حظي مفهوم العدالة الاجتماعية خلال السنوات الأخيرة بقدر كبير من الأهمية على الصعيدين الأكاديمي والإعلامي، كما أستحوذ على حيز كبير من الجدل على مستوى الفكر الاقتصادي ، حتى أضحى من المفاهيم الشائعة الاستخدام في الأدبيات السياسية الحديثة وفي الخطابات المعاصرة وتقارير المؤسسات والمنظمات الدولية و الوطنية.
وتبعا لذلك، أصبح الحديث عن العدالة الاجتماعية، يكتسب حيوية متزايدة نظرا لحيوية الموضوع تحديدا باعتباره مطلبا شعبيا ودوليا في أن واحد في واقعنا المعاصر.
وقد غدا هذا الاهتمام واضحا من خلال عقد المؤتمرات والندوات وإبرام الاتفاقيات على المستويين الإقليمي والدولي. وكانعكاس لتعاظم الاهتمام دوليا بموضوع العدالة الاجتماعية،تم جعل يوم20فبراير، كيوم عالمي للعدالة الاجتماعية.
ويأتي إفراد يوم 20 فبراير من كل سنة من طرف هيئة الأمم المتحدة للاحتفال فيه، بوصفه اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية بموجب القرار رقم10/62- حيث تقرر إعلان الاحتفال سنويا بيوم 20 فبراير كيوم عالمي للعدالة الاجتماعية بداية من الدورة الثالثة والستين للجمعية العامة للأمم المتحدة سنة2008، وذلك بالنظر-كما أسلفنا- للأهمية المركزية والمحورية التي أصبح يحضى بها مطلب ومسألة العدالة الاجتماعية في عمل واستراتجيات مختلف دول العالم والمنظمات الدولية.
وفي هذا الإطار، نجد أن أغلب الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والمواثيق الدولية والمذاهب الفكرية بمختلف مشاربها، أجمعت على أهميتها وضرورة تحقيقها باعتباره مطمح قانوني وسياسي وأخلاقي وشأنا مجتمعيا.
ولا غرابة، في أن يتصدر مطلب العدالة الاجتماعية قائمة مطالب وشعارات الحركات الاحتجاجية الجماهيرية، التي خرجت في مجموعة من الأقطار العربية(تونس، ليبيا، اليمن، سوريا، المغرب) في سياق ما سمي ب"الربيع الديمقراطي".
وهو الأمر الذي جعل العدالة الاجتماعية كمطلب ومفهوم بهذه الدول –بعد سنة 2011 خاصة- ،تكتسي أهمية بالغة، سواء على الصعيد الإعلامي أو السياسي أو المؤسساتي ،بل وأصبحت موضوع نقاشات فكرية عديدة.
إلا أنه وعلى الرغم من الاهتمام المتزايد بالمفهوم ،نسجل هنا -استنادا لمجموعة من الأبحاث والدراسات – كونه لازال مفهوما متشعبا ومتعدد الأبعاد وهو الأمر الذي جعل البعض ينعته بالمفهوم المطاطي .
وقد أعطيت تعاريف كثيرة لمفهوم العدالة الاجتماعية ،لكن تبقى هذه التعريفات مستندة على المرجعية الفكرية والإيديولوجية والعلمية التي ينطلق من خلالها المفكر أو الباحث.
وعليه ، سأكتفي هنا في هذا المقام بإدراج التعريف الذي أعطاه الفيلسوف الأمريكي" جون رولز John Rawls "- الذي صاغ نظرية العدالة التوزيعية كفلسفة أخلاقية ونظرية سياسية- ،في كتابه الذي أسماه :"نظرية في العدالة Theory of Justice "،حيث عرفها على أنها:" تمتع كل فرد في مجتمع ما بالمساواة في الحصول على الفرص المتاحة للفئات المميزة ".
ويرى في هذا الصدد:"جون رولز "، أن الوثيقة الدستورية باعتبارها العقد السياسي والاجتماعي بين الشعب والسلطة ،يجب أن تتأسس على قيمتين :تداول السلطة وتداول الثروة كمتلازمين لا ينفصلان.
وقد اعتبر من جهة أخرى ،بأن "الحرية "من المكونات الرئيسية للعدالة الاجتماعية،فالحرية هي حق من الحقوق الأساسية للإنسان التي لا تتم العدالة الاجتماعية في غيابها، فلا عدالة اجتماعية بالمعنى الشامل إذا حرم أفراد المجتمع من الحرية، وذلك –حسب شرح بعض الباحثين - حتى ولو توفر لهم الخبز وبعض المزايا الاجتماعية. ومن هذه الزاوية فإن مفهوم "المستبد العادل"، مفهوم مضلل ينطوي على الجمع بين المتناقضات.
ومن زاوية أخرى ،وجبت الإشارة إلى أن فكرة العدالة الاجتماعية لا تنفصل عن فكرة حقوق الإنسان،فالعدالة الاجتماعية حسب الكثير من المفكرين والباحثين في العلوم الاجتماعية والسياسية ،استحقاق أساسي للإنسان نابع من جدارته كإنسان بالتمتع بمجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وهي حقوق أساسية من حقوق الإنسان وجزء لا يتجزأ منها ، وهذا ما أكد عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومجموعة من المواثيق والاتفاقات الدولية كالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والاتفاقات الخاصة بحقوق الطفل والنساء والأقليات.
وتأسيسيا على ذلك، فإن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تتطلب تدخلا ايجابيا وفاعلا من قبل الدولة، فإذا كانت الحقوق المدنية والسياسية- غالبا-، لتحقيقها لا تحتاج سوى امتناع الدولة عن القيام بفعل ما، كحظر التعذيب مثلا الذي لا يحتاج سوى امتناع الدولة عن القيام به، بينما الحق في التعليم مثلا يحتاج إلى جهود حثيثة وتضافر للموارد وتدخلا مكلفا من قبل الدولة.
وللعدالة الاجتماعية مظاهر ومرتكزات عدة، باعتبارها مرجعية معيارية لكافة القيم الإنسانية، فهي من جهة عدالة مبدأ تكافئ الفرص وعدالة في توزيع الناتج الداخلي المحلي وهي عدالة في تحمل الأعباء العامة وتحديدا المجال الضريبي وهي عدالة المساواة في الاستفادة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية الممنوحة داخل المجتمع.
وبعبارة أخرى، يمكن إجمال عناصر العدالة الاجتماعية وأبعادها المتعددة في ثمانية أبعاد(1). الأول- البعد أو العنصر الاقتصادي: المتعلق بمدى اشتراك مواطني الدولة ككل في العملية الإنتاجية والتنموية وفى الاستفادة من مخرجاتها.
وهو الأمر الذي يؤدي إلى المساواة في الفرص المجتمعية المتاحة والحقوق الاقتصادية في مجال العمل وملكية وسائل الإنتاج والحصول على الخدمات والمعلومات دون تمييز.
الثاني- البعد الاجتماعي:الذي المتعلق بإشكاليات الفقر والإقصاء والاستبعاد الاجتماعي، وما يستدعيه الأمر من سياسات عمومية لتمكين الطبقات الفقيرة من تحسين أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
الثالث - البعد البشري: ينصب على مسألة الالتزام بحقوق الإنسان وحاجاته الأساسية، ومسألة تكافؤ الفرص أمام جميع أفراد المجتمع.
الرابع- البعد المتعلق بالتقسيم الطبقي للمجتمع: ويستهدف إبراز العلاقة الوثيقة بين النظام الاقتصادي و الاجتماعي السائد وبين العدالة الاجتماعية، و يطرح هنا قضية الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي تفرز في ضوءها طبقات المجتمع، كما أن غياب أو تأثر هذه العدالة يعني وجود تفاوت طبقي وهوة بين الأغنياء والفقراء.
الخامس- البعد الجهوي : والمتعلق بالتفاوتات المجالية داخل تراب الدولة، في توزيع الموارد المالية.
السادس- البعد السياسي والمؤسسي: يرتبط بمسائل: الحريات والحقوق السياسية والمشاركة السياسية من خلال مؤسسات وطنية تساهم في صنع القرارات العامة الوطنية
السابع- البعد المتصل بالعدالة بين الأجيال: أي العدالة بين الأجيال الحاضرة والأجيال المقبلة ليس فقط في توزيع الموارد الطبيعية والصناعية وما إلى ذلك، ولكن أيضا في تحمل أعباء الدين العام.
الثامن- البعد المتعلق بالعلاقات الخارجية للدولة:وهو بعد يتعلق بنوعية العلاقات التي تنشأ بين الدولة والدول الأخرى في إطار المنتظم الدولي ، ومدى تكافؤها أو ميلها لدولة على حساب دولة أخرى ،فتحقيق العدالة الاجتماعية يقتضى التحرر من الاستغلال في الداخل، فإنه يقتضى كذلك التحرر من الاستغلال من الخارج أي التبعية بمختلف تمظهراتها السياسية والاقتصادية.
ومن ثم فإن تحقيق العدالة الاجتماعية بالمعنى الواسع يستلزم تحرير الإرادة الوطنية من قيود التبعية، وتحكيم القرار الوطني في مختلف الملفات والقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
لكن وبالرغم ما تم التطرق إليه،وجب التوضيح، بأن مبادئ وأبعاد العدالة الاجتماعية حسب :"ماريون يونغ" Marion Young ليست بالمبادئ الواضحة التي تلقى القبول العام، ذلك إن ما يعتبره البعض حقوقا لا يراه البعض الأخر كذلك، فالعدالة الاجتماعية لا تقوم على مبادئ عامة مجردة يمكن إسقاطها على ممارسات ومواقف محددة في كل المجتمعات".
وعلى ضوء ذلك فان ، العدالة الاجتماعية تبقى عملية نسبية ومفهوم مبهم متعدد الأبعاد ،أي أنها لا تعنى المساواة الكاملة أو المطلقة ،فهي خاضعة لمسألة التفاضل الاجتماعي والفروق في قدرات ومؤهلات وقابليات الأفراد داخل المجتمع الواحد،لكنها لا تعني في الوقت نفسه التفاوت بين الأفراد الذي تتدخل فيه مجموعة من الاعتبارات كـ"الأصول الاجتماعية" أو"الأصول العرقية" أو "الفروق بين الجنسين"، طبقية كانت أو متعلقة بهرم الدولة.
(1)- للتوسع أكثر يمكن الرجوع لإبراهيم العيسوي:" العدالة الاجتماعية والنماذج التنموية"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،الطبعة الأولى ،القاهرة –مصر 2014