نحن الضيوف على الأشياء/محمود درويش
/ في صحبة الأشياء/ ديوان اثر الفراشة
تلبسني الأشياء حين يقبل النهار/احمد المجاطي
السقوط/ديوان الفروسية
يتأثث العالم الإنساني بالعديد من الأشياء والأمكنة، والأدوات والوسائل، التي تساكنه ويدخل معها في علاقة روحية ابعد وأعمق من مجرد تسخيرها لتسهيل حياته ،وتلبية مطالبه ،مما جعل هذه الرابطة تنعكس في مختلف وسائله التعبيرية وتتخذ لها أبعادا في الأنساق الثقافية والرمزية ،ودفع الباحثين والنقاد والدارسين إلى الاهتمام بالموضوع ،مشيرين إلى أهمية الأشياء في الفنون والآداب. واقفين عند شعريتهاوتشكلاتها، دلالاتها وبلاغتها ،بطولتها و رمزيتها، وسلطتها وسطوتها .
في البدء كان الإنسان والأشياء
واو العطف هنا تعني ندية الحضور بين الطرفين، توطدت العلاقة وارتقت من الاستعمال المادي النفعي إلى الحس الجمالي والثقافي الحضاري والتوظيف الشعائري الطقوسي...
وإطلالة على لائحة الأشياء ذات القيمة الأسطورية التي رفعتها إلى مدارج القداسة تغني عن كل تعليق:سيوف-رماح-أقواس- خواتم-/تيجان- قبعات-........لذلك تتعدد نوافذ الإطلالة على موضوع الأشياء ويصعب حصرها في مجال دون آخر ،لتشابك خيوطها التي انتسجت مع جميع مناحي الحياة الإنسانيةListe d'objets légendaires et sacrés/
1-طي كل المحكيات المثيرة تقبع أدوار أخاذة للأشياء: في الأساطير(صخرة سيزيف-قيثارة اورفيوس-سيف ديموقليس-سرير بروكوست-عشبة كالكامش-شعلة برومثيوس-شمع ايكاروس- حصان طروادة الخشبي- تمثال بيكماليون مصباح ديوجين وبرميله...) وفي القصص الديني (تفاحة آدم - إبراهيم والتماثيل –سفينة نوح-خاتم سليمان-عرش بلقيس- بل أحيانا ما كان الشيء يلعب أكثر من دور، مثل عصا موسى التي شقت البحر وأفحمت السحرة....وقميص يوسف الذي صاحب قصته مع إخوته، ومع زليخة، ومع والده ).. التاريخ أيضا حافل بالأحداث التي ارتبطت بأشياء صارت كناية عليها نذكر منها:بيعة الشجرة-سقيفة بني ساعدة-أسماء الغزوات والمعارك-ذات النطاقين أسماء-قميص عثمان-رفع المصاحف فوق أسنة الرماح-سيف الحجاج –جبة الحلاج-إحراق السفن وفتح الأندلس- تسليم مفاتيح غرناطة- -حادث المروحة بين فرنسا والجزائر-حادث المنصة (مقتل السادات).جدار برلين-الستار الحديدي....الخ
2--استبكت الأطلال والديار والزمن الشاعر العربي،وأشعرته بفعل الزمن في الكائنات، ودعت العصا قلم الجاحظ ليخصها بمكان في رفوف خزانته الوارفة ويؤلف فيها(كتاب العصا) ومعرجا ببيانه على الأزياء والعمامة وغيرها،ونادت أشياء العصر العباسي لحظة أبي نواس الشعرية الى زمن آخر.و"البردة" شعت شهرتها بين ثلاث قصائد للشعراء(كعب بن زهير-البوصيري- شوقي--)وبركة المتوكل للبحتري فتحت أحضانها لسياح من مختلف الأجيال، ، واستوقفتنا أبيات ميسون الشهيرة التي تفضل فيها أشياءها البدوية البسيطة على ترف القصور وبذخ بلاط زوجها معاوية،وموصوفات ابن الرومي التي تختلف عن" أشياء ومواعين" الشاعر الأمير ابن المعتز،الذي كان يستقي مواد صوره الشعرية من مائدته الدسمة المتخمة بالذهب الخالص والمسك والعنبر والفضة والحرير والدمقس والزبرجد وغيرها.ورياض وحياض وقصور وجنائن وفسقيات ونوافير خلدها الشعر عبر العصور
وكيف كنا نتصور عالم" ألف ليلة وليلة "بدون:بساط الريح-مصباح علاء الدين -خاتم لبيك-القماقم-السيوف-المرايا-الصناديق المغلقة-القناني المختومة-الخزائن والقناديل-المشاميم والمباخر، والستائر والحلي، وكنوز السند باد والدفوف ،والأثواب المنقوشة.لتشكيل عوالم مسحورة يتحرك فيها البشر رفقة المردة والجن والحيوان والطير والدمى والشياطين في.مدائن النحاس والرخام وعبرا لجزر والبحار.........
إلى جانب المأثورات والأمثال والكنايات ا لتي نعرض بعضها فقط:
الناس كأسنان المشط-الوقت كالسيف-الوقت من ذهب-مسمار جحا-حذاء الطنبوري-خف حنين-بعيدة مهوى القرط-لوذات سوار لطمتني-بين المطرقة والسندان –يغطي الشمس بالغربال- -عنق الزجاجة-حبر على ورق-ناقوس الخطر-جرس الإنذار-مقص الرقابة-القفص الذهبي-سلم المجد-كرسي الحكم-أبواق السلطة...الخ-.طوق النجاة
ولا يتوقف الإشعاع الاشيائي بمختلف الإبداعات الإنسانية في تداخلها وتصاديها وتناصها:
3- في الفنون التشكيلية، تألقت مع مدرسة الطبيعة الصامتة،أو الطبيعة الميتة وذلك
لتأكيد قيمة الموجودات وعلاقتها بالإنسان ،حفلت لوحات كل من "شاردان وماتيس وموني وسيزان و فان غوغ "بالأصص والكؤوس والمزهريات والسكاكين والقناني والمعاول والستائر والصحون ولم تنحصر في التزيين......بل تم ترميزها كما يرى د.محمود شاهين''هذا الفهم الخاطئ والقاصر لموضوع «الطبيعة الصامتة» ردت عليه آلاف الأعمال الفنيّة التي عبّر بعضها، من خلال «الطبيعة الصامتة» عن موضوعات عميقة كالفناء والموت، اعتماداً على رموز وإشارات وعناصر مختلفة كالجمجمة. وبعضها الآخر، عبّر عن الزمن من خلال الشمعدان والشموع المشتعلة. أو عن المعرفة عبر المصباح والضوء، أو رمزت إلى الحياة المنطفئة بوساطة الموت، عن طريق رسم شموع منطفئة منذ لحظات، حيث لا زال الدخان يتصاعد منها، والرمز للحياة الأبديّة عن طريق رسم سنابل القمح، وأكاليل الزهور والغار.''.الخ.
******
4-كما احتفت كتابات كي دو موباسان(1850-1893) بالأشياء بشكل مثير، واذاكانت بطلة بامتياز في بعض قصصه مثل "العقد" و الحبل".فإننا نجدها أيضافي نصوص أخرى تحظى لدى شخصياته بمكانة بارزة ،وعلاقة وجدانية وثيقة:تخرجها من برودة العزلة وشراسة الوحدة القاتلة كما هو شان المرأة في نص "أشياء بالية" vieux objets
وهو رسالة من امرأة وحيدة الى صديقتها تعترف لها بدور الأشياء المخزونة ،الحافلة بالذكريات في تبديد الوحدة والوحشة، وحال الرجل في نص" من يدري’؟"حيث تصبح الأشياء المركونة في مخزن أو طابق ارضي بديلا عن علاقات وذكرى لصور هاربة،وبحثا عن الزمن الضائع.
علاقات أخرى مع الأشياء تصل حد الهوس أو الوسواس القهري، يصورها
في السرد العالمي الحديث ،عملان يرصدان العلاقة السحرية بين البحث عن السعادة واللهاث خلف الأشياء :
أ-les choses
الأشياء"" للكاتب الأوكراني فالانتين بيتروفيتش كاتاييف /..1897-/1986
وهي إحدى روائع القصص العالمي1929،التي لفتت الأنظار إلى سلطة الأشياء على الناس ،حيث صورت ضياع شخصية "شوركا"وضعفها أمام قوة جاذبية السلع : إذ أفنت لحظاتها الجميلة بين بضائع السوق وأثاث البيت وانصب اهتمامها على لون الأغطية والبطانيات وديكور البيت واختزلت حياتها الزوجية في ارتياد محلات البيع .. مرض الزوج ومات وهي غارقة في طوفان التبضع وكانت أول هدية للزوج الثاني أن تجره هو الآخر إلى السوق قائلة........../..........." إلى السوق طبعا لشراء الأشياء وهل هناك مكان آخر غير السوق؟"
-ب-Les choses
"الأشياء" للكاتب الفرنسي جورج بيريك وفيه رصد G.Perec(1936-1982) الاجواءالنفسية لما قبل ربيع باريس 1965في مجتمع استهلاكي يبحث عن سعادته خلف الشقة والسجاد والأثاث. وإذا كانت" شوركا "تتصرف عن جهل بحالتها ووضعيتها' فان الزوجين" سيلفي وجيروم" اختارهما بيريك باحثين في علم النفس والاجتماع' لذلك تقلقهما وضعيتهما ويتمنيان لو كانت لهما هواية أفضل غير ملاحقة قطع الأثاث من أرائك جلدية وسجاد الحرير وخزانة خشب من النوع الرفيع. ..وصف واستعراض للا شياء لايضاهيهما إلا سعار التعلق بالأشياء وتضييع العمر في اقتنائها والبحث عنها.. يقول ربيع جابر متسائلاومخاطبا الكاتب:
(.............ه؟ وصف الأثاث الفخم والشقة الخيالية في تلك الصفحة الأولى من «الأشياء» سيتحول الى السمة المميزة لأعمالك: صعب أن نجد في تاريخ الأدب مثل هذا الوصف التفصيلي الشديد الإمتاع. ما سرّ تعلقك بهذه الأشياء، الطاولة والكرسي والكنبة والستائر والتحف، الأدوات الكهربائية ورفوف الكتب وإطارات النوافذ واللوحات والمقتنيات النادرة وغير النادرة؟ هل كنت تمسك العالم بين يديك وأنت تخط تلك الصفحات، هل كنت تتأكد أن العالم موجود، انك أنت - جورج بيريك - موجود؟)
****
--5---في ق20 تضافرت عدة عوامل أبرزها آراء الفلسفة الظاهراتية والكون الشعري الذي اجترح آفاقه فرانسيس بونج شاعر الظاهراتية والعاشق للوحات شاردان، "-لتصبح الأشياء موضوعا إبداعيا بامتياز. لقد كانت مجرد وسيلة تاثيثية اوديكور مشهدي و اطارللاحداث، أو علامة على وضع طبقي ،أو دليل على مهارات فائقة في وصف التفاصيل، كما كان الامرفي الرواية الواقعية/المشاهد التصويرية الباذخة للأثاث والأشياء في مدام بوفاري وروايات بلزاك وغيرها/لتتحول إلى غاية لدى العديد من كتاب وأعلام الرواية الجديدة(الان روب غرييه- ناتالي ساروت-كلود سيمون-روبرت بانجي-مارغريت دورا.ميشيل بوتور....) حيث انصب الاهتمام على المكان وأشياء العالم الخارجية وإسناد البطولة إلى الأشياء قبل الأشخاص.كما وقف عند ذلك الان روب غريي في "نحو رواية جديدة"
وهذه الشيئية مما يعد شاهدا على ذوبان الفرد وانحسار دوره أمام سلطة الأشياء وغلبة الآلة" إذ صار مملوكا وعبدا للأشياء بعد أن كان مالكا لها.
6--شيطان الشعر لم يسلم من إغواء الأشياء ،واستجاب لمراودتها اياه في الكثير من الأعمال الشعرية العالمية:يانيس ريتسوس،سيرجي يسنين،بيسوا، نصوص فرنسيس بونج 1899-1988صاحب مشروع "القصيدة-الشيء"وكتاب "التحيزللاشياء ، الذي تستحم مختلف الكائنات والأشياء في نهر متخيله ،لاستنطاقها وتأملها ،ويعمل بحنو شديد على توريطها في تشييد عالمه وتأثيث متخيله بعناصر من قبيل:(المطر-الأبواب-المحار-البخار-الشمعة-سقيفة الحبوب-الحصاة)ونصوص مواطنه يوجين غييفيك /1907-1997/الساحرة:الذي أرهف السمع لهمسات الكون وأحسن الإصغاء لصرخات الكائنات،لإقامة حوار معها ومد جسور التواصل بين عناصر الطبيعة:واستحالت بلدة /كارنا ك/ مرتع صباه/شمال فرنسا بأعشابها البرية، وصخورها التاريخية منجما لصور شاعر "الأشياء" "والداعي إلى مؤاخاة الأشياء الصغيرة"كما لقب عن جدارة .لقد كانت نصوصه باحة تعزف فيها عناصر الوجود سيمفونية الحياة، وتغني نشيد التجانس الكوني "بتعبير بودلير"بأصوات الناس والطيور والحشرات والحيوانات وهسيس النباتات وصراخ الأشياء:
(البركة-اشجار البلوط واللبلاب والصفصاف--العوسج-المنبع-الأرخبيل-الحصاة-الماء-الصخور- السلالم-المدفأة-)في اشراقات تذكرنا بشعر" الهايكو"الذي تلتمع في مقاماته العديد من الأشياء.
صحيح ان الشعر لم يتبرأ يوما من علاقاته مع الأشياء،لكن حجم وطبيعة حضورها هو ما يستوقفنا في لحظات دون غيرها.
7-- ،اهتمام كبير بالأشياء، تجلى إبداعا ونقدا ،وفي مختلف البحوث والدراسات ، مستثمرا معطيات العديد من العلوم والمعارف . وفهم الإنسان لذاته ولمحيطه:
*رولان بارث –وفي غمرة انشغاله بالرموز والعلامات والأنساق- اهتم بعالم الأشياء في الإبداع الأدبي والفني، كماوقف عند الكثير منها في عدة جوانب من تفاصيل الحياة الإنسانية والفنية:الصور-الطعام والشراب-الأزياء والموضة-الاشهاروالسلع-اللعب بين البلاستيك والخشب
بيريك يشير في احد حواراته، بأنه مدين-إلى جانب كتاب آخرين في كتابة مؤلفه" الأشياء"- لبارث وكتابه "ميثولوجيات" خاصة مقاله "اللعب".
*باشلار يستضيفنا إلى اكتشاف شاعرية الأمكنة والاشياءالاليفة واحساس الدهشة الأولى في صحبتها (البيت-العش-الشمعة-الشمعدان-اللهيب-القنديل-المدفاة-السطح-الخزانة-المهد)لاستثارة الخيال، وتحفيز الأحلام والزج بنا في طفولة حلمية لاتشيخ.
ـ و في كتاب " محفظة اليد" يدخل بنا الباحث السوسيولوجي الفرنسي جان كلود كوفمان العلبة السرية لعالم المرأة، ويعتبرها مفتاحا ومرآة للشخصية وشواغلها ومستواها الثقافي ،والذوقي واهتماماتها الفكرية،وعلاقاتها الوجدانية وأدوارها الاجتماعية
ـ " قبعة فرمير .القرن السابع عشر وفجر العولمة"كتاب للمؤرخ الكندي"تيموثي بروك/2008 وترجمة د عبد الحميد شاكر/ وهو عبارة عن دراسة ثقافية فنية اقتصادية من خلال أشياء لوحات الفنان الهولندي فرمير(1632--و.1675
- .
"يستعرض المؤلف عبر فصول هذا الكتاب بدايات العولمة من وجهة نظره كما تجسدت من خلال لوحات فيرمير ومن خلال الأشياء التي توجد في هذه اللوحات كالفضة والقبعات والكؤوس وأطباق البورسلين والخرائط وغيرها ومن خلالها يرصد –خارجها- التاريخ كما يتجسد في الرحلات البحرية والحروب التي دارت بين الأمم في الشرق والغرب، وغير ذلك من الموضوعات
هكذا يطرح المؤلف تساؤلاته الخاصة به من خلال فحصه للوحات، أو بالأحرى، على نحو دقيق، الأشياء – أو الموضوعات- الموجودة في اللوحات"
جامعا بين أشياء الفن وأشياء الحياة للحديث عن فجر العولمة،وعنوان الكتاب مستوحى من لوحة فرمير" الضابط والفتاة الضاحكة"التي يرتدي فيها الرجل قبعة خاصة كبيرة من الفرو.
8----في الأدب العربي الحديث والمعاصر( –شعره ونثره )-احتفاء بالأشياء والتفاصيل: بأشياء اليومي وأشياء الذاكرة ،أشياء الطبيعة وأشياء الصناعة،
لكنها لم تحظ بما يكفي ، من دراسات تنظيرية وتطبيقية موازية ،نصوص عديدة تنبض بحيوات الاشياءوتضج بأصواتها، تنتظر مقاربات، وقراءات عاشقة وعالمة مستعينة بأدوات ومداخل قرائية متنوعة ،وزوايا نظر تشكل إضافات الى نقدنا العربي الحديث، هناك مؤلفات ودراسات في الموضوع، لكنها تبقى غير كافية.........
لذلك انبرت عدة أقلام إبداعية ونقدية عربيةللاشارة الى أهميته، ،والدعوة إلى ايلائه ما يستحقه من عناية نقدية ،توازي حضوره المتألق في الإبداع.تقف عند طبيعة الأشياء ومدى توظيفها كما وكيفا،بنيويا ورمزيا.
، وطرح عدة إشكاليات تلامس وضعية الاشياءكموصوفات ،كموضوعات وكأدوات للكتابة ،عبر التناول ألموضوعاتي والجمالي
إن الأشياء تتقاسم مع الناس و باقي الكائنات الحضور في الفن والكتابة، مثلما ترافقهم في رحلة الحياة.وعدسة الإبداع بمختلف أدواته ووسائله التعبيرية، هي القادرة على التقاط وجودها الممتد في أرجاء العالم الخارجي ،والرابض في أغوار دواخلنا السحيقة......
… في زحمة الأشياء نتيه.......في غيبة الأشياء نضيع......
والتوازن المفقود ،هوالضوء الشارد الذي يلاحقه الإنسان ،و العشبة التي يبحث عنها كالكامش الإبداع ،بكل أشكاله وأدواته التعبيرية عبر العصور.