2002-01-25-480تقديم:
لا يمكن إدخال الثقافة الشعبية والتراث الشفاهي في إطار ثقافة الأسطورة أو الخرافة، خاصة وأن هذه الثقافة والتراث أضحيا مرتعا خصبا لكثير من العلوم الإنسانية مثل التاريخ وعلم الاجتماع والأنتربولوجيا والإكيولوجيا(1).
انصبت الكتابات التاريخية الحديثة على ما هو شائع ومشهور في مجال التاريخ المغربي معتمدة على مصادر ووثائق النفوذ المهيمنة. ولعل الاهتمام بالتراث الشفاهي ساهم  في تغطية سلبيات ونقائص وثائق المعرفة التاريخية أو قدم وجهة نظر مغايرة. بل يمنح الدارس رؤية تأويلية وتفسيرية معاكسة لمصادر التاريخ المدون وتقدم الوجه الآخر المضمر في مشاهد الماضي(2).
يعد الاعتماد على المأثورات الشفوية نبشا في نمط الحياة الشعبية من الاقتصاد والفنون، بل إنها نبش في العلاقة التي يقيمها الفرد والمجتمع وكل ما يحيط بهما.
يمكن إرجاع النصوص الشفاهية عند معاينتها وتفكيك رموزها إلى الوعي الجماعي المغربي، وهو بمثابة سجل حقيقي وواقعي لحياة الجماعات والقبائل المغربية.
عند قراءة التاريخ المغربي نجد مصادره قد تناولت ملامح البنى الاقتصادية والاجتماعية والأحداث السياسية والوطنية، ويستشف منها الظروف المعيشية التي عانتها قوى اجتماعية ضعيفة، والتفاوت الاجتماعي(3).
تحدث عبد الوهاب الفيلالي في مقاله "الملحون في المغرب قيمته الفنية وبعض آفاق اشتغاله":« الملحون تراث، والتراث أبو الحداثة، ولا تبنى الحداثة إلا بالحوار المستمر بين حاضر الإنسان وماضيه ومستقبله. وكلما استمر هذا الحوار في الوجود وتمادى في الإنتاج اتضحت نفعية هذا التراث أكثر، وبرزت نجاعة أساليب الحوار المعتمدة معه... إن القضية، إذن قضية هوية وكيان، خاصة عندما يتعلق الأمر بتراث أصيل ومتجدر مثل فن الملحون»(4).
إذ يعتبر الملحون ديوان وهوية المغاربة خاصة وأنه يجمع بين الفن والجمال وبين الثقافة والحضارة. وجاء في كتاب "المصادر العربية لتاريخ المغرب" لمحمد المنوني:« فإذاكانت التاريخية الموضوعية، إنما تهتم باتجاه محدد فإن المصادر الأخرى تفتح ـ أمام الباحثين ـ آفاقا قد تكون فسيحة في الكشف عن ألوان في التاريخ الحضاري، وأحيانا عن حياة الشعوب»(5)، ومن بين هذه المصادر التي تحدث عنها المنوني في كتابه شعر الملحون الذي اختزنته ذاكرة الحفاظ في العديد من قصائده.

de Cointetتقديم:
كانت الحسبة من الوظائف الإسلامية التي عرفتها مدن المغرب، والتي اهتمت بتنظيم السوق، والحرص على السير العادي فيه، ومراقبة الموازين والمكاييل والمقاييس، وإيقاف البيوع الفاسدة، والضرب على يد الغشاشين، إلى غير ذلك من المهام الأخرى.
يعرِّف العلماء الحسبة بأنها أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله(1)، ويمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بذلك نظاما رقابيا يتكامل مع النظام الاجتماعي والسياسي في المجتمع الإسلامي المثالي.
وجعل ابن عبدون نظام الحسبة من الوظائف الدينية التي عرفتها الأمة الإسلامية(2)، استنادا لقوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(3). غير أننا يجب أن نتعامل مع هذه الوظيفة من المنظور الاجتماعي والاقتصادي، بمعنى الكيفية التي تعاملت بها الدول لحماية المجتمعين المغربي والأندلسي من الغبن والتدليس، والحفاظ على اقتصادها. لذلك كانت وظيفة الحسبة من المهام الأساسية في نظام الدولة، بل ومن الولايات الحساسة في جهازها الإداري.
وتعد وظيفة الحسبة من الوظائف القديمة في المجتمع الإسلامي، بل إن بعض المصادر تشير إلى أن العرب قد عرفوا هذه الوظيفة في الجاهلية، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر الباعة في السوق بتوخي الأمانة وعدم الغش(4)، فقد روي عن أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا، فقال: ما هذا يا صاحب الطعام. قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني»(5)، في حين أشار أحد الباحثين إلى أن أول من وضع نظام الحسبة في البلاد الإسلامية هو الخليفة عمر بن الخطاب، الذي كان يقوم بدور المحتسب(6).

IBNBATTOUTA● مميزات رحلة ابن بطوطة:
        ليس من المُسْتبعد أن يكون رحّالة آخرون قبل ابن بطوطة زاروا نفس المناطق التي زارها، وقد تحدث بنفسه عن لِقائِه مغربيًّا بالصّين. لكن ميزتَه أنه دَوّن رحْلتَه فيما تغافل الآخرون عن تدوينها، فاكتفوا مقابل ذلك بسردها شفويا، حتى انتهت بوفاتهم ووَفاة مَن سمعوا منهم. وتتجلى مظاهرُ تفوقه على أصحابِ الرّحلات المكتوبة في:
* اتساع البقعة الجغرافية للمناطق التي زارها، فتمتد من المحيط الأطلسي غربا إلى الصيـن شرقـا، ومن بلاد التتار شمالا إلى إقليم السودان أواسط إفريقيا جنوبـا. هكذا، يكون قد زار القارات الثلاث المعروفة في وقته، إفريقيا وأوربا وآسيا.   ويكون قد اختلط بثقافات عديدة، وتَعرّف على حضاراتٍ عديدة، واطّلع على أحوالها، منها الحضارة الإسلامية في المشرق وفي المغرب معا، والحضارة الصينية، والحضارة الهندية وغيرها.
* طول المدة الزمنية التي قضاها في رحلاته، والتي تقترب من ثلاثين عاما.
* تَدَاخُل العوامل التي دفعته إلى القيام برحلته؛ فقد كان دافعه إلى الخروج بادئ ذي بدء هو "حج بيت الله الحرام"[1]. لكن، منذ أن كاشفه الشيخ المرشدي في رؤياه، حل به شوق إلى زيارة البقاع المقدسة، وزيارة ما غمض من الأراضي البعيدة. فظهرت عوامل جديدة مع تقدمه دفعته إلى الاستمرار في رحلته، منها السفارة والاستكشاف وطلب العِلم... ومع تداخل هذه العوامل، أصبحت رحلته حجية وزيارية وسفارية وعلمية واستكشافية... وتداخلت نصوص عدة في رحلته جعلتها محطة تلتقي فيها علوم عدة، منها التاريخ والجغرافيا والإثنوغرافيا والتراجم...

1805511-2459218تعد إشكالية علاقة الإنسان بالعالم من أبرز القضايا الذي خاض فيها الفكر الصوفي والمدونات الصوفية على اختلاف صنوفها، وعيا منها بذلك، أو عن غير وعي، تصريحا أو تضمينا. ونظرا لغنى هذه المدونات بأشكال العلاقات القائمة بين الإنسان الذات المفكِّرة، والمفكّر فيها، والعالم؛ أي الموضوع المتصل والمنفصل عن هذه الذات،  فقد أمكن استخلاص شكلين رئيسين لهذه العلاقة المفترضة بين هذين القطبين؛ الأولى: علاقة المعية والاتصال، والثانية:  علاقة التقابل والانفصال، فأين تتجلى ملامح هاتين العلاقتين؟

فلا غرو أن التجربة الصوفية، من حيث كونها خطابا فكريا متضمنا في مقالات، أو من حيث كونها ترجمة لتجربة إنسانية، تعبر عنها الكتابة المنقبية، تفصح عن رؤية إلى الإنسان والعالم،  عبر رؤية نسقية تجمع بين النظرة القيمية  والتصورين المعرفي والوجودي للإنسان، بدرجات متفاوتة. لهذا، فإن قراءة النصوص الصوفية المنقبية لتبيّن تصور الخطاب الصوفي للإنسان والعالم، تظل قراءة تجزيئية  قِطاعية، محصورة الآفاق، ومحدودة النتائج، إن لم تكن مصحوبة بقراءة أخرى موازية أو قبلية للمتون الصوفية النظرية. كما أن تبيّن هذا التصور من كتب التصوف بمعزل عن المدونات المنقبية التي تعْرض التصوف باعتباره حقيقة اجتماعية وواقعة ثقافية، فردية أو جماعية، يظل من جانبه يحوم حول أفكار ومفاهيم، وكأنها أنساق منغلقة على نفسها، مكتفية بذاتها.

patrimoine-belqzizeالمقدَّس نفسُه تاريخي .. والتراث كائن تاريخي صامت.

منذ بدأ انتباه المفكرين والكتاب العرب إلى تراث الإسلام الثقافي، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ التفكير في ذلك التراث، والكتابة فيه وحوله، يحتل مساحةً معتَبَرة من هواجس الوعي العربي المعاصر، ومن جغرافيا الكتابة والتأليف وأغراضهما. لم تكن إشكالية التراث قد وُلدت، في الوعي العربي، حين كان النهضويون الأُوّل (الطهطاوي، التونسي...) يوشحون مقالاتهم بأفكارٍ تنويرية من العهد الإسلامي الكلاسيكي، كشأن خير الدين وابن أبي الضياف مع كتابات ابن خلدون وأفكاره، أو حين كان محمد عبده يستعيد الجداليات الكلامية الإسلامية في رسالته عن التوحيد، ويستعيد قواعد المقاصد عند الشاطبي ليجدد الفقه، ويحرّره من قيود القياس. بل إن هذه الإشكالية لم تكن قد وُلِدت بعد حين كتب فرح أَنْطُون كتابه عن ابن رشد(1) ، وإن كان هذا أوّل نصٍّ فكريٍّ عربيّ حديث في دراسة التراث (النظري) العربي-الإسلاميّ، أو حين كتب جرجي زيدان سِفْرهُ الموسوعي عن تاريخ التمدن في الإسلام (2).  بل إن الإشكاليةَ عينَها لم تولَد حين بدأ الجيل الليبرالي-جيل طه حسين ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين-يكتب في الموضوع في حقبة ما بين الحربين.

georges-tarabichiيحار المرء في تعيين الجانب الذي يرغب في تناوله عندما يلج عالم جورج طرابيشي. تجدك أمام إنسان غاص في بحور متعددة، من التأليف في ميادين فكرية وسياسية وأدبية، وترجم من الكتب في الفلسفة وعلم النفس والأدب، بحيث تضمنت مكتبته حوالي 220 كتاباً في مختلف المجالات، بما يمكن القول إننا أمام موسوعة في رجل، ندر أن عرفتها المجتمعات العربية في تاريخها. لكن جورج طرابيشي لا يمكن تصنيفه في كونه مجرد كاتب ومترجم، فالأساس الذي ينطلق منه الرجل هو أنه مناضل – مثقف، خاض تجربة في العمل الحزبي والسياسي، وظلت هذه التجربة تدمغ تاريخه حتى اليوم. من التجربة القومية العربية في حزب البعث، إلى الإلتزام بالماركسة، إلى ولوج علم النفس والتحليل النفسي، إلى الوجودية وصولاً إلى تبني النزعة التاريخية النقدية في قراءاته الأخيرة. يعيب البعض على طرابيشي هذا الإنتقال الفكري والسياسي والعقائدي، ويعتبرها من النواقص في مسيرة الرجل الفكرية والسياسية، وهو حكم ينم عن جهل في فهم معنى هذه التحولات، وهو جهل عاجز عن التمييز بين الثابت والمتغير في مسيرة طرابيشي. ولأنّ الغوص في عالم طرابيشي كله من الصعوبة بمكان، وهو يحتاج إلى أكثر من مجلد في الدراسة والتحليل، رأيت ان اقتصر على جوانب ثلاثة : في قسم أول سأتناول مسيرة طرابيشي السياسية – الفكرية، وفي قسم ثان سأتطرق إلى طرابيشي بوصفه رائدًا من رواد الإصلاح الديني، أما القسم الأخير فيعرّج على طرابيشي السياسي.

image00312يعالج الدكتور علي الوردي في الفصل السادس من كتابه "وعّاظ السلاطين" موضوعة ( قريش ) فيعود في البداية إلى التأكيد على أن أصحاب الرسول ( السلف الصالح كما يسمّيهم المؤرخون ) كانوا بشرا مثل غيرهم من الناس تحدو بهم مصالحهم ، وتؤثر في سلوكهم العُقد النفسية والقيم الاجتماعية . فهم لم يكونوا ملائكة معصومين من الذنوب . ولكن المؤرخين هم الذين رسموا لهم الصورة المثالية . وهو يرى أن ( الصدفة ) لا غير هي التي وفّرت الفرصة للكثيرين من قريش كي يُسلموا ويُعتبروا من الصحابة ، ولو أن (أبو جهل) لم يُقتل في معركة بدر لبقي حيّاً إلى يوم الفتح فيُسلم ويصير من كبار الصحابة أو القوّاد الذين رفعوا راية الإسلام ونصروا دين الله . وينقل حديثا مهما للرسول يقول فيه :
( الناس معادن ؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام ) . ويعلّق عليه يالقول :
( ولعلّ النبي يقصد بهذا القول أن الشرير الظالم العاتي لا ينقلب تقيّاً بمجرد دخوله في الإسلام ، فهو قد يبقى ظالما عاتيا ، ولكنه يطلي ميوله الظالمة بطلاء من الصوم والصلاة ، أو من التسبيح والتكبير ) .

anfasse333في الفصل الخامس : (عبد الله بن سبأ ) ينتقل الوردي إلى معالجة موضوعة خطيرة تتعلق بشخصية ابن سبأ الخلافية والإشكالية . فبعض المؤرخين يرون أن ابن سبأ هو السبب وراء كل الشقاق والتمزق الذي حصل في الإسلام .. فهو الذي حرك أبا ذر للدعوة الاشتراكية .. وهو من ألّب الأمصار على عثمان .. وألّه عليا .. ووضع تعاليم لتهديم الإسلام .. وألّف جمعية سرية لبث تعاليمه الهدامة .. واخترع فكرة الوصية ( أي لكل نبي وصي وأن وصي النبي محمد هو ابن عمه علي بن أبي طالب). وهو الذي منع وقوع الصلح بين علي وعائشة في معركة الجمل.. وهو أول من بث فكرة الرجعة والمهدية في الإسلام.. وغيرها الكثير بحيث أصبح ابن سبأ السبب وراء كل خراب حصل في الإسلام .
 والغريب أن كل الفرق الإسلامية تتفق على وجوده وتبني على حكايته الكثير من أفكارها. والأغرب أننا لا نجد له ذكرى لدى المؤرخين سوى في رواية واحدة للطبري، كما أننا لا نعلم عنه شيئا سوى أنه يهودي من أهل اليمن أمه حبشية سوداء جاء في أيام عثمان وأعلن إسلامه ثم ذهب يبث دعوته في الأمصار ويدعو إلى الثورة على عثمان وتأليه علي. ويرى بعض الكتّاب وفي مقدمتهم طه حسين أن شخصية ابن سبأ شخصية وهمية اخترعها المخترعون لحاجة في أنفسهم ، ولو كان موجودا لسهل على ولاة عثمان مطاردته أو يكتبوا إلى عثمان عنه على الأقل . كما أن المسلمين ومنهم أبا ذر لم يكونوا بحاجة لتحريض فالوضع الاجتماعي كان محتقنا وينذر بالثورة .