ارتبط المبدع العربي - منذ القدم - بالمكان ارتباطا وجدانيا ، وهذا ما تجلى ، بشكل واضح، في استهلال الشعراء القدامى معلقاتهم بالبكاء على الأطلال و التغني بالأحبة الراحلين . ربما يتبادر إلى الذهن سؤال عن أسباب الرحيل ، الهجرة ، الانتقال الجغرافي .. بيد أن كل الأجوبة لا تعنينا في شيء ، لأن لا علاقة لهذه السطور بها .. لكننا لا ننكر إسهامات أمين الريحاني وابن بطوطة وغيرهما في ما يعرف ب:(أدب الرحلات .( هذا الجنس الأدبي الذي سيشهد طفرة نوعية - بطريقة أو بأخرى- عند كتابنا العرب ، فأغنوا المكتبة العربية ب"روايات/سيرذاتية حضارية" ، أمثال : توفيق الحكيم (عصفور من الشرق) ، طه حسن (الأيام) ، يحيى حقي (قنديل أم هاشم) ، الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) ، عبدالله العروي(أوراق) ، سهيل إدريس (الحي اللاتيني) ، بهاء طاهر (بالأمس حلمت بك) ، عبدالرحمن منيف (شرق المتوسط) ، حسونة المصباحي (الآخرون) .
و بعيدا عن الأسلوب السياحي المنبهر ، جسد هؤلاء الكتاب - بصدق - ثنائية الشرق والغرب ، تلك العلاقة الجدلية بين الأنا والآخر.. وقد هاجر معظمهم إلى أوربا من أجل متابعة دراساتهم العليا ، باستثناء بطلي روايتي عبدالرحمن منيف و حسونة المصباحي ، الهاربين من القمع السياسي وجور الأنظمة الحاكمة وبطشها ، وإن كانت رواية (الآخرون) يمكن أن تصنف ضمن " أدب المنفى " ، وكذلك بطل( بالأمس حلمت بك ) الذي هاجر بحثا عن فرصة عمل أفضل .. حسب تخميننا المتواضع لأن بهاء طاهر تجاهل هذه النقطة بالذات .
المدهش في هذه النصوص السالفة الذكر أنها " تؤثث حضاريا تمازج الشرق بالغرب من خلال تمازج الأنوثة بالرجولة " بتعبير الناقد الدكتور جميل حمداوي .. لقد تطرقت إلى العلاقة الملتبسة بين الرجل الشرقي الذي يرمز إلى الفحولة ، ودفء الشرق وسحره ، المثقل بعاداته وحرمانه وتوقه إلى الحرية .. و المرأة الغربية الشبقة المعطاء ، المتحررة ، المثقفة ... دون أن تغفل معظم هذه النصوص فضح تلك النظرة الدونية للغرب إلى العرب !!
لكن معظم تلك العلاقات الغرامية انتهت بالفشل والإخفاق .. لوجود مركب نقص ، إذ لم يكن أمام العربي المثقل بخيباته وصدمته غير إثبات أناه العنترية المنكسرة بالفتوحات الجنسية ، كما جسدها أبطال ( الحي اللاتيني، موسم الهجرة إلى الشمال، الآخرون ) في المقابل نجد بهاء طاهر يجعل بطل (بالأمس حلمت بك ) يرفض عرض الآنسة "آن ماري" الجنسي وهما على حافة الفراش .. لأنه يكتب نصا عذبا ، يطفح بالقلق النفسي والتوق إلى الخلاص والصفاء الداخلي ...
" قالت لي : وذلك الكتاب ذو الغلاف المزخرف ، ماهو؟
كتاب عن الصوفية . صعب أن أشرح لك . أناس يعتقدون أن القلب هو الذي يفهم ، لا العقل . يمرنون أرواحهم لكي تصفو قلوبهم .
- مثل الرهبان .
- ليس تماما . ولكني في الواقع لا أستطيع أن أشرح . لم أقرأ كتبهم ولا أفهمها كثيرا " .
وفي مقطع آخر ، كتب بهاء :
" رجعت آن ماري ، وأغلقت باب الغرفة . وقفت بجانبي ثم قالت : فيم تفكر؟
- لو قلت لك ،ستضحكين .
- إذن أرجوك قل. أتمنى أن أضحك .
- يحزنني أن هذا الغراب على تلك الشجرة تعيس . ويحزنني أن يكره الناس في العالم كله الغراب ، مع أني لم أسمع أنه آذى إنسانا .
- تحزن للغراب ، تحزن لغادة الكاميليا؟ ألا تهتم بأمرنا نحن البشر من لحم ودم ؟
- كففت عن ذلك منذ زمن .
- أما أنا فيحزنني أن تنهزم في العالم الرقة والحساسية ، وأن ينتصر الشر. يحزنني أن تموت غادة الكاميليا لأنها أحبت وضحّت ، ولكن يحزنني أيضا أن أعلم أن في هذه الدنيا جوعى فقراء لا يجدون طعاما ومرضى فقراء لا يجدون دواء ، أو إذا وجدوا الدواء فإن الموت يخطفهم دون مسوغ . يحزنني الموت بصفة خاصة ".
ولأنه مسكون بقلق وجودي ، رفض مضاجعتها في غرفتها..
" أبعدت ذراعيها عني بقوة ، وخرج صوتي مختنقا وأنا أقول : لا ليس هذا ما أريد ، ربما تكونين جميلة. أنت بالفعل جميلة ، ولكني لم أركِ أبدا أكثر من طفلة . ثم قمتُ ، والتقطت بلوزتها الساقطة على الأرض وأعطيتها لها " .
لكن الآنسة "آن ماري " تنهي حياتها المعذبة بشكل فظيع .. " أنهت حياتها. من شرفة البيت ليلا .. في قلب الليل " . مصيرها المأساوي يذكرنا بصاحبة عينين زرقاوين أخرى هي "جانين مونترو" العاشقة ذات القلب الشفاف في رواية (الحي اللاتيني) للدكتور سهيل إدريس .. والذي يختلف بطلها عن رفاقه المنغمسين في اللهو والمجون بانطوايته ، حبه للقراءة ، وبحثه عن ملذات الجسد ومباهج الحب في آن .." وكانت هي من رهافة الأنوثة بحيث كانت تعي كيف تعالج الأخذ والعطاء ، وكيف تدفع الضجر والملل بتغليب إحدى اللذتين في الوقت المناسب " . ومثلما كانت تعي فرانسواز أن عشيقها الشرقي فؤاد لن يتزوج إلا امرأة عربية ، كانت جانين تدرك ذلك الاختلاف بينها وبين حبيبها الأسمر ، وأن اربتاطهما مستحيل .. لكن بإحساس مرهف جارح جريح ، لا سيما بعد عودته المفاجئة إلى بيروت أثناء مرض الأم .. وقبيل السفر وهما يغادران "الرالي" قالت له وهي منهارة الأعصاب ، بعد أن بالغت في الشرب : " ما يدريك يا عزيزي .. أن فتاة الأوبرا .. تلك .. ليست هي .. ضحية حب؟ ضحية رجل أحبته، ثم تركها .. ثم فقدت أملها .. في حب . ما يدرينا ، يا عزيزي .. أن ذلك الحب .. لم يكن رغيفها الذي تقتات به؟ ثم ملت الشقاء ، تعبت من البؤس .. فلم تجد .. إلا أن تخنق ضميرها . ويومذاك هانت لديها الدنيا .. والسعادة .. والحب .. والرغيف .. وهكذا .. هكذا أصبحت فتاة ضائعة .
وانفجرت جانين باكية ، وسترت وجهها بيديها ، وراحت تردد بعصبية:
- ضاعت .. هكذا .. هكذا أصبحت .. فتاة ضائعة ! " .
والمثير أن بطلة بهاء طاهر كانت تكره الرجل العربي لأنها أحبت أحد مواطنيها ، وسافر إلى الخارج بعد اتفاقهما على الزواج ، لكنه بعث إليها من هناك اعتذارا .." قالت إنه كان يمكنه ألا يعدها بالزواج ، وإنما كانت ستحبه وتبقى معه برغم ذلك " ، أما جانين فقد خانها خطيبها قبيل الزواج ، ورغم ذلك أصرت أسرتها على أن تتزوج رجلا مخادعا مثله .. فاضطرت أن تهجر قريتها ...
وبقيت جانين تراسل حبيبها وهو في بيروت .. لكن اطلاع والدته على إحدى الرسائل والتي تخبره فيها أنها حامل منه ، وتستشيره في رغبتها في التخلص من الجنين .. هذا الجنين /ثمرة علاقتهما المحرمة كانت الصفعة التي أيقظته من أحلام اليقظة ، جعلته يكتشف الحقيقة المرة .. تقاليد الشرق أقوى من أية عواطف بريئة أو أحلام وردية .. وقد رمز سهيل إدريس بشخصية الأم إلى سطوة التقاليد، الرافضة أن تدخل بيتهم /بيت الشيخ المعمم فتاة مسيحية أسلمت جسدها من قبل لخطيبها هنري ، مطرودة من أهلها .. إنه العار الذي ستطارده لعنته إلى الأبد إن انساق وراء عواطفه . ودون أن يدري كتب إليها (وكما سنلاحظ ، لأول مرة خاطبها بصديقتي ، وشتان بين الصداقة والحب: ( !
" صديقتي جانين : تلقيت رسالتك التي تبلغينني فيها أنك تنتظرين مولودا ، على ما قال لك الطبيب . وقد دهشت حقا حين فهمت أنك لم تعلني النبأ السعيد لجميع أصدقائك ، وهم ليسوا قليلين ، هؤلاء الأصدقاء ، الذين أعرف أنه كان لك مع بعضهم علاقات غير طاهرة .أما علاقتنا نحن الإثنين ، فأحسبك لا تشكين بأنها كانت بريئة . ولهذا أجدني ، وتجدينني أنت كذلك ، غير متأثر البتة بهذا النبأ ، وليس لي أن أقدم لك أية نصيحة أو إشارة . تحياتي الصادقة لك " .
لهذا السبب هوجم الدكتور سهيل إدريس ، كما كتب الدكتور جميل حمداوي في قراءته النقدية لرواية الحي اللاتيني " و هناك من حاكمها أخلاقيا مثل : عيسى الناعوري ورضوان الشهال الذين أدانا البطل و وصفاه بأنه سفيه وخسيس ارتكب عملا لا أخلاقيا بتخليه عن الفتاة التي أنجبت منه ..." !!
لهذا كان لا بد أن نتحمل صديقه فؤاد وهو يوبخه .. رغم أنه عبر عن احتقاره الخفي لأمه التي دفعته على هذا التصرف .
لقد نجت جانين من براثن الموت بعد عملية الإجهاض ، وتشردت وجاعت ، وباعت كتبها ، وتخلت عن الفندق الذي كانت تسكن فيه بعد رفض مدراء الصحف التي طرقت أبوابها تشغيلها ، لأنها بلا شهادة .. وبحثت عن مسكن أرخص ، سكنت في غرفة خدم ، والتحقت بقافلة الفتيات الوجوديات المنحلات .. في كهف سان جرمان، حيث قابلها .. كان الإجهاد باديا على عينيها ، ومنظرها يستحق الرثاء والشفقة . وكانت متعتها الوحيدة في كتابة مذكراتها ، ولعل هذا المصير المأساوي لجانين هو ما شدني إلى كتابة أية خربشات ، حتى لو كانت لا تصنف .. وأنا معلق بين دمعة وأخرى .. ومن العبارات التي تذبح بصدقها الشفيف : "إن في نفسي بعد موضعا لم يلحق به تلويث . ولئن كان جسدي مقسورا على أن يقتات بخبز الناس ، فإن قلبي لا يقتات إلا بحبك ".
لا أنكر أن الكتب التي تفتح لدي شهية الكتابة الأخرى نادرة جدا .. وكنت قبل أيام ، قد اعتذرت لأحد الأصدقاء الشعراء أني غير قادر على أن أكتب كلمة واحدة عن ديوانه أو أي كتاب .. أي كتاب . لكن حين انتهيت من قراءة (الحي اللاتيني) أحسست بالرغبة الغريبة في الكتابة عن أشياء كثيرة ، كنت أحتاج - منذ مدة- للتعبير عنها .. ولم أستطع أن أمررها في نصوصي .. عـــلّها تحظى بعطف " نون النسوة " ، لا سيما وأنهن يرون في كتاباتي صورة مصغرة ، نمطية ، ومكررة (ل) و(عن) الرجل العربي الأناني النذل القذر .
- مثل الرهبان .
- ليس تماما . ولكني في الواقع لا أستطيع أن أشرح . لم أقرأ كتبهم ولا أفهمها كثيرا " .
وفي مقطع آخر ، كتب بهاء :
" رجعت آن ماري ، وأغلقت باب الغرفة . وقفت بجانبي ثم قالت : فيم تفكر؟
- لو قلت لك ،ستضحكين .
- إذن أرجوك قل. أتمنى أن أضحك .
- يحزنني أن هذا الغراب على تلك الشجرة تعيس . ويحزنني أن يكره الناس في العالم كله الغراب ، مع أني لم أسمع أنه آذى إنسانا .
- تحزن للغراب ، تحزن لغادة الكاميليا؟ ألا تهتم بأمرنا نحن البشر من لحم ودم ؟
- كففت عن ذلك منذ زمن .
- أما أنا فيحزنني أن تنهزم في العالم الرقة والحساسية ، وأن ينتصر الشر. يحزنني أن تموت غادة الكاميليا لأنها أحبت وضحّت ، ولكن يحزنني أيضا أن أعلم أن في هذه الدنيا جوعى فقراء لا يجدون طعاما ومرضى فقراء لا يجدون دواء ، أو إذا وجدوا الدواء فإن الموت يخطفهم دون مسوغ . يحزنني الموت بصفة خاصة ".
ولأنه مسكون بقلق وجودي ، رفض مضاجعتها في غرفتها..
" أبعدت ذراعيها عني بقوة ، وخرج صوتي مختنقا وأنا أقول : لا ليس هذا ما أريد ، ربما تكونين جميلة. أنت بالفعل جميلة ، ولكني لم أركِ أبدا أكثر من طفلة . ثم قمتُ ، والتقطت بلوزتها الساقطة على الأرض وأعطيتها لها " .
لكن الآنسة "آن ماري " تنهي حياتها المعذبة بشكل فظيع .. " أنهت حياتها. من شرفة البيت ليلا .. في قلب الليل " . مصيرها المأساوي يذكرنا بصاحبة عينين زرقاوين أخرى هي "جانين مونترو" العاشقة ذات القلب الشفاف في رواية (الحي اللاتيني) للدكتور سهيل إدريس .. والذي يختلف بطلها عن رفاقه المنغمسين في اللهو والمجون بانطوايته ، حبه للقراءة ، وبحثه عن ملذات الجسد ومباهج الحب في آن .." وكانت هي من رهافة الأنوثة بحيث كانت تعي كيف تعالج الأخذ والعطاء ، وكيف تدفع الضجر والملل بتغليب إحدى اللذتين في الوقت المناسب " . ومثلما كانت تعي فرانسواز أن عشيقها الشرقي فؤاد لن يتزوج إلا امرأة عربية ، كانت جانين تدرك ذلك الاختلاف بينها وبين حبيبها الأسمر ، وأن اربتاطهما مستحيل .. لكن بإحساس مرهف جارح جريح ، لا سيما بعد عودته المفاجئة إلى بيروت أثناء مرض الأم .. وقبيل السفر وهما يغادران "الرالي" قالت له وهي منهارة الأعصاب ، بعد أن بالغت في الشرب : " ما يدريك يا عزيزي .. أن فتاة الأوبرا .. تلك .. ليست هي .. ضحية حب؟ ضحية رجل أحبته، ثم تركها .. ثم فقدت أملها .. في حب . ما يدرينا ، يا عزيزي .. أن ذلك الحب .. لم يكن رغيفها الذي تقتات به؟ ثم ملت الشقاء ، تعبت من البؤس .. فلم تجد .. إلا أن تخنق ضميرها . ويومذاك هانت لديها الدنيا .. والسعادة .. والحب .. والرغيف .. وهكذا .. هكذا أصبحت فتاة ضائعة .
وانفجرت جانين باكية ، وسترت وجهها بيديها ، وراحت تردد بعصبية:
- ضاعت .. هكذا .. هكذا أصبحت .. فتاة ضائعة ! " .
والمثير أن بطلة بهاء طاهر كانت تكره الرجل العربي لأنها أحبت أحد مواطنيها ، وسافر إلى الخارج بعد اتفاقهما على الزواج ، لكنه بعث إليها من هناك اعتذارا .." قالت إنه كان يمكنه ألا يعدها بالزواج ، وإنما كانت ستحبه وتبقى معه برغم ذلك " ، أما جانين فقد خانها خطيبها قبيل الزواج ، ورغم ذلك أصرت أسرتها على أن تتزوج رجلا مخادعا مثله .. فاضطرت أن تهجر قريتها ...
وبقيت جانين تراسل حبيبها وهو في بيروت .. لكن اطلاع والدته على إحدى الرسائل والتي تخبره فيها أنها حامل منه ، وتستشيره في رغبتها في التخلص من الجنين .. هذا الجنين /ثمرة علاقتهما المحرمة كانت الصفعة التي أيقظته من أحلام اليقظة ، جعلته يكتشف الحقيقة المرة .. تقاليد الشرق أقوى من أية عواطف بريئة أو أحلام وردية .. وقد رمز سهيل إدريس بشخصية الأم إلى سطوة التقاليد، الرافضة أن تدخل بيتهم /بيت الشيخ المعمم فتاة مسيحية أسلمت جسدها من قبل لخطيبها هنري ، مطرودة من أهلها .. إنه العار الذي ستطارده لعنته إلى الأبد إن انساق وراء عواطفه . ودون أن يدري كتب إليها (وكما سنلاحظ ، لأول مرة خاطبها بصديقتي ، وشتان بين الصداقة والحب: ( !
" صديقتي جانين : تلقيت رسالتك التي تبلغينني فيها أنك تنتظرين مولودا ، على ما قال لك الطبيب . وقد دهشت حقا حين فهمت أنك لم تعلني النبأ السعيد لجميع أصدقائك ، وهم ليسوا قليلين ، هؤلاء الأصدقاء ، الذين أعرف أنه كان لك مع بعضهم علاقات غير طاهرة .أما علاقتنا نحن الإثنين ، فأحسبك لا تشكين بأنها كانت بريئة . ولهذا أجدني ، وتجدينني أنت كذلك ، غير متأثر البتة بهذا النبأ ، وليس لي أن أقدم لك أية نصيحة أو إشارة . تحياتي الصادقة لك " .
لهذا السبب هوجم الدكتور سهيل إدريس ، كما كتب الدكتور جميل حمداوي في قراءته النقدية لرواية الحي اللاتيني " و هناك من حاكمها أخلاقيا مثل : عيسى الناعوري ورضوان الشهال الذين أدانا البطل و وصفاه بأنه سفيه وخسيس ارتكب عملا لا أخلاقيا بتخليه عن الفتاة التي أنجبت منه ..." !!
لهذا كان لا بد أن نتحمل صديقه فؤاد وهو يوبخه .. رغم أنه عبر عن احتقاره الخفي لأمه التي دفعته على هذا التصرف .
لقد نجت جانين من براثن الموت بعد عملية الإجهاض ، وتشردت وجاعت ، وباعت كتبها ، وتخلت عن الفندق الذي كانت تسكن فيه بعد رفض مدراء الصحف التي طرقت أبوابها تشغيلها ، لأنها بلا شهادة .. وبحثت عن مسكن أرخص ، سكنت في غرفة خدم ، والتحقت بقافلة الفتيات الوجوديات المنحلات .. في كهف سان جرمان، حيث قابلها .. كان الإجهاد باديا على عينيها ، ومنظرها يستحق الرثاء والشفقة . وكانت متعتها الوحيدة في كتابة مذكراتها ، ولعل هذا المصير المأساوي لجانين هو ما شدني إلى كتابة أية خربشات ، حتى لو كانت لا تصنف .. وأنا معلق بين دمعة وأخرى .. ومن العبارات التي تذبح بصدقها الشفيف : "إن في نفسي بعد موضعا لم يلحق به تلويث . ولئن كان جسدي مقسورا على أن يقتات بخبز الناس ، فإن قلبي لا يقتات إلا بحبك ".
لا أنكر أن الكتب التي تفتح لدي شهية الكتابة الأخرى نادرة جدا .. وكنت قبل أيام ، قد اعتذرت لأحد الأصدقاء الشعراء أني غير قادر على أن أكتب كلمة واحدة عن ديوانه أو أي كتاب .. أي كتاب . لكن حين انتهيت من قراءة (الحي اللاتيني) أحسست بالرغبة الغريبة في الكتابة عن أشياء كثيرة ، كنت أحتاج - منذ مدة- للتعبير عنها .. ولم أستطع أن أمررها في نصوصي .. عـــلّها تحظى بعطف " نون النسوة " ، لا سيما وأنهن يرون في كتاباتي صورة مصغرة ، نمطية ، ومكررة (ل) و(عن) الرجل العربي الأناني النذل القذر .