العنوان كما هو متفق عليه عتبة النص وبوّابته التي يمكن الولوج من خلالها إلى مفاصل المتن ومحتواه ..بل يمكن اعتباره البوصلة التي توجّه القارئ إلى النص سرديا كان أو شعريا وهو النواة المكثّفَة التي يمكن للنص أن يتمدد وينتشر من خلالها ويفتح بوابة التأويل وتلقي الدلالات والإشارات التي تسبق النص ..إشارات تستفز الفضول وتضيء الطريق أمام المتلقّي ..
إن أول ما شدني إلى هذا القصيد هو هذه التركيبة الجديدة المحفزة التي ورد عليها العنوان .."وداعا أيّها الجفن الأخضر " ..الجفن في أحسن أحواله وسلامته لايختلف إثنان في لونه الوردي الصافي .. وأما في أسوإ حالاته فيتقرح ويتحول لونه إلى الحمرة ..
ولكن هذا الجفن أخضر ..فماذا أراد شاعرنا لطفي عيادي بهذه الصورة المبتكرة ؟ هل نحن أمام لوحة فنية أرضيتها "هلال خصب" يكسوه الدمقس بسخاء وفخار أم هو يعرض علينا مشهدا سرياليا يرسم عيْنا مكتظة بدموع خضراء وكونا تبادلت فيه الكائنات وظائفها وألوانها وأصواتها؟ قد يفاجئنا النص بالمزيد.
بدأْتُ الرحلة عبر هذا النص فلاحظت منذ أول وهلة أن الشاعر حبا كل حرف وكل صورة بنسيج جمع بين التلميح والتصريح بين الإيماء والإفصاح ..أسدل عليها وشاحا يشفّ فيريك ما خلفه في وميضٍ خاطف ويغريك بالقبض على الفكرة ويتكثّف ويسْمُك فيحجب عنك المعنى ويدعوك إلى المزيد من الفراسة لتكتشف المخفيّ بين ثنايا القصيد .بذلك جعل الشاعر لطفي محمد صالح عيّادي القارئ يتأرجح بين القبض على الصورة/ اللحظة وبين الركض وراء المعنى/المراوغة فالعنوان الذي فاجأنا به الشاعر سيجعلنا أمام النص "الخلطة" ..النص الحزمة الطريفة من الصور الشعرية المدهشة والرموز والإيقاعات والتداعيات كل ذلك سيكسب القصيدة مذاقا مميزا مذاقا بنكهة الظهور والتخفي بنكهة البيان والتقية ..نكهة المراوغة ..
الجفن أخضر ..صورة جديدة ومستفزة ..مجاز واعٍ ومحرك للتساؤل ومثير للدهشة هكذا رآه الشاعر ..أخضر ..هكذا تنفتح القصيدة بصورة مبهرة مختارة بكل ذكاء رسمها الشاعر رسما انطباعيا يلتصق بالذات المبدعة بكل صدق ..هذا ما يذكرني بأحد الرسامين عندما سأله صديق له "لماذا رسمت الأشجار بنفسجية ؟ فرد قائلا :"هكذا بدت لي الطبيعة هذا المساء " رسمها كما أحسها ..هكذا يرى الفنانون الأشياء بالعين الباطنة فيرسمونها بصدق حروفهم أو ألوانهم ..وهكذا تكون السنابل في "الهلال الخصب " خضراء المولد قبل أن تتوهج سبائك ذهبية ناضجة هكذا تكون البداية اخضرارا ...
أما الوداع فهو إحالة لطيفة على النهاية ..لكن نهاية ماذا ؟ أهي قصة بدأت غضة طرية وهي تشارف على النهاية ..حصادا هشيما ؟ أهي نهاية حياة نبضت ولكن بدأ معينها ينضب أم نهايات بدايات كثيرة ؟
المربك جدا للقارئ في هذا العنوان هو التزاوج بين البداية / الأخضر والنهاية / الوداع ..
وداعا أيّها الجفن الأخضر
من خلفك
بقايا عطر
ورذاذ شفاه
يختال في صمت المغاوير المنسية
يرسل القهقهات المدوية
بقايا عطر ..شفاه ..صمت وقهقهات مدوية ..كثف الشاعر الصور والرموز كدعوة إلى فتح شهية العقل ليجوس بين ربوع القصيدة متحسسا مفاصلها ليفك شفراتها وطلاسمها فترتسم اللوحة واضحة المعالم بيّنة الأبعاد .إن الذات المتكلمة في هذا النص تبثّ الرسائل إشارات برقية بكل وعي وإدراك ..تستبطن ..ترسما وشما على ستارة مخملية ..تكشف ثم تنتقل من الوجدان إلى الفكر ..إلى ذات الآخر ..ذات متلقية ..إلى مخاطب تستفزه وتدعوه إلى اليقظة ..تعرض المعادلات وتتحدى وتنتظر النتائج ..اختار الشاعر لطفي عيّادي إستراتيجية مميزة في منطق اختيار الكلمات المتآلفة طورا والمتخالفة طورا آخر ليقود القارئ إلى توليد "حالة الدهشة" ينساب الحدث من خلالها محيرا مستفزا وتتجلى الصورة وتتشكل مكتظة بالرمز لتستولي على اللب تشده بل تجبره على الغوص أكثر ليقتنص درر النص المكنونة .
هاهنا ..
منْبتُ الضفائر المُرْسلَة
هاهنا أتزيّن للموْعد
وأسكبُ في تخوم المدينة
وفي مفْرق السنبلة
رحيق وجع مقطّر
وينفتح المكان ليسعَ القصيدة..
هاهنا افتتاحية لمفصل آخر من مفاصل القصيدة ..تنبيه فيه دعوة إلى الإصغاء ..هناك بوْح يستوجب الانتباه ..هناك اعترافات صادقة ..ناضجة ..طازجة تنادي المتلقي ..اعترافات انتقلت من طور الاخضرار والبدْء إلى طور الارتقاء والسمو :سنابل صفراء ذهبية الجدائل ..تتمايل امتلاء وغنجا ..وينفتح المكان ليرسم اللقاء ..ليحتضن رذاذ العطر المُشتهى..لتكتمل الزينة في انتظار موعد منشود ..موعد براحه مدينة بكل تخومها ومداه اللحظة اللامحدودة .."وهي " تهزّ ضفائرها المنسابة على الكتفيْن سنبلة ناضجة حين قطاف ..تنبض دلالا واشتهاء ..ليكتحل ذاك الجفن الأخضر بمرْود الوجع المعتق قطرة قطرة ..هاهنا تكون الدهشة ..تولد القصيدة ولادة قيصرية ..وهاهنا يرسم الشاعر طريقا تعبد للإبهار مساره كما يراه في قصيدة النثر وللتكثيف مداه كما نسجه قلمه .
هذا المقطع اكتظ صورا شعرية مميزة تمازجت فيها الألوان على درجاتها بالأصوات بطبقاتها والحركات بدايات ونهايات ..إنها طقوس اللقاء ..يتهيّأ له الباث والمتلقي على حد السواء بما يليق به من زينة رغم نهاية حبلى بالوجع المقطر الذي يغرق أحراش المدينة وتخومها ..وهي هاهنا بعطرها تداعب الروح وبجدائلها تغري بالانعتاق "قصيدة غجرية" بحجم المكان وحلم اللامكان ..قصيدة تكتظ بها مدينة المثل لتنسكب رحيق وجع بمساحة وطن ..بنبض ذات ..بحلم إنسان ..
هاهنا هدير آتٍ
لاشيء يستقر في مكانه
عند وقع خطاك المربكة
يهتزّ كل شيء طربا
نغما للعشق الدفين
وللهدب الأخضر
طقوس حنين
تترقرق الكلمات من جديد سلسبيلا بمذاق "الصنوبر" ..ترفّ الكلمات عارية من الزيف ..نابضة بالجمال والتوهج لأن الشاعر آلى على نفسه أن يؤثث قصيده بهواجس الذات الشاعرة وهموم الوطن المتألم والإنسان المنتظر للتغيير ..هاجسه إرساء الكلمة الأصيلة بعيدة عن الزيف محملة بأجمل الرؤى والأخيلة تنسجها أبجدية جديدة مبهرة مغرية بالغوص والتنقيب ..
يرفّ الهدْبُ الأخضر مؤديا طقوس صلاة الشوق والحنين فيسحب البساط من تحت السكون الذي فرضه الوصف السابق وأتاح من خلاله للقارئ استراحة للتأمل والقبض على تلك الصور المتلاحقة ..يثور النص في هذا المقطع حركة دوامة بركانا حركة لاتعرف الاستقرار "هدير آت" أصواتا هادرة هائجة ووقع خطوات تهز الوجدان وتربك سكون النص وتلغي هدوء المتلقي وسلبيته فتخرج بالنص إلى الحركة وبالقارئ إلى الركض وراء الطريدة ..انقلب السكون اهتزازا مطربا تنتشي به الذاكرة ..انه العشق القادم من وراء السنين مختمرا بتجارب العمر وخيبته مسترجعا ذكرى صولاته وجولاته ..انه الذكريات المنقوشة على أغشية الوجدان ونبتة خضراء على جبين الوجود عصارة ماضٍ تبشّر بالبدْء ..بالحياة ..من جديد ..
هاهنا
نقيشة قديمة
ودوائر طين
وأهلة وشمس وتين
على أطرافها
ميْسمٌ وجبينْ
همس تراتيلها القدسية :
أيتها الآتية من وراء السنين
شكوتك للنخل الذي لا يلين ..
المربك للقارئ هو هذا الانفتاح على كل الاحتمالات ..هل نقل الشاعر تجربة الذات الشاعر أم وحد النص بين أزمة الذات الواعية ومعاناة الآخر الساكن فينا وطنا وإنسانا مطلقا ؟ ماذا أراد من خلال اللازمة الإيقاعية "هاهنا" أن يبلغه للأذن المتذوقة لهذا التناغم الحداثي الجديد؟ وهذا الطين..ما أرضيته وما مداه ؟
إنه "الطين / الأصل ..الطين الجذر المتحرك /الساكن فينا ..مهما تلون ومهما تشكل فهو كان وسيظل المبتدأ والمنتهى .."منه خلقنا وإليه نعود" يذكرنا الشاعر بالفناء وباللاّجدوى طورا وبالرحيل والقدوم طورا آخر ذاك الآتي الهادر وتلك الخطى التي هزت السكون وأثارت الهدوء فحولته إلى بركان ..هكذا تنبت اللوعة في ذواتنا وترقص على وقع تراتيل قدسية في مضمار ينادي بالحياة بكل إلحاح ..فالنص مفتوح على الحياة بدأ جفنا أخضر وانتهى هدبا أخضر ..العين ومحيطها رؤيا تفاؤلية تتوهج بشمس حاضرة فاعلة بدونها تنعدم الحياة لذلك جعل الشاعر المقطع الأخير مشرقا منير ليلا "أهلة " ويومها مضيء دافئ شمس أنضجت التين وكل الثمرات تلك الثمرة المقدسة التي أقسم بها الله عز وجل في كتابه العظيم بقوله تعالى "والتين والزيتون" ..وبين أهلة الإشراق في بدايته وسطوع الشمس مكتملة الإضاءة رحلة نبض وانصهار ..ضياء يمسح الكون ويوقظ الكائنات لأداء صلاة شكر ورضا ..صلاة استشراقية تملأ الحاضر ضياء وحياة صلاة استشرافية تبشر بمستقبل رغم امتداد جذوره في "الطين" ففروعه تعانق الآتي ابتهالات وتراتيل ..شمسه تنضج الثمرات وتؤمّن البقاء سنابل ناضجة وقصائد ترفع تسابيحها ضراعة وشكواها بين يديْ النخيل /الهوية والانتماء ..النخيل الذي قاوم ومازال يناضل قسوة الطبيعة والبشر ..النخيل الذي لاتلين عريكته الذي كان وسيظل شامخا يرنو إلى السماء ..
وفي الختام ... هذا القصيد نبتة عميقة الجذور في تربة الأصالة بلغته المتينة ومفاصله المتلاحمة البناء وفروعها ممتدة في سماء الحداثة على مستوى الصور الشعرية والمجازات والاستعارات اللطيفة والرموز والأخيلة والإدهاش ..نلمس فيه النبرة الواقعية معطرة بشذا المنشود المستقبلي ..لقد نجح الشاعر في توظيف كل تقنيات القصيدة الحداثية وخاصة الرمز الذي غرف من معينه بذكاء فجعل القصيد رحلة بحث عن الكنوز الجمالية المخبأة بين ثنايا المعاني دون أن ننسى لعبة الإيقاع التي وزعها بكل اقتدار على مدى النص سواء على مستوى التناغم الداخلي أو اللازمة المموْسقة للمفاصل البنائية أو تلك النغمات الشجية التي تكثفت في آخر القصيد أنينا وحنينا تردد صداهما بين طيات الشجن برق أمل شامخ وقرار لايلين ...
هذه مجرد محاولة لاستقراء هذا النص وتسليط بعض الإضاءة على ما فيه من جماليات متعددة والتمسوا لي العذر أن كانت هذه الدراسة متعجلة أو لم تعطِ القصيد حقه وافيا وأرجو أن أكون ساهمت ولو قليلا في تحريك فضول غيري من القراء ولمَ لا؟ من النقاد أيضا كي يأخذوا المشعل ويحققوا المبتغى ./ الشاعرة و الناقدة الأستاذة فاطمة سعد الله - تونس
وداعا أيّها الجفن الأخضر
من خلفك
بقايا عطر
ورذاذ من شفاه
يختال في صمت المغاوير المنسية...
يرسل القهقهات المدوية ...
هاهنا ...
منبت الضفائر المرسلة...
هاهنا أتزين للموعد ...
وأسكب في تخوم المدينة
وفي مفرق السنبلة
رحيق وجع مقطر...
هاهنا هدير آت...
لا شيء يستقر في مكانه
عند وقع خطاك المربكة
يهتز كل شيء طربا
نغما للعشق الدفين ...
وللهدب الأخضر
وداعا أيّها الجفن الأخضر...
طقوس الحنين
هاهنا...
نقيشة قديمة
ودوائر من طين
وأهلة وشمس وتين...
وداعا أيّها الجفن الأخضر...
على أطرافها
مبسم وجبين ...
همس تراتيلها القدسية :
أيتها الآتية من وراء السنين
شكوتك للنخل الذي لا يلين
وداعا أيها الجفن الأخضر...
لطفي العيّادي - عضو اتحاد الكتاب التونسيين- تونس