خلال العقد الأخير من الألفية الثانية، لاحت للنقاد المغاربة بوادر انعطافة نوعية في كتابات سردية مغربية، انتحى كتابها منتحى جنس أدبي، ينزاح عن النسق السردي، الذي عهده القارئ.
وهذا الجنس هو القصة القصيرة جدا، التي تسم ذاتها باقتصاد لفظي، وتقصر ألفاظها الناظمة لبناها الحكائية، على ما يطاوع بإيجاز محكم مراد أسلبة الواقعي دلاليا وجماليا، ويستجيب لروح العصر.
وقد أمكن لهذا الجنس القصصي المثير عند مستهل الألفية الثالثة، أن يتبوأ في المغرب منزلة مركز الجاذبية والإشعاع في الآن ذاته، إذ اقتفي الكتاب والكاتبات في كتاباته نسقا فيه من التنوع والتسارع والغزارة، ما لم يعرفه من قبل أي جنس أدبي مغربي، لهذا أمكنه في سيرورة زمنية سريعة أن يراكم كمّا وفيرا وثريا من الكتابات بالقياس إلى عمره القصير، وأن يفوق بعدد إصداراته القصصية كل التوقعات، وأن يتجاوز نظيره في المشرق العربي، الذي كان له فضل السبق في كتابته، مما جعل التجربة القصصية المغربية، تحظى بحظوة مميزة لدى الكتاب والنقاد والقراء العرب.
ولعل هذا وذاك ما كان إلا حصيلة طبَعية لعوامل موضوعية وذاتية، تضافرت إلى أن ألحقت هذا الجنس الحداثي بباقي الأجناس، وهي تتمثل في:
أولا، الثورة المعرفية الكونية، التي ترتبت عن تطور تكنولوجيا المعلومات، وانتشار الثقافة الإلكترونية في شتى بقاع المعمور، بفضل شبكة الأنترنيت التي أضحت في متناول فئة عريضة من المغاربة، خاصة بعد تخفيض تكلفتها المادية، إذ أمسى بيسر أي كاتب مغربي أن يتفاعل بفضلها مع التجارب الإبداعية العالمية، وأن ينشر ما كتبه في الحين ذاته، متيحا بدوره للكتاب والنقاد والقراء في شتى البقاع إمكانية التفاعل مع كتابته.
ثانيا، تحفز العقل البشري، في سياق صيرورة حضارية حداثية ذات وتيرة سريعة، على التناغم مع حركية سرعة العقل الإلكتروني وبرامجه المعلوماتية، مما كان له تأثيره على الجهاز العصبي الدي أصبح مكيفا مع السرعة، وقد بعث هذا السياق القاص المغربي، على طواعية في الكتابة القصصية وانسيابية في النشر، كما بعثه على التفكير في الاستثمار الأمثل للزمن المتخيل، وللدلالات المنصصة ببياضاتها، والاقتصار أثناء الكتابة على المكثف منها.
ثالثا، استحداث كتاب القصة المغربية القصيرة جدا، صفحات رقمية أو إلكترونية تستجمع كتابها، وتستتيح لتجاربهم فرص الاحتكاك بتجارب كتاب مختلف الأقطار العربية، ولعل من هاته الصفحات التي وجدت منشوراتها متابعة مكثفة، صفحة الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا التي يترأسها الناقد جميل حمداوي، وصفحة الرابطة المغربية للقصة القصيرة جدا التي تشرف عليها المبدعة نجية نميلي، وكذلك صفحة سنابل القصة القصيرة جدا، التي يتولى شأنها المبدع عبد اللطيف بولجير... وهي صفحات كثيرا ما كانت تفرغ إلى كتاباتها ببعض الاستبطان النقدي.
رابعا، تنظيم ملتقيات لتكون فرصة لتدارس محاور نقدية، وقراءة إبداعات قصصية، واقامة ورشات تنشيطية، وتمكين الحاضرين من مجاميع قصصية، ومن هاته الملتقيات، ملتقى المهرجان العربي للقصة القصيرة جدا بمدينة الناظور، الذي يديره الناقد جميل حمداوي، وملتقى الصالون الأدبي الذي عقد في مدن عدة تحت إشراف المبدع مصطفى لغتيري، وملتقى فاس للقصة القصيرة جدا الذي يترأسه القاص علي بنساعود.
خامسا، مواكبة النقاد المغاربة للقصة القصيرة جدا، وتعهدها بالمنشورات الورقية والرقمية، التي استجلت في حركيتها انزياحها عن النسق المألوف، في تشغيل بناها الحكائية، وتحبيكها، وتكثيف دلالتها، وتوسيم توسيماتها الجنسية: التركيبية، والدلالية والبلاغية، وتفضية بياضاتها، وأسلبتها الواقعي، دون أن تغفل استثارة أسئلتها التي تسن شريعتها النظرية، واستطلاع الكتاب على تجاربها في المشرق العربي.
وقد أمكن للكتابة القصصية المغربية في صيرورتها أن تراهن على الأسئلة الناظمة التالية:
أولا، سؤال الهوية أو الكينونة، أي سؤال علاقتها بذاتها، أي بمبناها ومعناها وأبعادها الجمالية، التي تندرج بها ضمن خانة جنس أدبي.
ثانيا، سؤال المتخيل القصصي والواقعي، أو سؤال أسلبة الواقعي، أي سؤال علاقتها بالأوضاع المعيشية، والظروف التاريخية.
ثالثا، سؤال التلقي، الذي تدل عليه ثلاث علاقات تقيمها مع:
أ. المتعاليات النصية.
ب. المتلقي.
ج. النقد.
فهاته الأسئلة استثارت، في سياق جدلية الكتابة و القراءة لدى المبدعين والنقاد المغاربة، أسئلة شتى مضمرة نصيا أو معلنة نقديا، وهي على التوالي:
- ما التعيين الجنسي الأنسب، الذي يمكن أن تعين به القصة القصيرة جدا، باعتبارها بنية بنى حكائية، تنتظم انتظاما ينزاح عن المتواتر السردي؟
- أمستوحاة هي من كياننا الحضاري ومرجعياته التراثية، أم من الكيان الغربي وما اقتضته الحداثة فيه من تطورات؟
- ما التوسيمات الجنسية، التي تقوم عليها منظومتها التأليفية؟
- هل المفارقة القصصية، التي يؤول إليها القاص في تحبيكه القصصي، هي التوسيم الأساس الذي تقوم عليه؟
- ألا يمكن أن تستعيض عنها بالسؤال المشرع على الأجوبة؟
- أهي تذعن لمبدأ المحايثة الجنسية، أم تنزاح عنه لتتجانس مع أجناس مغايرة، أو تستوحي في صميمها أشكالا تعبيرية مطاوعة؟
- هل اللغة الحكائية التي تتوسل بها تقريرية، تشف عن معانيها مباشرة، أم إيحائية ذات بياضات دلالية تبعث على استيحاء معنى المعنى؟
- ما السجلات اللغوية التي تعتمدها منظومة ألفاظها؟ وأي مرجعية لهاته السجلات؟
- أتـولي الاعتبار للعلاقات التفاعلية مع نصوص أخرى تشكل متعالياتها النصية؟
- أتستشعر الأبعاد الجمالية لهاته العلاقات؟
- ما استراتيجية الكتابة التي تختطها لذاتها تبعا لآنفتاحها أو انغلاقها؟
- أهي كتابة تصدر عن سؤال الذات معبرة عن كوامنها، أم تصدر عن سؤال الواقع معبرة عن واقعية محاكاتية، أو واقعية إبداعية؟
- كيف تؤسلب الواقع وتدل عليه؟
- أتدل عليه بالحقيقة، أم بالمجاز؟
- أتدل على تصور الكاتب للواقع المعيش، ام تدل على تصوره لواقع حلمي افتراضي؟
- أي أدبية تترتب عنها؟ أهي أدبية آنية مغلقة ترتد إلى ثوابتها الجنسية التي تضفي عليها صبغة نمذجية، أم أدبية زمنية مشرعة تتحرك على أجناس أدبية، وتتفاعل مع أشكال تعبيرية عدة؟
- أين يلتمس اعتمالها الجمالي؟ أفي تركيبتها اللغوية؟ أم في علاقاتها التفاعلية مع النصوص التي تشكل متعالياتها النصية؟ أم في جدلية تلقياتها التي ترتهن ببياضاتها الدلالية؟
- ما مناهج المناول النقدية التي أفلحت في تناولها؟
- ألا يفضي التنظير لها إلى تعليبها في علبة النمذجي، وبالتالي إقصاء كل تجربة حداثية؟
إن هاته الأسئلة التي استثارتها القصة المغربية القصيرة جدا هنا والآن، تبقى في سياقاتها أسئلة مشرعة على أخرى تبعا لحركيتها، وهي أسئلة تتوق إلى التأكيد على أننا إزاء ظاهرة أدبية ليست حدثا عابرا، ولا مجرد تقليعة من التقليعات، التي لا تلبث أن تفقد جاذبيتها، ولكنها حدث تاريخي، يستجيب لظرفية عالمية، توضع في سياقها الكتابات الأدبية، موضع تساؤل مستمر في سيرورة حوارية تبعث على تطورها بنسق بالغ السرعة، إلى درجة انبجاس أجناس أدبية جديدة لا عهد للآداب العالمية بها.
وما دام قاص القصة القصيرة جدا، يسعى جاهدا إلى الانخراط في العصر الرقمي، والدخول بالأدب في فضاء تكنولوجي، فإن أسئلة تدعونا بإلحاح هنا إلى طرحها، وهي:
- أليس الأقرب إليه في كنف هذا الفضاء، والألصق بهواجسه في سياق الثورة الرقمية التي يشهدها، أن يتطلع بما توفر من أجهزة إلكترونية وبرامج معلوماتية، إلى أن يفتح دائرة اللغة السردية على مجال رقمي واسع الأرجاء، حيث الإمكانات الرقمية التي تبدي النصوص التخييلية تشعبية ومتحركة، تجمع بين اللغة التداولية، واللغة المعلوماتية، والصورة، والصوت، والألوان، والأشكال الهندسية...؟
- أليست لغته القصصية المقتصدة لفظا، والموجزة تعبيرا، والمكثفة دلالة، والموحية بلاغة، التي ينسبك في أنساقها الأدب، جديرة بخوض غمار هاته التجربة، وترسيخ كتابة حركية مشرعة باحتمالاتها التعبيرية والجمالية والتأويلية على الصيرورة الواقعية.
- ألا يمكن لمسعاه الرقمي، أن ينشد في مرماه، البلوغ بالأدب مبلغ أدبية جديدة، يتم في مساقها العبور من عالم الواقع إلى عالم التخييل، اعتمادا على إجراءات رقمية تجرى على اللغة السردية التي تننزل منزلة المهيمنة؟
ولعل الناظر عن كثب إلى القصة المغربية القصيرة جدا في صيرورتها الإبداعية والنقدية، سيجد لها من الطواعية ما يؤهلها لترتاد الآفاق التي تشف عنها هاته الأسئلة، فهي جنس أدبي مرن يطاوع الكتاب أثناء الكتابة، ويطاوع القراء أثناء القراءة، ويطاوع النقاد أثناء نقده، فما على مبدعي هاته القصة المحكمة مبنى ومعنى، إلا أن يختطوا لها استراتيجية الانخراط في تجربة الأدب الرقمي، خاصة وأنها جنس أملاه عصر الثورة التكنولوجية والمعلوماتية والرقمية، التي وفرت من الوسائط ما يجعل من التجربة الإبداعية أو الفنية تجربة رقمية ذات أبعاد جمالية غير معهودة.