توطئة : أعتقد اعتقادا جازما، أنّ المجال الحيوي لفعل التفلسف لا يقف عند أعتاب حدود ما ألفه النّاس و تعارف عليه المهتمين بالقضايا الفكرية، فالفلسفة باعتبارها حركة تفكر تقصد قصدا حثيثا، أبعد نقطة تتحملها قدرات الإنسان العقلية – و ما أعظمها - مراعية في ذلك مقتضيات الواقع الاجتماعي، دون إثارة فارغة، و لا ضوضاء صاخبة. و هذه الحركة التي يراهن عليها أن تكون معقولة، تتجلى بين الفينة و الأخرى، في نسج قشيب صادر غن خيال روائي أو أديب، أو في فصول مسرحية تأخذ بالألباب، أو في فيلم سينمائي يعرض مشاهد تقطع الأنفاس من روعتها و دقتها، حتى لا يكاد القائل يقول هذا هو الواقع بعينه. و حتى يكون لما نبسطه و ننشر قوة تلزم القارئ الاقتناع لما نذهب إليه و نريده نُمثل بمشهد سينمائي، يبدو لي تعليميا يطلعنا عن كثب، فنعاين هذا التداخل بين السينمائي و الأدبي و الفلسفي. المشهد من فيلم، عنوانه " الرجل الذي قتلته"[1] نرى نحن مشهدا لاستعراض عسكري، بعين رجل بترت رجلاه، يراه هو من خلال شخص مبتور الرجل، تحديدا من خلال مكان الرِجْل المبتورة. المشاهد الحذق الذي أصابته شظايا حركة التفكر، سيرى فيُدرك الجواهر الحسان.
قُلْ، أمامنا أبواب عدّة موصدة، تُطرق، فتُفتح، و أخرى مغلقة قد أُحكم غلقها، لا نراها إلاّ بدافع ملح، و فضول صبياني مشاغب، يدفعنا دفعا نحو المخاطرة صوب الفتح الذي نرجو أن يكون مُبينا، حتى و إن كان الإيمان يفتر أحيانا، فيخبو، و حينا آخر و على حين غرّة، ينبعث، انبعاث العنقاء من الرّماد، و الباب الذي نراهن على فتحه و الأمل كما يقال يحدونا، فنجد ما نرغب أن نجده، و ما نرغب هو أن نقول قولا قد ضمّ الفلسفة و الأدب، أو الأدب و الفلسفة، إن كان للترتيب أهمية أو لا؟ لن ندخل في هذه السانحة في متاهة الأولويات فالأمر لا يعنينا في هذه الآونة، و لا تسأل أرجوك لِم؟ فقد سئمت تكاليف المسوغات، و ما ينجر عنها من إطناب لا طائل منه، عزيزي القارئ.
رُكّب الموضوع الذي نقصده، كما هو مبيّن أعلاه، من مجالين، مجال الفلسفة و مجال الأدب، و أقصد بالفعل المبني للمجهول رُكِب، معنى الجمع و الضم، و من ثمة لا أصادر أو أسلم – قبل أن نتأكد على أقل تقدير – بإمكانية التلاحم بين المجالين – و إن حدث ذلك فلا فحش على الإطلاق قد حلّ و نزل- و لكن على الأقل في البدء، فإنّ المقصود بالجمع و الضم، لقاء مكاني، لا أقل و لا أكثر، في ورقة حقيقية أو افتراضية. هذا في المقام الأوّل، أمّا المقام الثاني فبحث في صدقية المسعى أو مشروعية الربط بين مجالين قد يختلفان في المنطلقات و المقاصد ، يتم بسط الموضوع بالاستناد على عملين – استناد نراه فتحا يكون بمثابة المنطلق صوب آفاق إن علمنا بداياتها، فمن المؤكد أننا نجهل نهاياتها - ، عمل المفكر عبد السلام بنعبد العالي[2]، الموسوم ب: "الأدب و الميتافيزيقا – دراسات في أعمال عبد الفتاح كيليطو[3]-" و عمل الأديب عبد الفتّاح كيليطو ، الموسوم ب: "من شرفة ابن رشد" . العمل الأول ذِكر، رؤية فلسفية لأعمال أدبية، لن تكون بعيدة عن التناول الفلسفي للمادة الأدبية، وهي من اهتمامات الكاتب عبد الفتّاح كيليطو، عمل قد أنجز باللغتين العربية و الفرنسية،و في هذا التصرّف ما يدعو إلى التوقف عنده، عمل إن كان قليل الصفحات عددا، فهذا لا يعني أنّه قليل الفائدة أو عديم القيمة، حاكى -كما أظن- المفكر عرضه، عرض كتابة المقامات عند الهمداني و الحريري، و إنْ فعل فعلا، فهو غمز منه وجهّه إلى الكاتب عبد الفتّاح كيليطو، بصفته الأديب الفيلسوف،عمل هو التئام لمواضيع ( مقامات) ستة: الأوّل اجتماع لضدين " الألفة و الغرابة". الثاني تقرير حول " المؤلف في تراثنا الثقافي". الثالث بين وهم الحضور و حقيقة الغياب بصفته أصلا في حالة تغيّر مستمر "غياب الأب". الرابع إخفاء إستراتيجية الألمعي في الإظهار "سر المعري". الخامس ملابسات اللغة " في مرآة الآخر". السّادس أنانيات "القارئ كاتبا.. و عدوا". العمل الثاني رؤية أدبية يتموقع صاحبها تموقعا فلسفيا، ليطل على مواضيع تشغله من عليّ، ما ينبغي الإشارة إليه أنّ الأستاذ قد اختار لمؤلفه و الذي كتبه بالمناسبة باللغة الفرنسية، و تُرجم من قبل مترجمه الخاص "عبد الكبير الشرقاوي" ، عنوانا، هو عنوان أيضا لآخر موضوع تطرّق إليه، أو قل لآخر مقامة،تيّمنا، و هذا بطبيعة المقال له دلالة أو دلالات، و يبدو لي أنّ إحدى هذه الدلالات،تمثيل الجزء للكلّ، أو تقديم العبارة الفلسفيّة على العبارة الأدبيّة، أو دفع بالعبارة إطلاقا، إلى مداها، عسى أن تقول القول الفصل، فتتصل جميع العبارات المتناثرة، و تجتمع على عبارة كليّة سواء. أما محتويات الكتاب فهي: أوّلا، التساؤل عن كيفية قراءة مناسبة للمقام "كيف نقرأ كليلة و دمنة؟". ثانيا، دبلوماسية القول، "الكلام إلى سلطان". ثالثا، خرق العادة " عزيف الجن". رابعا، حلم " تلك الجنة". خامسا، ما أشبه اليوم بالأمس،"برييك و الحريري". سادسا، وجه واحد و أيادي عدّة،" بارت و الرواية". سابعا، مديح للازدواجية، "لغة القارئ". تاسعا، تسويف "من شرفة ابن رشد".
يعبّر الكاتب عبد السلام بنعبد العالي ابتداء من الأسطر الأولى من مؤلفه: "الأدب و الميتافيزيقا دراسات في أعمال عبد الفتّاح كيليطو" عن حيرة لازمته حينا، حرّكها سؤال قد جاء على لسان أحد أصدقائه، عقب نشره لكتاب موسوم ب:" التراث و الهوية، دراسات في الفكر الفلسفي في المغرب" مضمونه:" ما مدى مشروعية هذا التصرّف، و بأيّ معنى يمكننا أن ندرج الحديث عن كتاب مثل الأدب و الغرابة، الذي يهتم بالأدب و المفاهيم النقدية، و كتاب مثل الكتابة و التناسخ، الذي يهتّم بمفهوم المؤلف في الثقافة العربيّة، بأيّ معنى يمكننا أن ندرج هذين المؤَلَفَين ضمن دراسات تُريد أن تتابع حياة المفاهيم الفلسفية عندنا"[4] . و قبل أن يدلي بدلوه، يشير عبد السلام بنعبد العالي، إلى أنّ تساؤل بعض أصدقائه، هو بطبيعة الحال، تساؤله هو نفسه، قبل أن يكون تساؤل الغير، كان يرى بصدده في الحالة الأولى ما كان قالبا، قد ترسّب عبر الأحقاب الزمنية الماضية، بأنّ للفلسفة مجال قد تعيّن و تحدّد في مباحث ثلاثة، عرفها و عرّفها الأوائل من الفلاسفة، و للأدب أيضا مجاله الخاص متعيّن و محدّد. و في المقام الثاني، غيّر الموقف، و إن كان الحال الأولى و المقام التالي متلازمان في الوجود، و إن اختلافا تراتبا، نتجا عن لحظتي تفكير مختلفتين في الدرجة، اللحظة الأولى تُحصي تفكيرا سطحيا، اللحظة الثانية تُحصي تفكيرا أكثر عمقاً، و من ثمة أكثر صواباً و أصدق تمثيلاً، فبيّن أنّ بين الفلسفة و الأدب وشائج كثيرة، تجعل من الراغب في وضع حدود فاصلة بينهما، كسائق الليل بعمود. و لتمكين أوثق لهذا الرأي ما علينا إلا أنّ نعود على سبيل المثال لا الحصر إلى مقدمة عبد الكبير الخطيبي[5] التي خصّ بها كتاب عبد الفتّاح كيليطو و المذكور أعلاه،" الأدب و الغرابة" و التي تحتوي على قرائن تدفع إلى القول بأنّ من مقاصد الكتاب القصد التأصيلي، و كما هو معلوم التأصيل بصفته انشغال فلسفي، و فضلا عن هذا و ربما الأهم من هذا، أنّ المؤلف محاولة لمقاربة اللغة من خلال تبيان الاختلاف بين اللغة و الكلام، و الأمر هذا، هو من صميم الفلسفة ابتداء من القرن العشرين، يقول عبد الكبير الخطيبي:"فعلا،إنّ الاختلاف بين الكلام و الكتابة يقع داخل اللغة: و هنا تكمن الازدواجية اللغوية لم يعد يعتبر بصفته وحدة في نسق إشارات تستطيع الذات le sujet( و الذات غير مقتصرة على الإنسان) أن تتحكم فيه كيفما تشاء. إن اللغة و لغة الحديث هما ذاتهما المحركان النشيطان للإنسان و لجسده و لكينونته. ليست اللغة جزءا من الإنسان، بل هي أفق استطاعته (و عجزه كذلك) في أن يعيش حياته و موته و بذلك بالتكلم عنهما مع أكثر ما يمكن من الدّقة"[6] و كما نلاحظ، القول مكثف يستضيف الفلسفي و الاجتماعي و الأدبي، متعدد الأشكال( polymorphe) و المتأمل للقول، يسمع انبعاث لأصوات، صوت سبينوزا، و صوت هيدجر، و صوت دريدا. في مقال للأستاذة سيلين هرفي[7] تلخص فلسفة اللغة عند سبينوزا إلى نقاط ثلاث:
-النقطة الأولى: لا صلة للغة بالواقع، فهي لا تشتمل على أي مضمون أنطولوجي. و عندما يتحدث سبينوزا عن الكلمات، يفعل ذلك، بمعزل عن الخطاب المرجعي و عن التعارض بين الصحة و الخطأ.
-النقطة الثانية: ترتبط الكلمات بالنوع الأول من المعرفة، أي بالمعرفة الناقصة، و من ثمة لا تمثل الكلمات أية إشارة للحقيقة، و لا تحيل إلى معقولية متماسكة، لارتباطها تكوينيا بالتخيل.
-النقطة الثالثة: لا يمكن تصور اللغة إلا في سياق الاستعمالات التاريخية و في ملابسات التلفظ، و تبعا لمعيار المنفعة.
و بناء على ما تقدم، فإنّ هذه الخصائص الثلاث للغة، تمكن من إعادة تعريف ما نعنيه بالكلمة. [8] في مقال للكاتب بيتر ماك-كورميك و في مستهل تحليله كتاب هيدجر الموسوم ب: " المسار نحو الكلام "[9] يقول عنه الكتاب الذي تناول فيه الفيلسوف موضوع اللغة بعمق أكبر مقارنة بباقي كتبه التي تناولت الموضوع، ملاحظا أنّ هيدجر يبدأ كتابه و ينهيه، بقول لنوفاليس[10] :" ما لا أحد يعرفه هو تحديدا ما يختص باللغة، و لا يقيم وزنا إلا لنفسه" ، يعتقد هيدجر أنّ القول يعيّن ما ندعوه ب " سر اللغة ". فبحسب تعبيره، فإنّ السر هذا ، يكمن في أنّ اللغة تتكلم " بمفردها و وحيدة مع نفسها ". توحي هذه العبارة بالدائرة اللسانية، يذهب كاتب المقال بأنّ هيدجر قد تبنى موقفا غير عادي إزاء مشكلة عادية، فالعبارة الهيدجرية لا تسلط الضوء على كيف ينبغي استخدام اللغة لغرض تدارس اللغة، و مع ذلك فإنّ اللغة هي بالذات التي نريد تدارسها. و عليه فالتأكيد ينصب على اللغة على الفلسفة، و بوجه مخصوص ما يدعوه هيدجر ب: خصوصية اللغة. الأهم في هذا المقام هو أنّ اقتراح هيدجر يكمن في احتواء هذه الخصوصية للحركة الدائرية. فاللغة تعاين إلا بواسطة كلام النّاس، الذي يتكلم " بمفرده و لوحده مع نفسه"؛ فكيف يمكن القول بأنّ اللغة تتكلم؟ هذه المعضلة هي نقطة انطلاق هيدجر.
قصد هيدجر أقلّ وضوحا فهو يقول :" نريد أن نختبر طابع و مدى هذه الحركة و ذلك انطلاقا من اللغة بحدّ ذاتها قاصدين التشابك" للإحاطة بموضوع اللغة يعتمد "هيدجر" على استعارات كاستعارة النسيج للدلالة على طبيعة اللغة أو ماهيتها التي يراها تمتنع عن التوصيف التّام النهائي، فكل ما قد يقال في هذا الشأن لا يتعدى على كونه تخمينات ليس إلا لا طائل من تقديم أدلة حولها، و عوض ذلك علينا اختبار الطّريق باتجاه اللغة، و بمقتضى هذا نكتشف اللغة أثناء المسير" .. و هكذا فإنّ مصطلح الطّريق يتم إدخاله دون أيّ تفسير ... يمكن أن نتمثل اللغة على أنّها متواجدة في منطقة ما، و الطّريق هو الذي يقودنا إلى هذه المنطقة، بتتبع هذه اللغة، الذي يؤدي بنا هناك أين تتواجد طبيعة اللغة و خصوصيتها. يبقى الطّريق عصيا على الفهم على أولئك الذين لم يختبروا المسير. في مستوى من مستويات القراءة للقول أعلاه،فإنّ هيدجر بذكره و بوصفه فيلسوفا، فإنّه يؤكد على أنّه إن أردنا الإطلاع على أسرار اللغة، فعلينا التخلي على أي مسعى برهاني لفهم اللغة – و هذا هو لب الكتابة الأدبية – بل ينبغي على المرء الانخراط في المسير اللغوي مختبرا بنفسه عوالم اللغة. يلاحظ كاتب المقال بيتر ماك- كورميك اعتماد هيدجر هذا الطرح لبيان مقصوده بطبيعة اللغة و الخصوصية التي تميّزها، طرح لا يخلو من غموض، فاستعارة الطّريق المستعملة من قبل الفيلسوف، لا ينبغي أن تفهم أو بالأحرى تُفسر التفسير العادي، إنما ينبغي أن تفسر التفسير الذي يحظى بشساعة، فلا وجود لطريق واحد، إنّما هناك طرق تسمح بالتفكر، و طرق أخرى لا تسمح بذلك، و علاوة على هذا، فالمقصود بالتجربة هو تجربة تفكريّة، و عندما يتساءل " هيدجر" قائلا:" هل نحن في اللغة، لغرض اختبارها و التفكر فيها باعتبارها لغة، و التي نفهم خصوصيتها باستماعنا لها" و بمقتضى القول نكتشف أنّ هناك تعارضا وازنا، بين اختبار اللغة و التفكير في اللغة كلغة في الوقت نفسه و أولوية إدراك ميزة اللغة.. أمّا القضايا الناظمة لتوجه "هيدجر" فنجملها في :
- التأمل حول ماهية اللغة لا يفضي إلى تغيير في اللغة، و لكن تغيير في علاقتنا مع اللغة.
- هذه اللغة محدّدة بشكل توافقي مع لغتنا الخاصة.
- يحضر التعبير في هذه اللغة من خلال تجربة الانتماء المتعاضد للتفكر التأملي و الشاعري.
- يستلزم التحضير مشروع القيام بالتجربة، انطلاقا من اللغة في حدّ ذاتها، من الحركة الديناميكية المتطورة أو المتنامية دائريا داخل اللغة في حدّ ذاتها.
تُمثل هذه القضايا النواة الأولى بالإضافة إلى دِلاءٍ استنتاجية هي :
- وحدها اللغة هي التي تتكلم فعلا، و تتكلم بمفردها.
- الإقبال هو المحدّد للطابع الخاص لماهية اللغة.
- في الإقبال يكمن تمظهر اللغة كعرض أو بيان
- يجعل الإقبال البيان يتكلم فيصيّره إحداثا.
- يجعل البيان الكلمة تتكلم و المنبثقة عن تكلم اللغة في حين أنّ الإنسان لا يتكلم إلا بتكرار الكلمة المسموعة في هذا التكلم.
- لا يمكن أن يعرف البيان، إنْ كنا نعني بالتعرّف تمثل الذي يتاح للتفكر.
- على الإنسان التزام الصمت بخصوص الكيفية التي ينبغي على اللغة التكلم في التكلم البشري، و أن يلتزم الصمت عن صمته الخاص.
- لا يمكن للإنسان اختلاس نظرة باتجاه ماهية اللغة إلا إن كان ذلك مناسبا قبلا من خلال ماهية اللغة.
صفوة القول و بمقتضى مقدمة و خلاصة الواردتين في مؤلف "هيدجر" المسار نحو الكلام يعدد الكاتب "بيتر ماك-كورميك" النقاط الآتية:
- توجد علاقة أساسية بين ماهية الإنسان و ماهية اللغة، لأنّ القدرة على التكلم تميّز الإنسان بوصفه إنسانا.
- تكلّم الإنسان يُمظهر تكلّم اللغة و طرب اللغة يُمظهر الكلمة باعتبارها إقبالا.
- تتوحد و تتميّز ماهية اللغة بواسطة حركة انعكاسيّة حول نفسها.
- تُحدّد ماهية اللغة بواسطة الإقبال و الذي هو قاعدة البيان.
- على الرغم من أنّ ماهية اللغة تبقى مجهولة، إلا أنّه يمكن يشار إليها مجازيا بوصفها المتواجد.
- على الرغم من أنّ ماهية اللغة لا يمكن أن تُمثل في قضايا، أي على هيئة تركيب لغوي.. فإنّه بالإمكان أنْ توصف بالتقريب.
- تدبر ماهية اللغة بمعنى تكرار طابعها الخاص، يستلزم أنّ علاقتنا باللغة يمكن أن تتغير، تغيّر يُحضر من خلال تجربة نختبرها انطلاقا من اللغة بحدّ ذاتها متعلق بانتماء متعاضد لتفكير تأملي و شاعري.
- على الرغم من انعدام القدرة على فهم اللغة، بمعنى الإحاطة في إطار قصد جمعوي، يمكن اختلاس النظر باستماعنا لتكلم اللغة.
- بولوج الإنسان في ضفائر أو حبائل اللغة يمكن أن يختبر الحركة الانعكاسية المنتشرة داخل ماهية اللغة، وبناء عليه فإنّ الإنسان يدرك المقصود من الكلمة "الطّريق"، حاملا اللغة باعتبارها لغة إلى اللغة.
المقام الذي اختاره الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي و هو يهم بالإدلاء و الإعراب، فالتكلم عن التضايف الذي قد يوجد بين الفلسفي و الأدبي، قد ألزمه، بطبيعة المقال، اختيار الفيلسوف، و من ثمة، الأسلوب، الذي يتم فيه الانتقال بتدبر و بطريقة سلسة من الفلسفي إلى الأدبي، أو العكس من الأدبي إلى الفلسفي، فوقع اختياره على فيلسوف يجسّد بكل جدارة و استحقاق على المستبصر "فريدريك نيتشه" هذا الإياب و الذهاب الذي يرقى إلى المستوى الفنّ و التبصر من الفلسفي إلى الأدبي، فعندما يعيّن الكاتب الكلمة الأولى كمنطلق و هي " يحكي" ناسبا إياها للفيلسوف "نيتشه"، إنّما يفعل ذلك، إثباتا لقرينة ابتدائية لهذا التلاقي في الاتجاهين بين الفلسفي و الأدبي و الأدبي و الفلسفي. حيث يقول الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي مترجما العبارة الأولى الذي استهل به نيتشه الجزء الخامس من مؤلفه " أفول الأصنام "، فحواها :" كيف أصبح عالم الحقيقة في النهاية حكاية "[11] ينبغي الإشارة إلى أنّ مترجما مؤلف نيتشه هذا، الأستاذين بورقية حسان و محمد الناجي، قد ترجما أو عرّبا العبارة و على وجه مخصوص كلمة حكاية الواردة في ترجمة الأستاذ عبد السلام، بكلمة أخرى و هي كلمة " خرافة " و الكلمتان تحيلان إلى معنيين غير متطابقين على الأقل، و نحن لا ندري يقينا أي المعنيين قصد الفيلسوف نيتشه ، أقصد معنى حكاية أم قصد معنى خرافة، جاء في ترجمة الأستاذين ما يفيد :" حتى نختم، كيف غدا ال " عالم الحقيقي " خرافة. تاريخ خطأ"[12] و بالعودة إلى الترجمة الفرنسيّة، فإنّ المترجم الفرنسيّ هنري ألبير على سبيل المثال، قد استخدم الكلمة الفرنسيّة fable، و التي تحيل في اللغة العربيّة إلى أكثر من معنى : أسطورة ، خرافة ، حكاية .. جاء في الترجمة الفرنسيّة: “comment le « monde- vérité » devint enfin une fable »، نُغلق قوس الإشارة. و عندما يبدأ الأستاذ و يستهل مقاله بالكلمة " يحكى " و ما تجلبه من تحولات جذرية بخصوص نظرة الإنسان إلى ما يسمى بالحقيقة، يقدّم على ذلك بإشراف نيتشوي، ليتسنى له تثبيت النتيجة و التي تعلن عن أنّ الخيال أضحى واقعا بينما استحال عالم الحقيقة حكاية تُحكى، ما يعني اضمحلال و تلاشي النظرة الوضعية للعالم. نظرة مثل هذه محاولة لتشكيل العالم التشكيل الأدبي و العمل على بسطه و نشره. و هذا ما يذهب إليه الناقد " عبد الفتّاح كيليطو " و يفصح عنه في كتابه " الأدب و الغرابة "، مستندا في ذلك على رأي المفكر الإستواني " يوري لوتمان "[13] القائل بأنّه لا يمكن بلوغ عالم الغرابة أي عالم الإبداع و الابتكار و الجدّة، إلا بتحقيق شرط قبلي هو مغادرة فضاء الألفة و الابتعاد عنه، و حتى يؤكد على صحة ما يذكره، فإنّ "كيليطو" يحيلنا على كتاب ألف ليلة و ليلة و تحديدا إلى حيثيات قصة " الحمّال " – اختيار الناقد عبد الفتّاح كيليطو نراه اختيار مناسب فالكتاب برمته دعوة إلى السفر و الهروب في جنح الليل من ثقل الواقع و كدارته، إلى آفاق مجهولة تعد بمغامرات منقطعة النظير، نقرأ في مستهل المجلد الأول :" ألف ليلة و ليلة ذات الحوادث العجيبة، و القصص المطربة الغريبة، لياليها غرام في غرام و تفصيل حبّ و عشق و هيام و حكايات و نوادر فكاهية. و لطائف و طرائف أدبية بالصور المدهشة البديعة من أبدع ما كان و مناظر أعجوبة من عجائب الزمان "[14] – فبدخول الحمّال إلى فضاء غريب، يطرأ تغيير على مستوى وجوده و تعريفه.
السؤال الأساسي المطروح من قبل الناقد" عبد الفتّاح كيليطو " في نظر الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي يتمثل في :" كيف نخرج من المألوف ؟ " " كيف نخلق عالما ينبض بالحياة و الجدّة ؟ "، يجيب عن هذا السؤال بالقول :" إذا أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب أن يُبدّل مقامه، أن يغرب، كما تفعل الشمس"[15] ، جاء هذا القول في سياق العنصر الثاني من ذات الكتاب موسوم ب : بين أرسطو و الجرجاني : الغرابة و الألفة، و المتضمن للعناصر الفرعية الآتية، أوّلا مقارنة بين البلاغة اليونانية و البلاغة العربية، ثانيا البلاغة بين الأمس و اليوم، ثالثا: الاستغراب، رابعا: خامسا: ما معنى المجاز ؟- سادسا: مجاز الشمس سابعا: ما هي مميزات الشمس و الاستعارة، ثامنا : لغة الشمس ، تاسعا: الاحتضار. يرد التجدد لزوما مع ورود الاغتراب و إشاعته في النصّ، و اعتماد أساليب البلاغة يحقق ذلك فعلا، و مع غياب الأساليب البلاغية يمكن الجزم فقدان و ضياع التجدد، التجدد المطابق للاغتراب، و عندما يتكلم الناقد عبد الفتّاح كيليطو عن هذه المسألة لا يجد بُدا من وضع مقارنة بين البلاغة العربية و البلاغة اليونانية، و اعتماد طريقة المقارنة قي البسط و الإعراب عن الموضوع، طريقة من الطرق التي يُلجأ إليه لتقديم و إبراز جانب من جوانب الموضوع و التأكيد على أهميته أو العكس، و الموضوع المثار من قبل الأستاذ هو الغرابة باعتبارها سمة جوهرية لكل أدب، و لأجل إثبات صحة التصور، أقدم الأستاذ على وضع مقارنة بين منظرين من منظري البلاغة، المنظر الفيلسوف أرسطو و المنظر الجرجاني، و ينبغي التنويه ابتداء، أنّ وجود أرسطو و إقحامه من قبل الناقد في السياق، إنّما إقحام للنموذج الذي ينبغي أن يحتذى به في نظرنا، أو بتعبير آخر، فإنّ كل ما يقال بخصوص البلاغة العربية لزاما أنْ يمر أمام عين أرسطو الفاحصة المُدققة، يستهل الأستاذ مقارنته، بإيراد وجه الاختلاف بين البلاغيتين، فإنّ كانت البلاغة اليونانية جيء بها لأجل التحكم في الخطاب و الإحاطة بقوانينه، لغرض التأثير في الجمهور و الظفر بتفكيره بطريقة أو بأخرى. نشأت الريطوريقا في تصور الأستاذ "عبد الفتّاح كيليطو" للإجابة عن السؤال : كيف يستطيع الخطيب إقناع الجمهور و انتزاع موافقته، أثناء قيامه بعرض قضية شخصية أو جماعية، حتى و إن كانت هذه القضية غير عادلة ؟ يرفق مع السؤال ملاحظة مفادها أنّ الإطار الذي يجعل من الريطوريقا تنمو و تتطور يتمثل في النظام الديمقراطي الذي عاشه المجتمع اليوناني، في حين يذكر الأستاذ " عبدالفتاح كيليطو " أنّ البلاغة العربية، و إن عرفت أطوارا نمت في ثناياها الريطوريقا و تطورت، فإنّ الجزء الكبير من الشعر و الخطب، كان المقصود منه الدعوة إلى فرقة أو مذهب، و نحن بدورنا نتساءل ألم تظهر الريطوريقا في اليونان، على أعقاب خلافات ناتجة عن صراعات اجتماعية، و بالمناسبة فإن أدونيس و عندما يتعرّض إلى الشعر العربي، في كتابه الموسوم ب:-" الثابت و المتحول" الجزء الأوّل- و الملتزم بالدفاع عن رؤى مذهبية زمن الأمويين أو زمن العباسيين، مثال ذلك الشّعر الخارجي، يراه شعرا متواضع القيمة الفنية، و إن كانت قيمته الإنسانية كبيرة، فهو يقول : " تلاحظ في القصيدة الخارجية انعدام الصنعة الفنية، فهي نوع من الحديث بين شخصين أو أكثر و هي جزء من الحياة اليومية. و هي تجسيد لفظي لقناعات نهائية. و هذا كلّه لا يحتاج إلى صناعة فنية، أضف إلى ذلك الشّعر عند الخوارج لم يكن مهنة، أو غاية لذاتها، و إنّما كان وسيلة لخدمة مذهبهم و التعبير عنه. و لعلّ في هذا ما يُفسّر كون معظم الشّعر الخارجي مقطعات يغلب عليه طابع الخطبة و الارتجال و التقرير"[16] و يُدلل على ذلك بشاعر متشيّع هو الكميت بن زيد الأسدي[17]. لا يتوقف أدونيس عند هذا الحدّ، بل يؤكد على عدم أهمية هذا النوع من الشّعر، حيث يقول :" لكن ليس للشعر المذهبي، سواء كان تعليميا أو تبشريا، أهمية من الناحية الفنية الخالصة، و إنّما ترتبط أهميته بتحويل الشّعر من مجال التعبير عن المشاعر و الانفعالات، إلى أن يعبر أيضا عن الأفكار و العقائد، بحيث أصبح الشّعر تعبيرا عقليا يستند إلى الدليل و البرهان. و إذا كانت التجربة المذهبية- التعليمية قد فتحت مجالا جديدا أمام التعبير الشعري، فإن نتاجها، بحدّ ذاته، يمكن أن يوصف بأنّه شعر مغلق، بمعنى أنّه يضعنا في إطار فكري جاهز، مسبقا"[18] ينقل الشّريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي[19] موقفا يسير في الاتجاه المضاد لما ذهب إليه أدونيس، حيث يقول : " و قد رُوي أنّ الكُميْت بن زيد الأسدي لما عرض على الفرزدق أبياتا من قصيدته التي أولها : أتَصرِمُ الحبلَ حبل البيض أم تصل – و كيف و الشّيْبُ في فَوْديك مشتعل... حسده الفرزدق، فقال له : أنت خطيب، و إنّما سلّم له الخطابة، ليخرجه عن أسلوب الشعر، لمّا أبهره من حُسن الأبيات و أفرط بها إعجابه، و لم يتمكن من دفع فضلها جملة عدل في وصفها إلى معنى الفصاحة"[20]. علاوة على هذا، فإنّ البلغاء العرب في تقدير الأستاذ "عبد الفتّاح كيليطو " ، اهتموا بقوانين تفسير الخطاب ، أي تفسير القرآن و ضبط قواعد تضمن تفسيرا متفق عليه من قبل الجميع، مع تعزيز أو تدعيم عقيدة الإعجاز و البرهنة عليها من خلال تحليل دقيق للنصوص، وفق ما رسمه الشعر العربي القديم، و عليه فإنّ النماذج المحللة في كتب البلاغة هي نماذج من القرآن و الشعر.. ثم يعود الأستاذ إلى مسألة المقارنة بين البلاغيتين و تحديدا إلى حيثياتها، فإن أردنا حقيقة المقارنة، فعليها أن تكون شاملة، فلا تقتصر على التفاصيل، و لأجل تحقيق ذلك على المرء أن يعرف مسبقا، أنّ البلاغة فن متواجد في علوم شتى كالنحو و التفسير و علم الإعجاز و المنطق و علم الكلام ، و لكي تصل المقارنة إلى درجة الموضوعية، ينبغي أن تسبقها مقارنة بين تلك العلوم . ليستوقفنا بعد ذلك بالقول:" لا يسعنا إلا أن نلاحظ على العموم، غروب الدراسات البلاغية في العالم العربي. كانت البلاغة فيما مضى علما نابضا بالحياة و إذا بها الآن لا تكاد تُحرّك أي فضول... كيف نُفسر هذا التحوّل ؟ أظن أنّ الجواب سنجده إذا وضعنا اليد على " العلم " الذي أخذ مكان البلاغة. ذلك أنّ علما ما لا يندثر إلاّ عندما يُعوضه علم آخر.." [21] بمجرد انتهاء القارئ من استيعاب قول الأستاذ و فهمه قد يتبادر إلى ذهنه السؤال مع موت البلاغة أو على أقل تقدير انكماشها و تقهقرها، أ كانت بلاغة عربية أو غربية، هل بقي متسع للغرابة في الأدب، و بانتفاء الغرابة حتما يتلاشى الأدب، و يستبدل بالعلم كما يقر بهذا الأستاذ. يبدو لي أنّ استنتاجات الأستاذ عبد الفتّاح كيليطو بخصوص الأدب بصفة عامة، الحامل للمعنى المبين البليغ، لم يقل كلمته الأخيرة و سيظل موجودا و لا يمكن لأية قوة النيل منه ، حتى و إن كانت هذه القوة تدعى علم ، و في الواقع لا صراع وجود بين الأدب و العلم، وفلا يستدعي وجود العلم اندثار الأدب، فلكليهما وظيفة خاصة في المجتمع البشري، لا العلم يلغي البلاغة و لا البلاغة تلغي العلم . أمّا بخصوص قضية أن بلاغة العربية لم تكن البلاغة المهتمة بالتحكم في الخطاب و الإحاطة بقوانينه كما يرى الأستاذ عبد الفتّاح كيليطو ، يمكن ذكر تجربة الأديب أبا الحزم القرطاجني[22] و الذي سعى إلى النظرتين، النظرة العربية و النظرة اليونانية لطبيعة البلاغة العربية، و تدعيما لما نقوله تذكر الأستاذ ليلى كواكي في مقال لها في مجلة إنسانيات : " و قد مزج حازم في كتابه بين قواعد النقد الأدبي و البلاغة عند العرب ، و قواعدهما عند اليونان، فقد عقد فصلا طويلا عن نظرية أرسطو في الشعر و البلاغة، معتمدا على تلخيص ابن سينا لكتاب أرسطو في الشعر الذي ضمنه الفن التاسع من كتابه " الشفاء " " [23] . و لن نتوقف عن القول المباح ما لم نعرّج على جيل دولوز ، الفيلسوف دافع بكل حزم و اقتدار عن الوشائج بين الفلسفة و أشكال التعبير الفني ، فعلى سبيل المثال و في مؤلفة " نقد و عيادة " و الذي هو في واقع جملة من نصوص ، البعض منها لأول مرة ينشر ، و البعض الأخر يعاد نشره مجددا، و في هذه السانحة سنكتفي بعرض أهم الأفكار المكونة للفصل الخامس و الموسوم ب :" أربع عبارات شاعرية قد تُلخص فلسفة كانط " ، العبارة الأولى هي للمسرحي البريطاني وليام شكسبير من مسرحيته المشهورة " هاملت " مفادها : " الزمن خارج مفصليه " أتى الفيلسوف بها للتدليل على أنّ النصوص الأدبية أو الفنية الإبداعية ، هي نصوص فلسفية غير تقليدية بالطبع ، ففي الكثير من الأحيان ما يشدد على تبعية الزمن للحركة في الفلسفة القديمة .. فهناك ترابية للحركات وفقا لجواريتها للأبدي ، و ذلك بمقتضى ضرورتها ، و دقتها ، و تجانسها ... و بتفسخ و اضمحلال العروة و التي تجعل من الزمن متعلقا و تابعا للحركة، مثل ذلك مثل الباب حينما تتفكك مِفصلاته الحديدية، التي تشد الباب شدا، فيتهاوى للسقوط، و هذا ما قام به كانط من انقلاب ، حيث جعل الحركة تابعة للزمن ، و من ثمة فإنّ الزمن صار لا يُرد إلى الحركة التي يقيسها ، بل العكس تماما ، إنما الحركة هي التي تُرد إلى الزمن بصفته محددا لها. و يصير بذلك الزمن واحديّ الخط، مستقيما.. متوقف من أن يكون محدودبا من قبل الإله و الذي قد جعله تابعا، متعلقا بالحركة، يتوقف من أن يكون أصليا cardinal ، بل يصير ترابيا ordinal ، ما أدى بجيل دولوز إلى وصف ما جاء به كانط، بالانقلاب، فمع الطرح الكانطي الجديد، تتغيّر مثلا هيئة المتاهة ، منتقلة من الهيئة الدائرية أو الحلزونية، إلى خط مستقيم خالص ، غريب في بساطته، عنيف و مذهل، و لإعطاء الزخم و القوة لرؤيته، يستعين بما يقوله الروائي الأرجنتيني بورجيس[24] في روايته" الموت و البوصلة "، معززا القول بملاحظة من قبل الشاعر الألماني " هولدرين " المتعلقة بأوديب الماضي مستسلما نحو حتفه و قد سلك طريقا ضيقا . ليعود بعد ذلك، مقرا بأن هاملت و هو يقوم بما يقوم به إنما يفعل ذلك بداعي تحرير الزمن بصفة نهائية. فهو الذي أقدم على فعل الانقلاب حقيقة، لأن حركته ما هي في الواقع إلا تتالي أو تعاقب للحتمية. و عليه فهاملت هو البطل الوحيد المحتاج للزمن لتأدية الفعل، على عكس أوديب المحتمل للزمن بصفته نتيجة للحركة الأصلية. و كتاب كانط " نقد العقل الخالص" هو كتاب هاملت ، فكانط كان في وضع تاريخي قد سمح له من إدراك ما يعنيه هذا الانقلاب، لأنّ الزمن عنده لم يعد زمنا كونيا للحركة السماوية الأصلية. و لا أيضا بالزمن الجويّ المتفرع. إنما استحال إلى زمن المدينة و حسب. [25] ليمسي الزمن، فيعرف أنّه المحدّد لتتابع أجزاء الحركة .. يستخلص دولوز من هذا التتابع للزمن وجوب أن يكون هو ذاته تتابعا لزمن آخر، و متى كنا في هذه الوضعية التتبعية إنّ صحّ اللفظ، لزم حضور اللانهائية سبيلا للحدوث أو التجلي، و عليه لا يكمن الأمر في أن يُعرف الزمن على أنّه تتابعا أو تتاليا، و لا يُعرف الفضاء على أنه تزامنا، و لا أيضا أن يعرف الدوام بالأزلية، إنّما الدوام و التتابع و التزامن أشكال أو علاقات زمن؛ أو قل شظايا الزمن. ألا يشعر القارئ أنّه في دوامة رهيبة، على الكاتب و في هذه الحالة دولوز، أن يخلصنا منها و الانفكاك عنها، و حتى نقدم على ذلك ينبغي إيجاد و البحث عن تحديدات ( تعريفات ) جديدة تفي بالغرض، و قد نجمل هذه التحديدات في قول مختصر نود أن يكون جامعا يحقق المعنى، أولا الزمن شكل أو صورة ثابتة غير قابلة للتغيّر و لا للحركة، و ما ينضوي بداخلها من أشياء، هو الذي يتحرّك و يتغيّر. شكل مثل هذا في رأي دولوز يشير إلى سرّ عميق، و هذا السر من ذا الذي يتجرأ على الاقتراب منه و السعي على الكشف عنه سوى الشّعر ورد من عوالم لا تدركه العقول، إنما تقع على فؤاد الشاعر فيترجمها كلمات فتقع على العقل و القلب، فيسحرا فلا ينبس بكلمة، و للتدليل على صحة ما يقوله دولوز يحلينا إلى التجربة الشعرية للشاعر المتفرّد لا من حيث الموضوعات المتنوعة فحسب، بل أيضا من حيث الأسلوب آرتير رامبو[26] مقيّدا عبارة شعرية، قد ذكرها الشاعر في رسالة بعث بها إلى أستاذه و صديقه أستاذ البلاغة جورج إيزابار – رسالة إلى إيزابار - : أنا أكون آخر. Je est un autre
غُوزِي مصطفى، أستاذ بجامعة تلمسان – شعبة الفلسفة – الجزائر . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
المصادر و المراجع بحسب ظهورها :
1- عبد السلام بنعبد العالي، الأدب و الميتافيزيقا – دراسات في أعمال عبد الفتّاح كيليطو -، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1 ،2009.
2- عبد الفتاح كيليطو، الأدب و الغرابة – دراسات بنيوية في الأدب العربي - ، دار توبقال للنشر، المغرب، ط3. 2006.
3- Céline Hervet, langage et pouvoir dans le traité politique de Spinoza, URL : http://philonsorbonne>. Revue.org/109 ;DOI :10.4000 /philonsorbonne
4- فريدريك نيتشه ، أفول الأصنام ، ترجمة حسان بورقية و محمد الناجي ، إفريقيا الشرق ، الطبعة الأولى ، 1996.
5- عبد الله بن المقفع ، ألف ليلة و ليلة، طبعة على نفقة سعيد علي الحضوصي و أولاده بجواز الأزهر الشريف بمصر ، 1951.
6 - أدونيس ، الثابت و المتحول – بحث في الإبداع و الإتباع عند العرب – الجزء الأوّل الأصول ، السّاقي ، ط7 ، 1993 ، بيروت ، لبنان.
7- أبو الحسن حازم القرطاجني ،الباقي عن كتاب القوافي، تقديم و تحقيق د. علي لغزيوي الطبعة الأولى سنة 1997 .
8 - ليلى كواكي ، نظام تناسب المسموعات و فاعليتها على المتلقي عند حازم القرطاجني في منهاج البلغاء و سراج الأدباء ، المجلة الجزائرية في الأنتروبولوجيا و العلوم الاجتماعية ، النسخة الالكترونية .
Gilles Deleuze, Critique et Clinique, les Editions de Minuit,1993,Paris ,France.
[1] - فيلم أمريكي – Broken Lullaby – إخراج أرنست ليبيتش سنة 1932؛ و الفيلم اقتباس من مسرحية للروائي و الشاعر الفرنسي موريس روستان.
[2] - مفكر مغربي ولد سنة 1945 بمدينة سلا، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة من مؤلفاته "الميتافيزيقا، العلم و الإيديولوجيا" و "الفلسفة السياسية عند الفارابي" و "الرمز و السّلطة" و "في الترجمة".
[3] - كاتب مغربي ولد سنة 1945،بمدينة الرباط، كتب العديد من الكتب باللغتين العربية و الفرنسية، حاصل على دكتوراه دولة من جامعة السوربون الجديدة عام 1982 حول موضوع السرد و الأنساق الثقافية في مقامات الهمداني و الحريري، من مؤلفاته " الأدب و الغرابة" و "العين و الإبرة" – دراسة في ألف ليلة و ليلة-..
4- عبد السلام بنعبد العالي، الأدب و الميتافيزيقا – دراسات في أعمال عبد الفتّاح كيليطو -، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1 ،2009،ص08. [4]
[5] - روائي و عالم اجتماع مغربي ولد سنة 1938 و توفي سنة 2009 من مؤلفاته " الذاكرة الموشومة" و "كتاب الدّم".
[6] - عبد الفتاح كيليطو، الأدب و الغرابة – دراسات بنيوية في الأدب العربي - ، دار توبقال للنشر، المغرب، ط3. 2006. ص 10.
[7] - أستاذة فلسفة بجامعة بيكاردي – جيل فارن – من مواليد 06 فبراير 1978، من مؤلفاتها " من التخيل إلى الفهم – قوة اللغة عند سبينوزا " .
[8] - Céline Hervet, langage et pouvoir dans le traité politique de Spinoza, URL : http://philonsorbonne>. Revue.org/109 ;DOI :10.4000 /philonsorbonne.109.
[9] - عنوان كتاب هيدجر تعريب المرحوم جورج طرابيشي، و العنوان الأصلي هو : Unterwegs zur Sprache أما باللغة الفرنسية فكانAcheminement vers la parole
[10] - هو جورج فيليب فريدريش فرايهار من مواليد 02 ماي 1772، توفي يوم 25 مارس شاعر و رومانسي و فيلسوف و حقوقي و عالم أرض و عالم معادن، ألماني أحد ممثلي التيار الرومانسي الأول من مؤلفاته المسودة العامة.
[11] - عبد السلام بنعبد العالي، الأدب و الميتافيزيقا، المرجع السابق، ص 12.
[12] - فريدريك نيتشه ، أفول الأصنام ، ترجمة حسان بورقية و محمد الناجي ، إفريقيا الشرق ، الطبعة الأولى ، 1996، ص 33.
[13] - ولد يوم 28 فبراير 1922 و توفي يوم 28 أكتوبر 1993 سيميائي و لغوي مختص في الأدب و في اللغات السلفية و مؤرخ ثقافة، من كتبه انفجار الثقافة.
[14] - عبد الله بن المقفع ، ألف ليلة و ليلة، طبعة على نفقة سعيد علي الحضوصي و أولاده بجواز الأزهر الشريف بمصر ، 1951 ، ص 01.
[15] - عبد الفتّاح كيليطو، الأدب و الغرابة - دراسات بنيوية في الأدب العربي ، المرجع السّابق، ص 72.
[16] - أدونيس ، الثابت و المتحول – بحث في الإبداع و الإتباع عند العرب – الجزء الأوّل الأصول ، السّاقي ، ط7 ، 1993 ، بيروت ، لبنان ، ص 314
[17] - كنيته أبو المستهل ولد في 60ه و توفي في 126ه شاعر عربي من قبيلة بني أسد، من أشهر شعراء العصر الأموي ، اشتهر بالتشيّع و له قصائد يمدح فيها الهاشميين
[18] - أدونيس ، المرجع السّابق، ص 315.
[19] - هو أبو الحسن، السيّد محمد بن الحسين بن موسى، و يُلقب بالشريف الرضي ، ولد سنة 359 ه الموافق ل 969 م و توفي سنة 406 ه الموافق 1015 م ، من مؤلفاته " نهج البلاغة " و هو كتاب جمع فيه خُطب و الحِكم القِصار و كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه لولاته.
[20] - الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي ، أمالي المرتضى غُرَر الفوائد و دُرَر القلائد ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي و شركاه ، ط1 ، مصر ، 1954 ، ص 59.
[21] - عبد الفتّاح كيليطو ، المرجع السابق ، ص 65 .
[22] -أبو الحسن حازم القرطاجني ( 608 - 684 ه ) ولد بقرطاجنة في الأندلس، و إليها ينتسب، و بها و بمرسية حيث كان يتردد ، نشأ و درس علوم عصره على جلة الشيوخ ، كما تردد على غرناطة و اشبيلية للمزيد من طلب العلم، و كان إعجابه كثيرا بشيخه أبي علي الشلوبين ( 562 - 645 ه ) الذي لمح ميل تلميذه إلى العلوم العقلية ، بعد أن برع في العلوم الشرعية و العربية و الأدبية ، فوجهه إلى النهل من العلوم الهيلينية و دراسة المنطق و الخطابة و الشعر . و بعد وفاة والده سنة 632 ه ، و سقوط مجموعة من القواعد الأندلسية في أيدي الإسبان منذ سنة 633 ه هاجر حازم إلى المغرب حيث أقام بمدينة مراكش قاعدة الموحدين ، مدة من الزمن ، في ظل الرشيد الموحدي ، ثم انتقل إلى تونس بعد وفاة ممدوحه هذا ليعيش في كنف الحفصين إلى نهاية حياته .. و أما مؤلفاته فيذكرها معاصره ابن الطواح في معرض الثناء عليه و ذكر اهتماماته الفكرية و الأدبية ، و الإشارة إلى لقائه به فيقول :" ثم لقيت الإمام الأوحد الحافظ البليغ الشاعر المجيد البياني التاريخي ، معدن الآداب ، و مكمن الأنساب ، أبا الحسن حازم بن محمد بن حازم القرطاجني " الأنصاري " كان رحمه الله إماما في علم البيان ، حافظا مخاطبات العرب ، عارفا بجواهر الكلام ، مصيبا للمعاني ، محكم النظام ، جمع القوافي للإمام الأوحد أبي عبد الله المستنصر بالله، و سمّاها : إيراد المناهل الصوافي ، تعداد ضروب العلل و القوافي و له كتاب سراج البلغاء في علم البيان ( أو منهاج البلغاء و سراج الأدباء كما يؤكد ذلك المحقق علي لغزيوي ) و له نقد على وشي الحلل للبلي و له كتاب في علم البيان ، صغير دون الأوّل ، و له شد الزيار على جحفلة الحمار ، و نقد على المقرب . و كان بليغا حافظا و له المقصورة الألفية و الروضة المولية لم يسبق إليها و له القصيدة النحوية و شعره كثير لم يكن إلاّ من الطراز الأوّل [ سبك المقال . ورقة 92ب - 93 أ ] - الباقي عن كتاب القوافي أبو الحسن حازم القرطاجني ( ت 684 ه ) تقديم و تحقيق د. علي لغزيوي الطبعة الأولى سنة 1997.
[23] - ليلى كواكي ، نظام تناسب المسموعات و فاعليتها على المتلقي عند حازم القرطاجني في منهاج البلغاء و سراج الأدباء ، المجلة الجزائرية في الأنتروبولوجيا و العلوم الاجتماعية ، النسخة الالكترونية .
[24] - خورخي لويس بورخيس و لد في 24 أوت 1899، و توفي 14 جوان 1986، كاتب و شاعر أرجنتيني. من مؤلفاته الموت و البوصلة .
[25] Gilles Deleuze, Critique et Clinique, les Editions de Minuit,1993,Paris ,France ,p 40.41 .ترجمة شخصية
[26] - و لد الشاعر سنة 1854 و توفي سنة 1891 من إبداعاته الفلك الثمل.