ، منظورا إليها من الطائرة ، وفي هذه الإمارة وقعت هذه الأحداث" (5) ولايقف المكان الأسطوري في الرواية عند هذا الحد فنجد عين الفرس هي نفسها انتقلت إلى مدينة شاطئية سينفى إليها الراوي فيما بعد " عين الفرس مدينة شاطئية صغيرة مرتفعة قليلا عن سطح الماء في شكل هضبة تناثرت البيوت البيضاؤ الناصعة على جهتها المطلة على البحر ، بحيث تبدو للناظر إليها من جهة الشاطئ وكأنخا تتدلى ، مثل باقات من الولاد الأبيض ، من عنان السماء" (6) . فالمكان في الرواية يتسم بخاصية التجريد والعجائبية وابتعاده عن خصائص المكان العادي في أي نص من النصوص مكان يتسم بالتحول من آلة إلى إمارة إلى مدينة شاطئية مكان يتميز بالكآبة وهذا ما سيفضي بعين الفرس إلى الغموض الذي أدخله في خانة الأسطرة.
لانهائية الزمكان: لقد اختار الكاتب في روايته زمانا لا نهائيا لا يتوقف عند حد معين كما كانت البداية تماما ،فنهاية الزمان لن تحدث إلا بعد عشر سنوات، لأن السارد سيموت بعد عشر سنوات (2091). وهذا ما أعطى للزمان اللانهائي أسطوريته ،وأعطاه النهاية المفتوحة أي نهاية اللانهائي أي فاتحة لزمان لم يأت بعد، أما لانهائية المكان فتجلت في تعدد الأمكنة وتداخلها، لتتوحد في النهاية في مكان واحد (عين الفرس) وإن كان هناك اختلاف بين سكان المكانيين عين الفرس الإمارة وعين الفرس المدينة ،الأولى يمتاز سكانها بالمجون والمكر والخديعة والعنف والسادية والبذخ، أما الثانية فسكانها مسالمون سذج فقراء يحاربون الجوع والجفاف ولو بخدعة أو كذبة .
الأحداث الأسطورية:ساهمت الأحداث بشكل كبير في أسطرة الزمكان في عين الفرس، فالبحر مثلا تحول من مكان لذر الحياة إلى مكان للموت، من خلال الأحداث الأسطورية التي رويت عنه "نعم ياعم ،في تلك النقطة النائية التي عجت منها منذ قليل توجد أطنان من البسطيلة اللذيذة التي تكفي لأكل عين الفرس عاما على الأقل ...إني أذهب إلى هناك كل يوم في نفس الوقت فآكل حتى الشبع ثم أعود .عدني بعدم إفشاء السر أدلك على مكانها (7) كان البحر كمكان مهم في الرواية نقطة تحول كبير في مسار الأحداث بل هو الذي نقل المكان من الإمارة إلى المدينة فلولا غرق سكان عين الفرس (المدينة) لما عرف أمير عين الفرس(الإمارة) بالقصة وتحول الحكاية كلها من مجرد خرافة إلى حقيقة .فأحداث البسطيلة المشوية في البحر أحداث أسطورية حولت الزمكان من حالته الحقيقية إلى حالة أخرى أسطورية ونجد مبالغى في سرد هذه الأحداث على لسان إحدى الشخصيات " إنهم الصيادون ، صيادون أمركيون، وما أدراك ، أعمي الطاهر، ما الصيادون الأمريكيون ، إنهم أغنى صيادي العالم وأمهرهم ، فهم يصطادون السمك والحوت باللحم المشوي، سضعون الخروف كاملا في الصنارة بعد أن يشووه في أفران خاصة جهزت بها سفينتهم الضخمو التي تشبه المدينة العظيمة ، ثم يلقون بالصنارة إلى السمك والحوت ...(8)
لقد لعب الزمكان الأسطوري في الرواية دورا مهما في نقلها من عالم حقيقي يتسم بالواقعية إلى عالم آخر غير مألوف عالم امتزجت فيه كل المكونات الأسطورية والخيالية لتعطي للزمان والمكان والأحداث بعدا جماليا نقل بدوره الرواية من الرواية التقليدية الكلاسيكية إلى رواية كسرت أفق توقعات السرديات في كتابة الرواية .
1- ميخائيل باختين، أشكال الزمان والمكان في الرواية، تر. يوسف حلاق، وزارة الثقافة، سوريا، 1990، ص 6. نقلاً عن: أسماء شاهين، جماليات المكان في روايات جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية، بيروت، ط 1،2001، ص 125، 126.
2- الميلودي شغموم ،عين الفرس ،منشورات دار الأمان الرباط الطبعة الثانية 2005 ص 5
3- نفسه ص 5-6
4- نفسه ص 11
5- نفسه ص 6
6- نفسه ص 65
7- نفسه ص 28
8- نفسه ص 31