«نحن مجانين إذا لم نستطع أن نفكّر ..
ومتعصّبون إذا لم نرد أن نفكّر..
وعبيد إذا لم نجرؤ أن نفكّر.. »
من مقولات أفلاطون
من اللّافت للانتباه، أنّ سعة الأفق هي من معاني إسم أفلاطون باليونانيّة ، بحيث يصحّ فيه القول أنّه اسم على مسمّى. لا سيّما وأنّ أفلاطون يشجّع في مقولته المذكورة مطلع المقال، على التفكير الذي هو رديف للأفق الواسع. ولا ريب في ذلك فأفلاطون إنّما هو تلميذ لسقراط الذي، من نافلة القول التأكيد على أنّه، يعدّ من أعظم الفلاسفة على مرّ التاريخ، إن لم يكن أعظمهم. ويمكن اعتباره - بتعبير الفكر الشيعي- سيّد شهداء الفكر الحرّ، الذين دفعوا حياتهم قربانا على مذبح حريّة الفكر في سبيل الصدح، بصوت عال وليس همسا، وبقوّة في غير ما إستكانة ولا ضعف، عن آرائهم وأفكارهم المبدعة الحرّة. تلك الأفكار المحرّرة للإنسان من عبوديّته لصنم السلطة السياسية ولأرباب سلطة المؤسّسة الدينيّة الأحاديّة الرؤية والفكر، الممارسة للإرهاب الفكري المنظّم على الفكر المختلف والمتسيّدة ، في الأغلب الأعمّ، للجهل والتجهيل وللجمود والتكلّس الفكري الخانق للإبداع. وهو ما تأباه طبيعة الحياة القائمة على الحركة والتحوّل الذي لا ينقطع بفعل الطوفان المعرفي الذي يقتصر إنتاجه -للأسف- على الدول العلمانيّة دون غيرها.
الحسبة في الحمامات الاسلامية ـ كوجة عبد الغني
مقدمة
عرفت جميع الأمم المتحضرة الحمامات واعتنت بتشييدها وزخرفتها، كما اعتنت بتسيير مجاري مياهها، وإتقان أحواضها وصهاريجها، وتزيين مجالسها. باعتبارها أماكن للنظافة والاستحمام، وقد رفع الإسلام شأن النظافة، وأعلى قدرها حتى جعل المتطهرين أحباء الله إذ قال جل جلاله :"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"[1] كما أن ظاهرة وجود الحمامات في المجتمعات الاسلامية تعبير صادق عن واقع المجتمع بالتزامه النظافة، كما تعبر أيضا عن مستواهم الحضاري باتخاذ أشكال للبناء تنجم عنها عادات وسلوكيات مرتبطة بها أشد الارتباط.
وقد تجاوزت الحمامات النظرة الضيقة التي تعتبرها مكانا للاستحمام و النظافة فقط، وهو ما يمكن أن نلمسه من خلال الأدبيات التاريخية و كتب الرحلات الجغرافية و رسائل الحسبة. وإذا كانت الدراسات التي أنجزت عن هذه المنشأة المائية قد ركزت على الجانب الفني و المعماري و الخدمات المتنوعة التي كانت تقدم للعامة عند ذهابهم إلى الحمامات، فإننا ومن خلال هذا العمل البسيط سنعطي لمحة عن جانب من الجوانب التي لا تقل أهمية عن سابقتها : وهو الجانب الديني والاجتماعي، لأن الحمامات ليست فقط بناية مكونة من قاعات يرتادها الناس من العامة حتى صارت مرفقا اجتماعيا ؛ بل هي في عمقها مسألة ثقافية، و عادات اجتماعية، و تقليد أخلاقي، ومصدر رزق للعديد من الاشخاص الذين ارتبطوا بهذه المنشأة الدخيلة على الثقافة الاسلامية، ومن خلال ما عرفته هذه الأماكن )الحمامات( عبر التاريخ من عادات و تقاليد منافية للشرع الإسلامي، وكذلك ما عرفته من مثالب و مساوئ تمثلت في كشف العورات ورفع الحياء بين عامة الناس ناهيك عن الملابسات التي تخللت بعض الحمامات كالسرقة والتي استوجبت النظر فيها و الوقوف عندها . كان من الضروري أن توكل للمحتسب أمور الإشراف عن أحوالها ورفع الضرر عن سكانها، من أجل الحفاظ على السلامة العامة وعلى القيم الأخلاقية التي تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
نحن والمستقبل وأثقال التاريخ ـ د. مخلص السبتي
يستلزم التوجه للمستقبل حسن التخلص من أثقال التاريخ وكفاءة التمكن من التحرر من أغلاله ، لكن السؤال الصعب هو كيف ؟
كانت السلفية وسيلة التحرر باعتبارها " رجوعا إلى ما كان عليه السلف الصالح قبل ظهور الخلاف " وهو هو ما دعا إليه ابن القيم وابن تيمية ثم الافغاني من بعدهم ومحمد عبده وعلال الفاسي وغيرهم ، لكنها ما لبثت أن تحولت بعدهم من مجرد استلهام المبادئ الأولى المؤسسة إلى اجترار مستمر لا ينتهي لإشكالات تاريخ قد مضى ومقتضيات أوضاع قد اختفت منذ عهود وأزمان ، فإذا السلفية اليوم هي التي تشرف على وضع القيود على العقول والهمم ، بعد أن كانت المبادرة إلى التحرير والتنوير .
في تقديري ، يتطلب التخفف من أثقال التاريخ أمرين :
I. الانطلاق من الكليات العامة :
بالرجوع إلى سورة الحشر حيث التنصيص على لفظ " شريعة " نرى الأمر بواجب الإتباع لا بمجرد التطبيق : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ) [1] ، فالشريعة هنا منهج حياة يتبع لا مجرد أحكام تطبق ، إنها استرشاد بتعاليم وأحكام كلية واضحة توجه الفكر وتقود الحركة لا مجرد أوامر تنفذ وينتهي الأمر[2]، وتؤكد سورة الشورى هذا المعنى ، فما شرعه الله لنا هو نفس ما شرعه لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [3] إنها وصايا وتعاليم صالحة لكل زمان ومكان ، ولا يمكن أن تكون كذلك إلا كانت كلية وعامة ، ومن هنا فإن ما يدرس تحت عنوان " مقاصد الشريعة " ما هو إلا أبحاث في الشريعة عينها ، فهي القبلة والمقصد ، وغيرها لها تبع ، وإليها محتكم ، وما يحتاج فعلا إلى بيان مقاصده هو الأحكام الجزئية المتناثرة في شتى مجالات الحياة ، بدء بالعبادات إلى أحكام الزواج والطلاق والبيوع والمواريث والاقتصاد ....كل حكم يظل محتاجا للشريعة يهتدي بها ، ولا يمكن أبدا فهم الأحكام الشرعية منفصلة عن مقاصدها العليا في ذات الشريعة ، سواء كانت في مجالات الدين أو الدنيا ، فالشريعة قبلة والحكم الشرعي وسيلة ، الشريعة مقصد والحكم الشرعي أداة ، وإنما ينبغي توجيه الجهود في تعميق النظر في مقاصد الأحكام ، كل الأحكام ، وكل حديث عن " مقاصد الشريعة " لا يراعي دقة هذه الضوابط يبعد عن الصواب ولا يقرب منه .
الخطاب الفقهي عند ابن رشد بين التحصيل والتأصيل ـ عبد الله معصر
1 – مراتب المتلقي في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
لعل أول ما يلفت النظر في كتاب بداية المجتهد هو تقاطب الزوج: "البداية – النهاية" والزوج: "المجتهد – المقتصد". وإذا كانت بداية المجتهد هي نهاية المقتصد فإن هذا يعني أن الخطاب سيتوجه إلى:
ـ المقتصد باعتباره فوق المقلد ودون المجتهد.
ـ والمجتهد باعتباره في أول خطوات الصناعة الفقهية وهذا المنحى سيتخلل كتاب بداية المجتهد. مما يعني أن المقلد سيكون غائبا، إذ المنهج العام للكتاب يقوم على النظر في أدلة المذاهب والمقلد ليس من هذا الشأن.
إن ابن رشد يريد بتوجيه كتابه إلى "المقتصد-والمجتهد" وإقصاء المقلد إعادة الخطاب الفقهي إلى مستوى الإبداع والنظر الصناعي الفقهي بعد أن فشا التقليد[1].
2 – مفهوم الخلاف في كتاب بداية المجتهد:
يتضح للناظر في كتاب بداية المجتهد أن الخلاف يرد على مستويين:
الأول: الاختلاف في مقابل الإجماع.
الثاني: الاختلاف في مقابل الاتفاق مما ليس فيه إجماع، وكلا المستويين قد يردان بمعنيين اثنين:
الأول – مضيق ويقصد به الخلاف بين المذاهب الإسلامية.
الثاني – موسع ويدخل فيه الخلاف بين أصحاب المذهب الواحد.
الصراع بين المعتزلة والأشاعرة 2 ـ ثابت عيد
7 ـ تطوير هجوم الأشاعرة على المعتزلة بعد وفاة الأشعري:
قد حاولنا تلخيص انفصال الأشعري عن المعتزلة، ثم قيامه بمهاجمة المعتزلة، ولعنهم، ومحاولته التقرب من الحنابلة وأهل الحديث. لم يكن لهذه النزعة الجديدة –أي محاولة التوسط بين العقلانيين ممثلين في المعتزلة، واللاعقليين ممثلين في أصحاب الحديث والحنابلة- أن تستمر، ويكتب لها الدوام، لولا ظهور شخصيات كبيرة في الأجيال التالية للأشعري، وتبنيها الأصول التي وضعها الأشعري، وتوسعها فيها، وتطويرها إياها، ودفاعها عنها. كان من أهم هذه الشخصيات أبو بكر الباقلاني (توفي سنة 403هـ) [1]، عبد القاهر البغدادي (توفي سنة 429هـ)[2]، وأبو المظفر الاسفرايني (توفي سنة 471هـ)[3]، والإمام الغزالي (توفي سنة 505هـ)[4]، والشهرستاني (توفي سنة 548هـ)[5]، وغيرهم.
وما يهمنا في هذا السياق هو ذكر بعض ما كتبه هؤلاء المفكرون الأشاعرة في هجومهم على المعتزلة، وانتصارهم للمذهب الأشعري. وقبل أن نحاول تلخيص ما ذكره هؤلاء الكتاب الخمسة، علينا أن نلاحظ أن أكثر هؤلاء الأشاعرة تطرفا في الهجوم على المعتزلة، ولعنهم، هو عبد القاهر البغدادي الذي ذكر ابن خلكان أنه كان تلميذا لأبي إسحاق الأسفرايني[6]، وكان الصاحب بن عباد (توفي سنة 385هـ/995م) قد وصف أبا إسحاق هذا بأنه "نار تحرق"، وهو وصف يدل على سرعة البديهة، وقوة الجدل، وفصاحة اللسان[7].
نحن والتراث ، بين دعوات القطيعة ونزعات التصنيم ـ د.مخلص السبتي
ما التراث ؟ :
حينما نتحدث عن التراث فإننا نتحدث عن أفكار ومناهج ، ومذاهب وتيارات ، وإشكالات وحلول ، وثوابت ومتغيرات ، نتحدث عن نجاحات وإخفاقات حدثت في الماضي القريب والبعيد .... من التراث ما يمتد تأثيره إلى اليوم وما بعد اليوم ، ومنه ما قد نسي فلم يبق لذكره أثر ، منه ما كان سببا في وجودنا وإمدادنا بعناصر القوة والاستمرارية ، ومنه ما كان سببا في تفشي مظاهر الضعف فينا والوهن.
وإذا كانت بدايات مسار التراث غائرة في الماضي ، متشعبة المصادر والروافد ، فإن نهاياته الحالية هو ما كتبناه وأنجزناه بالأمس القريب في سنتنا هذه وفي شهرنا هذا ، وما ننتجه اليوم هو تراث الغد ، ونحن وإن كنا خلف من قبلنا ، فنحن أيضا سلف من سيأتي بعدنا ، ما نحن في الأخير - شئنا أم أبينا - إلا حلقة من حلقات التراث .
التراث مستمر بنا وفينا وعن طريقنا ، وينبغي أن نقر بأنه يضم تجارب وخبرات إنسانية تشمل الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، وهو وعاء ضخم لا يكف عن التمدد والاتساع ، يتضمن خبرات اللغة والأدب ، والاجتماع والسياسة ، والفقه والفلسفة ، والعلم والنظر .... ويشمل أيضا – عند الكثير من الباحثين – الوحي ومعارفه ، ولا مشاحة في الأسماء إذا ضبطت المعاني .
بين دعوات القطيعة ونزعات التصنيم :
السوي في وقفة النفري ـ خالد بلقاسم
1- إشارة
اقترنت التجربة الروحية والكتابية عند النفري بالوقفة التي تقوم لديه على حمولة دلالية باذخة. الاقتراب من هذا البذخ واستنبات أسئلة تضيئه يتطلبان العثور على المسالك القرائية المسعفة. وهو ما يسمح به مفهوم السوي في هذه التجربة. يعد مفهوم السوي من المداخل القرائية التي تتيح الاقتراب من تجربة الوقفة كما يقدمها كتاب المواقف والمخاطبات للنفري. فالعبور إلى الوقفة لا يستقيم إلا بالانفصال عن السوي, الذي يا خد,في خطاب النفري,دلالة متشعبة تتحكم فيها محدوديته من جهة, وتعدد وجوهه من جهة أخرى. تتطلب الوقفة بوصفها لقاء مع الله, أو محاورة بين الواقف والمطلق, خروجا من السوي وحكمه, ثم إلغاء له فيما بعد. فلا وقفة ما بقي للسوي أو الغير اثر,على نحو ما يتبدى مما سمعه النفري في إحدى مناجياته مع ربه,إذ قيل له " أنت عبد السوي ما رأيت له أثرا[1]". ولكن المفارقة هي أن السوي لا حدود له. ذلك ما أخبر به النفري لما قيل له " إذا عرفتك سواي فأنت اجهل الجاهلين,والكون كله سواي[2] ". وهذا ما جعل الانفصال عن حكم السوي انفصالا عن الكون كله. وبهذا يصبح الانفصال تجربة على حافة المستحيل. للسوى امتداد وتعدد لا حد لهما. وهما يؤكدان أن الانفصال عن السوي لا ينحصر في زمن دون غيره, بل يشمل التجربة من خارج مقاييس البداية والنهاية, لأن هذا الانفصال محدد لها. الانفصال تجربة مصيرية في العبور إلى الوقفة. وتحقق العبور لا يعني نهاية الانفصال, بل انه يظل مستمرا في مراقبة لا تقبل بالسهو.
انتقادات ابن رشد على جالنيوس من خلال مؤلفه الكليات في الطب ـ د. حسن كامل إبراهيم
مما لا شك فيه أن العرب استفادوا من التراث الدخيل الذي يضم بين طياتة تراث الفرس، والهند، واليونان، إلخ. ولم يقلد العرب هذا التراث وبخاصة اليوناني منة تقليداً أعمى بل إنهم تلقوه بعين المتفحص المدقق، لذلك استخرجوا ما فيه من أخطاء ومفاسد لا تتفق مع عقيدتهم ولا مع المشاهدة والتجربة والعقل السليم، ولأجل ذلك كانت انتقاداتهم واعتراضاتهم وشكوكهم على هذا التراث. وهذا ما حدث لما ورثة العرب من تراث طبي عن اليونان، فقد خطأ غير واحد من العرب أساطين الطب اليوناني أمثال أبقراط Hippocrates (460 ؟ ـ 377 ؟ ق. م)، وجالينوس Galen (129 ـ 199؟ م)، ويبدو ذلك بوضوح في مؤلفـات كثير مـن العرب أمثـال: أبو بكـر محمد بن زكريا الرازى
( تـ 313هـ /925م)،وعلى بن العباس المجوسى ( تـ 994 م )، وأبو على محمد بن الحسن بن الهيثم (تـ432 هـ / 1047 م)،والمختار بن الحسين بن عبدون البغدادي المعرف بابن بطلان (ت 458 هـ / 1066م )، وعلى بن رضوان بن على بن جعفر المصري المعروف بابن رضوان (تـ 460 هـ)، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس المعروف بالشريف الإدريسي (تـ 560 هـ / 1165 م)، وموفق الدين أبو محمد عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن على بن أبى سعد البغدادي المعروف بعبد اللطيف البغدادي ( تـ 629 هـ / 1231 م) وعلاء الدين على بن أبى الحزم القرشي المعروف بابن النفيس (تـ 687 هـ / 1288م)، وداود بن عمر الأنطاكى (تـ 1008 هـ/1600 م)، إلخ. وفيما يلي سنذكر أمثلة على انتقادات العرب واعتراضاتهم وشكوكهم على اليونان وعلى بعضهم بعضا