لا ينكر أحد اليوم المتاهة والمعضلة السياسية الكبرى التي دخلتها كل دول العالم دون استثناء سواء كانت نظامها ديمقراطيا أم استبداديا كما هو الشأن في بلداننا العربية التي نقول بصراحة إنها لم تستطعم معنى الديمقراطية في حياتها وربما لن تناله مادامت دار لقمان على حالها و حتى لا نستطرد كثيرا في موضوع الاستبداد في العالم العربي وننسى الموضوع الأصلي نغلق هذا القوس عسى أن نعود له في عجالة قادمة . أما ما يشغلنا الآن حقيقة هو هذا الإهتمام العالمي بمسألة الأمن والاستقرار و طرحها كخيار استراتيجي لمستقبل الدول والعالم بصفة عامة خاصة وأن كل الدول اليوم لا هم لها سوى محاربة الإرهاب الذي أصبح الشبح الخرافي الذي تطارده كل دولة دون أن تعرف هويته بل إن ما اصطلح عليه اليوم بالإرهاب جعل هذا المفهوم ملتبسا ومغرقا في الالتباس فالكل اليوم معرض للإرهاب ويمارس عليه و لكن لا أحد يعلم من أين يأتي وفي أي اتجاه يمارس ولكن المؤكد أننا ضحاياه و يأتينا من كل حدب وصوب و معالجته ربما تستدعي ميكروفيزياء الإرهاب . إن خشية الدول من أن يأتيها الإرهاب من حيث لا تدري دفعها للبحث في طريقة معالجة هذه الظاهرة المستعصية التي باتت تطلع طلوع الفطر عبر التركيز على استراتيجية واحدة أحادية وهو ما يسمى بالمعالجة الأمنية فعملت دول العالم على محاربة الإرهاب بالإرهاب فلم تخل دولة من تشديد الرقابة على مواطنيها والتنصت عليهم وتفتيشهم حتى في الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر النموذج الديمقراطي الذي يحتذي به بقية العالم ناهيك عن الدول العربية ذي الطبيعة الاستبدادية حيث طغى هاجس الأمني على حرية المواطن وكرامته , بل من المعروف أن هذه الدول لا يهمها في سياق استراتيجياتها سوى هدف واحد ومبدأ واحد نسمعه يتردد وهو ضرورة تحقيق الأمن و السلام . والمتأمل في خلفية هذا المبدأ يكتشف أنه تصور نشأ في القرن السابع عشر على يد الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز حين قدم تصورا للسلطة السياسية يتأسس على سلطة الحاكم الذي سماه التنين في إشارة إلى القوة و الهيمنة لأن هوبز يعتقد أن البشر ليسوا في حاجة للحرية قدر حاجتهم للأمن والاستقرار ومن هنا أعطى المشروعية المطلقة للحاكم التنين و سمح له بالتدخل في شؤون المواطنين حتى تلك المتعلقة بحرياته الشخصية مثل اختيار الدين إذا رأى أن ذلك يهدد أمن السلطة و بالتالي هدف السلطة السياسية هي التخويف للإبقاء على زمام المحافظة على الأمن والاستقرار و بالتالي يتحول المواطن إلى مجرد شخص مطيع و خاضع . نفهم من خلال هذه العودة المقتضبة لفلسفة هوبز السياسية أن دولنا العربية تستخدم هذا النموذج في الحكم المستمد من القرن السابع عشر من أجل أن تفرض سيطرتها وتحول المواطنين إلى مجرد رعاع عليهم الامتثال لسلطة الحاكم المطلقة بدعوى الحماية من الإرهاب و محاربة عدم الاستقرار والفوضى وهي تشدد في ذلك من قبضتها الأمنية الحديدية تحت تعله تحقيق الأمن و هذا التوجه وجد طريقه أيضا للدول الأوروبية الذي دفعها توجسها وهاجسها من الإرهاب إلى انتهاك حرية مواطنيها بل أصبح أي شخص معرض للاضطهاد والحبس لمجرد التشكك فيه وغيرها من الممارسات التي تتعارض مع أبسط حقوق الإنسان .
و لكن تنسى هذه الدول بمختلف توجهاتها السياسية سواء كانت مستبدة كأنظمتنا العربية أو ديمقراطية كما تدعي الدول الغربية أن طريق المعالجة الأمنية لن يحل المشكل بل سيعقد الوضع أكثر لأن الحل الأمني لا يجلب معه إلا الخشية والريبة المتبادلة بين المواطن والدولة وإحساس الإنسان بالقهر والظلم وأن أبسط حقوقه منتهكة سيدفعه إلى النقمة على دولته والانتقام منها في أية فرصة تتاح له لأنه لم يعد يثق فيها وبالتالي سيكون جاهزا للتخلص منها عندما تتوفر القوة والفرصة . لذلك نلاحظ أن عوضا أن تؤدي سياسة الدول إلى تطويق ما يسمى بالإرهاب انفلتت هذه الظاهرة أكثر بحيث يصعب على المجتمع الدولي اليوم السيطرة عليها لأنها خرجت من دائرة نفوذهم لتعتري العالم حالة فوضى لم يعرف مثيلها وربما الدور قادم على بقية الدول الأخرى إذ لم يعد أحد بمنأى عن هذه الظاهرة إذا لم يقع التفطن إلى المأزق الأمني الذي وضعت فيه الدول نفسها لأن الدولة الأمنية لن تجلب أمنا بل هي عين التهديد و سياسة الدولة الأمنية هي تهديد مباشر لأمن الدولة لأن هناك طرق أخرى تحقق الأمن والسلام الحقيقي تبدأ بالاعتراف بحق المواطن في الحرية والعيش الكريم و العدالة السياسية والحرية فالعنف لا يولد إلا العنف ومن يعالج الإرهاب بالإرهاب يكون قد شرع له وعندها سندور في حلقة مفرغة كما حالنا اليوم . فعلى العالم اليوم إذا أراد أن يخرج من هذه المتاهة أن يغادر أفق الحل الأمني ويقتنع أن هذا المنهج هو أقصر الطرق المخصبة لظاهرة الإرهاب والمساعدة على تفشيها كمرض الطاعون فمزيدا من الحلول الأمنية مزيدا من التهديد الأمني. أما الحل فإنه لا يمكن أن نقبل بهذا النهج تحت أي حجة حتى ولو كان فرض الأمن لأن الأمن لا يفرض بزرع اللاأمن في صفوف المواطنين والخشية والخوف بل بزرع الطمأنينة والثقة و هذا لن يكون إلا باستبدال الدولة الأمنية بدولة الحرية والكرامة الانسانية.