وسم الأستاذ بشير عمري في مقال له معنون "من الاستعجال إلى الاستعجام: الأدب الجزائري بين أزمتي الوطن والدولة"، منشور بموقع "أنفاس"، تناول فيه قضية التّجاذب بين الأديب والسّلطة بسبب المشاريع المختلفة لكليهما، لكنه ركّز على ما اصطلح عليه في خلال العشرية الدّموية بـ"الأدب الاستعجالي"، الذي حسب رأيه هو "إسهال غير مسبوق للخيال الفنّي لجيل مصدوم من الواقع"، والحقيقة أنّ الإشكال الذي يطرحه "أدب الاستعجال" وفق التّسمية التي رمي بها، يطرح عدّة إشكالات منهجية ووظيفية، لأنّ وظيفة الأديب تكمن في مواكبة الحدث الذي يأخذ باهتمام الذّات الفردية أو الجماعية، من حيث علاقة الحدث بمصير الكيان الاجتماعي ووجوديته، فالحكم التّعميمي بوصف إنتاجية نصية توثّق لمرحلة حاسمة وخطيرة في حياة مجتمع ما، لابد وأنّه يخلو من الموضوعية التي تستلزم على الأقل القراءة لمجمل المنتج كوثيقة تؤرّخ فنّيا للمرحلة، وهذا يقودني إلى أن أعتبر أن إطلاق وصف "الاستعجال" على نص العشرية الدّموية مردّه إلى عملية تصفية حسابات مع نص انخرط في التواشج المخيالي مع الأزمة في حينها، ولهذا، ولغياب تقاليد التّعامل مع النص الحاضر في راهنه وراهن المشكل القائم، تغيب عن العقل المتابع أو النّقدي التّسميات المصاحبة لطبيعة الحركة النصية، إذ لماذا لم نهتم نقديا وفنّيا بنص المرحلة أو نص الأزمة؟
قد يكون هذا لغياب مفهوم حركة اليومي الصّائرة إلى النص، أي علاقة الأديب باليومي، وهو ما نلاحظه في دول بعينها لا يضيرها أن ترى "الإنتاجية النصية" متوفّرة على طول أيام السّنة، ومنها ما هو متعلق بالسّريان الزّمني للرّاهن واليومي، لأنّ تراكم التّجربة هو ما ينتج حركة الفاعل المعرفي ونشاطه النّقدي، وبالتالي معالجة النصوص من خلال "غربال" النّقد، وهو ما يؤسّس لمرحلة تالية لتراكم النص لا تتعامل مع إنتاجيته وفق المزاج القمعي القائم على إصدار الأوامر لتحريك المخيال الإبداعي.
يقارب الأستاذ بشير عمري إشكالية الدّافع إلى وجود "أدب الاستعجال" باعتقاده بأنّ "الدّم استهوى غواية الكتابة من موقع الهواية"، والكتابة إن لم يكن انبثاق فعلها الهاجس عن طريق الهواية لا يمكن أن تؤسّس للفعل الإبداعي، لأنّه حالة تواصل عفوية مع الحدث في تجلياته المخيالية، والدّم كدافع لكتابة "أدب الاستعجال"، لا يمكن تصنيفه ضمن عناصر استنقاص من أهمية هذا الأدب، لأنّه لم يكن قاصدا إسالة الدّم ليجد متعة الكتابة، بل كلّ ما هنالك أنّ الأديب وُجد في فضاء أزموي حاد، كان عليه أن يرافقه بالنص كما كانت الحالة تستدعي ذلك إبّان الخمسينيات والثورة التحريرية، ولو لم يفعل ذلك، ولم يوثق هذا الأدب لتلك المرحلة عن طريق النص الإبداعي، لكان ذلك من بين المآخذ الكبرى عليه، فالمخيال الذي لا يتواشج مع المرحلة فهو مخيال ناقص، لكن بالمقابل تأخذ قضية اصطفاف بعض هذا الأدب إلى جانب السّلطة أنذاك، موقفا من مجمل الأزمة التي كانت تتهدّد الوطن برمّته، والتي كان يجب على "أدب الاستعجال" أن يخوض غمارها بجمالية الأدب وإنسانيته، وهو من المنزلقات الذاتية في بنية هذا الأدب.
إن تحليل المنحى الإيديولوجي لحركة "أدب الأزمة" تبيّن كيف أنّ هذا الأدب لم يخرج عن كونه وثيقة تسجيلية لمسار أزمة، اتّفق المجتمع والإعلام على المتسبّبين فيها، فكان لزاما على حركة المجتمع برمّته أن تتتبّع الخط الظاهر في صراعات الطيف السياسي الذي نجم عن مرحلة اتّسمت بالانفتاح الديمقراطي والتعدّدية السياسية، ولهذا نجد أن الاتّجاه الإسلامي في بعض أجنحته "الوسطية المعتدلة" بادرت إلى ما عرف بـتيار المشاركة، لكي ينفصل عضويا واتجاهويا عن فصيل تبنّى العنف للوصول إلى السلطة، أو ما درج في وعيه من استرداد الحق "المغتصب" بعد توقيف المسار الانتخابي، وهو ما جعل "أدب الاستعجال" في حيرة إنتاجية للنص المتكلم بلسان المرحلة، أثّرت في حركة تدفّقها التخييلي، لأنّها جنحت إلى التّسجيل الصحفي أكثر من الصّياغة الأدبية.
إن الاستشهاد بالطاهر وطار ونصه الرّوائي"الزلزال"، يدخل ضمن نطاق مرحلة انبثاقية للنص الحداثي الوطني بمميزاته التقنية والروائية التي تؤرخ لبزوغ فجر رواية جزائرية ذات خصوصية، والطاهر وطار يمثل المنزع الفني في إنتاج النّقدية النصية المواجهة لواقع يتطور وينظر إلى ذاته داخل المخاض العسير لمجتمع يتحوّل من الإقطاع إلى مدلولات الوجودية الاشتراكية، باعتباره من مناصري اليسار الذي كان متواشجا مع حركة الشارع ونبض المكان وشفاف العدالة الاجتماعية، فكانت روايته وعلى الأخص "الزلزال" حفرا سوسيولوجيا في ذاكرة المدينة/الوطن، العالق بين أحابيل التخلف وتحكم بنية الإقطاع في الوعي.
إن الأستاذ بشير ذكر روائيين ساهموا في نقد السّلطة من خلال نصوصهم، و ركّز على "ثقل مواريث المجتمع الرّمزية" بوصفها سلطة على سلطة، وهذا ما يقودنا إلى قضية ذات حساسية في موازين إنتاج النص الروائي وموازين النّقد أيضا، تتعلق بوعي النّخبة وعملية إدارة إنتاج النص، هل يخضع ذلك للوعي النّخبي المتعالي، أو إلى العودة العفوية لهذا الوعي إلى حضن وعي المجتمع وعموم الأفراد في بساطتهم الوجودية المتواطئة مع "ثقل مواريث المجتمع الرمزية".
ذكر علي حرب في "خطاب الهوية" بأن "الإنسان كائن رمزي"، وهو ما يجعل الدلالة قائمة في تأسيس منظورات النص الإبداعي على هذا الوعي الذي ينتصر لما هو جمعي باعتبار أنّ المبدع ذاته ما هو سوى حلقة داخل أنطولوجيا الفعل الاجتماعي واليومي على الخصوص، لأنّ الهم الوجودي يسود الخاص والعام، الفوقي والتّحتي، وهذا ما انخرطت فيه الرواية الاستعجالية على أساس تناولها للحظة الدموية في سيطرتها على الوعي الجمعي بكافة مستوياته وانعكاساتها النّفسية المدثرة بالإحساس بالخوف.
جمع الأستاذ بشير بين استعجال الرّواية في مرحلة الدم واستعجامها في مرحلة الفساد السياسي، وهو منطق في الحقيقة لا ينسجم مع موقف النص من التحولات الاجتماعية والسياسية، لأنّه، أي النص يتوافق مع منظورات المجتمع الذي يتفاعل مع لحظة بعينها لارتباطه النّفسي والوجداني بها، أي تصبح تلك الحالة طاغية على تصوراته وحكاياته اليومية، فتكون من ذلك مبادرة الرّوائي إلى تنصيص تلك اللحظة منبثقة من توترات المجتمع الدالة على حيوية ما، تجعل النص الطّافح بها يفيض بما تختزنه اللحظة من وعي الفاعلين فيها، وهم الأفراد المشكلين للحمة المجتمعية، وهذا لا يعني البتّة استعجام النص الروائي التالي لمرحلة الأزمة التّسعينية أمام منطق الفساد، فالمجتمع ليس متفاعلا مع مظاهر الفساد إلا في المناطق التي تهمّه وتتعلق بالمعيش وهو مستوى ضيق في الفضاء لا يرقى إلى درجة الوعي بالأزمة السياسية كما كان الحال خلال الأزمة الدّموية، وهو ما يمنع المتتبّع للإنتاجية الرّوائية من تلمس مناطق تناولها للخلل السياسي والاجتماعي.