ما الأدب ؟ ما العلاقة التي تربط بين الأدب والبلاغة ؟ وهل كل ما يكتب يندرج ضمن يافطة الأدب ؟ أسئلة وغيرها طرحها ، نهاية الأربعينيات من القرن الماضي ، الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر في كتابه الشهير" ما الأدب ؟ "
يغدو التمييز ، حسب سارتر ، بين الأدب وغير الأدب أمرا في غاية الصعوبة ، فبالرغم من الأبحاث التي وازت الدراسات النقدية الغربية ، منتصف القرن الماضي ، تظل أعمال كل من رومان ياكوبسون و بول ريكور رائدة في هذا المجال ، حيث لامست الجرح من خلال التفكير العقلاني والوجودي في موضوع الأدب . و به يكون العبور آمنا نحو الوظيفة التي يقوم بها الأدب في الحياة .
فهل عمل الأدب يكون مقتصرا على نقل أحداثا ووقائع بإمتاع ؟ أم في وصف الظواهر فقط ؟ أم فيهما معا ؟ إن الخطاب الأدبي يجعل ، من اللغة غير المباشرة ، هدفا يسعى إليها ، وفي سمته هذا يصادف علم البلاغة والبيان ، وما هذا الأخير إلا جزء منها . فمهما حاولت الدراسات الحديثة أن تجعل حدودا فاصلة بين البلاغة والخطاب ، كي تفسح المجال لظهور علوم جديدة ما بعد البنيوية ، إلا أنها تلقى مقاومة شرسة من تداوليات البلاغة في الأدب العربي والغربي على حد سواء . فلا يمكن أن يتخلى الأدب عن بنيويته ، خصوصا وأن الخطاب التخييلي لا تقوم له قائمة من دون بلاغة تسعى جاهدة نحو تجسير الأدب بالحياة .
في كتاب " أسئلة البلاغة في النظرية والتاريخ والقراءة " للدكتور محمد العمري ، صرح فيه هذا الأخير ، بأن مفهوم البلاغة العربية ، لازال يكتنفه غموض و إبهام بالرغم من انتشاره الواسع بين النقاد والباحثين والمهتمين . فهل للبلاغة أن تظل حبيسة رفوف خاصة ، تستهلكها نصوص شعرية ونثرية فحسب ؟ أم الأجدر بها أن تصبح طقسا يوميا للحياة في مدها وجزرها؟
تستمد البلاغة مشروعيتها ، عند محمد العمري ، من تداوليات لغوية تجوب كل أصقاع العالم من شرقه إلى غربه . وبهذا فبلاغة الإمتاع ، التي تسكن الخطاب الأدبي ، يجب أن تتجاوز المجاز ، فضلا عن التعدي الذي يطال هذه العلاقة الناشئة بين الدوال ، انطلاقا من المعنيين المجازي والحقيقي . فلا يستقيم حديث ، هنا ، في ظل هيمنة مطلقة لأحد هذين المعنيين في الدوال اللغوية . فبلاغة هذه الأخيرة ـ أي الدوال اللغوية ـ عند رومان جاكبسون ، تنطلق من التمييز الممنهج بين الاستعارة و المجاز المرسل ، أو بين مبدأي التماثل والتجاور . وفي ذات المسعى ، قسم جاكبسون المدارس الأدبية إلى قسيمين اثنين : أولاهما ؛ الرمزية والرومانسية ، اللتان تجعلان من الاستعارة حجر الزاوية في تواصلاتها اللغوية وغير اللغوية .
ثانيتهما ؛ الواقعية التي لا يستقيم عودها ، ولا يشتد برعمها من دون المجاز المرسل .
إن في الاستعارة والمجاز المرسل نسقا ، يجعل من الخطاب الأدبي قابلا للتخييل ، ويبحث باستمرار عن أدبيته ، علاوة على إمتاع المتلقي عندما تترابط الدوال ، وتتكامل الصور والتشبيهات . فنظرية رومان جاكبسون توسع من وعاء الاستعارة وتلقيها ، بل ترمي بها إلى ضفاف غير لغوية . فإذا كان التخييل و الخيال الأدبي عملية معقدة تربط بين الدال والمدلول ، فضلا عن إحداث رجة ذهنية ناتجة عن تماثل بين معنيين للكلمة الواحدة ، في سياق الخطاب ، فإن هذا الوعاء الاستعاري ، حسب جاكبسون ، ينفلت من عقاله ، ويصبح أكثر تعبيرا و إمتاعا عندما تصبح الاستعارة دالة على دوال غير لغوية .
هنا ، نطرح سؤالا أساسيا وجوهريا ، ما علاقة الاستعارة بالمدارس الفنية ؟ وهل تؤمِّن الاستعارة لهذه المدارس تواصلا غير لساني ؟
تجيء ، فنون السينما والنحت والرسم والتشكيل ، بمزايا هامة . تنضاف إلى ما حققته من تقدم على مستوى التعبير عن الواقع ؛ لتعود بالنفع على إنتاج الدلالة وتداولاتها ، خصوصا إذا كانت الاستعارة تجسِّر بين الشيء وما يرمز إليه . فالترميز ، هنا ، يخترق المدارس الفنية جميعها ، بما هو حقل مناسب لنمو الاستعارات و التشبيهات . وفي هذا السياق ، تغدو الأفلام السينمائية ، مشتلا غنيا لتغيير التقاط صور ومشاهدَ ، وتقصي أبعاد النظر . فرومان جاكبسون ، في هذا المستوى ، ينظر إلى السينما من خلال سبيكة التماثل . في حين يقارب أعمال الرسم و التشكيل ، وهي أنظمة غير لسانية ، من زاوية علاقة الجزء بالكل ، أو العكس عندما يصبح الكل يحمل شفرات الجزء . و به ، كان يقول جاكبسون إن الرسم ، خصوصا مع الاتجاه التكعيبي ، يولد المعاني عن طريق التجاور لا التماثل .
وفي معنى سابق ، تتعدد الرؤى حول الطريقة التي يعالج بها رومان جاكبسون العلاقة ، التي تـُنسج بين الاستعارة والمجاز .
وإذا كان الأثر الأدبي تختفي فيه الحدود الفاصلة بين التماثل والتجاور ، فإن الرؤية الفنية التي ينطلق منها المبدع لا تعترف البتة بهذه الجدار الفاصل والمفتعل . بالموازاة مع ذلك ، فعندما يدخل المبدع غمار شطحاته الإبداعية ، يركب من خلالها ، سفينة تمخر عـُباب البحر ؛ لتهتك ستر الظلام . علاوة على ذلك ، تكون حينها اللغة الأدبية تجنح إلى الترميز والإشارة والتيه في الغموض والإبهام .
فلا مجال ، إذن ، إلى اللغة المباشرة الخالية من الانزياحات . بالمقابل حينما يتموقف الكاتب أو الشاعر من المدينة ، مثلا ، بأضوائها المعتمة وشوارعها الضيقة الملتوية ، والرياح التي تعوي في دروبها ، كما يفعل القاص الراحل أحمد أنقار في مجموعة من أعماله القصصية أو كما يحلو لعبد المعطي الحجازي أن يبدع في بعض من قصائده . بيد أن الإبداع ، في هذا المستوى ، لا يصرح بموقفه السلبي من المدينة كمدينة ، وإنما من الحضارة الإنسانية ، التي أفرزت لنا هذا النمط من التجمعات السكانية ، التي استنفرت قريحة الكاتب أو الشاعر . فالتوسل بالمدينة ، في الإبداع ، يفضي بنا إلى الحضارة الإنسانية التي تعود ، في رأي الكاتب أو الشاعر ، بالدمار والموت و الخراب ، من خلال مؤشرات مجازية و استعارية.
فتشكيل المتن الحكائي بهذه المواصفات ، يرحل بنا إلى الوظيفة التي تعتمل داخل الأدب ، ليبقى هذا الأخير لغة سحرية ، تلجأ إلى المفاضلة والتمييز بين التعابير القريبة من نبض قلب القارئ ، ومن وتين المتلقي الحصيف لهذا الخطاب الأدبي .