
كانت المجتمعات التي لها تراث مكتوب - في لحظة من تاريخها- مجتمعات ذات تراث شفوي. ذلك أنّ البشر ‘‘تكلّموا قبل أن يكتبوا، وأفضل حجة على ذلك دراسة بدء ظهور الكتابة’’[1] وتعتبر تقنية التذكّر ‘‘طابع كوني في الثقافات الشفويّة’’[2] لأنّها تحقّق التواصل وتنقل القيم والمعايير وتؤهّل الأفراد لإتقان الممارسات الطقوسيّة ولغتها إذ نجد في كلّ مدونة شعبية حِكَما وأمثالا وأقوالا ذات ‘‘شحنة رمزيّة بنفس القدر لبلاغة العيّني’’[3] خاصة في المجتمعات ذات التّضامن العضوي القويّ حيث يكون فيها المثل ‘‘تعبيرا مكثفا لفكرة أو إحساس جماعي[4]
ويتميّزُ هذه الأمثال ب ‘‘قدرتها على التعبير الدقيق عن المجتمعات الممارسة لها، وتنبع هذه القدرة من طبيعتها التي تتميز بأداء الكثير من الوظائف الاجتماعية الهامة، وذلك انطلاقا من تشعبها، وانتشارها في جميع نواحي الحياة. وقد أدى هذا التشعب إلى اعتبارها المرآة التي تعكس المجتمع الذي توجد فيه’’[5]
ونظرا لأهميّة هذه الأمثال والتعبيرات العاميّة فإنّنا سنحاول دراسة المخزون الشفوي اللاشعوري للمجتمع وضبط خاصيات الذهنيات التي تعتبر ضروريّة في تحديد المواقف والممارسات الجماعية تجاه قضية من القضايا التي شغلت الفكر البشري منذ البدايات الأولى لوجوده وهي مسألة الموت. كما يعتبر مثل هذا التوجه في الدراسات ذو أهمية لأنه يقدم لنا جانبا من مكوّن الذهنيات الاجتماعية ويساعدنا على إكتشاف جذور الممارسات الطقوسية تجاه الموت والتي ما زال تمظّهرها إلى وقتنا الحاضر لم ينقطع. فالموت لا يعبّر عنه بما هو مكتوب فقط بل أيضا بما هو شفوي. وهذا الشفوي من مميّزاته أن المجتمع اكتسبه عبر تجاربه وتفاعلاته التاريخية مع روافد ثقافيّة ودينيّة مختلفة عرفها ومازالت -رغم الحقب التاريخيّة- تشهد عودة قويّة لأنّها تكوّن بنية مترسبة في اللاوعي الجماعي حسب عبارة Jung وتمثل عنصرا من عناصر عادات المجتمع وثقافته فهي وليدة حسّ اجتماعي مشترك. فعندما يريد المجتمع أن يعبّر عن تصوّراته للموت شفويّا فإنّه عادة ما يختزل تجربته في أمثال* عاميّة وتعبيرات اجتماعية سائدة. وانطلاقا منها ‘‘كمادة حيّة’’ يستطيع الباحث الاجتماعي تحليل الموت وفهمها كظاهرة اجتماعيّة لأنّها تحتوي على ‘‘صورة الواقع’’[6].
1) - الأمثال العاميّة التونسيّة ومشروعيّة التحليل السوسيولوجي لمضمونها:
يمكن للأمثال والتعبيرات العاميّة أن تكون ‘‘مصدرا لا يستهان به لدراسة المجتمع، شأنها في ذلك شأن فنون القول جميعا، بل قد تكون الأمثال- باعتبارها وثيقة اجتماعيّة -أقرب إلى الصدق وأدنى إلى الأصالة من غيرها في تمثيل روح المجتمع وتصوير طبيعته العامة لأنّها نابعة من الشعب ومعبرة عن آرائه وتجاربه وإتجاهاته ’’[7] ولهذا السبب رصدنا تصرّفات الناس ومواقفهم[8] وحاولنا تفكيك لغتهم الخاصة بالموت والطقوس التي ترافقها.