شكلت عبارة الأمن القومي خيطا رفيعا في النسيج المفهومي ،للمعجم السياسي الدولي ،لذلك حظي باهتمام جميع الدول ،لاسيما الدول العظمى،وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبره :
أساس وجودها .
مصدر قوتها .
أساس قوتها .
فلسفة التشريع لسياساتها الخارجية .
لهذه الاعتبارات السيادية والسياسية ،ظلت الولايات المتحدة الأمريكية ومازالت تنظر إليه على انه المجال الحيوي الذي يمدها بالقوة،من جهة ،ويمنحها الذرائع لترسم سياساتها الخارجية ،وفق الرؤية السياسية القادرة على تحقيق مصالحها في أي منطقة من مناطق الخريطة الكونية .و نظرا لأهمية ومكانة هذا المجال الحيوي لدى الساهرين على تدبير شأن الأمن القومي،فإنهم يسخرون الطاقات البشرية الكفوءة ،القادرة على تحمل المهام بأمانة ومسؤولية ،و كذا توظيف اعتمادات مالية ضخمة لتغطية النفقات المخصصة لتنفيذ البرامج والخطط الاستراتيجية الأمنية داخل البلاد وخارجها .وذلك من خلال تجنيد شبكات أمنية متخصصة في هذا الشأن .والجدير ذكره في هذا السياق ،أن الأمن القومي في العرف الامبريالي ، أو السياسة الامبريالية،يدعم بالقوة العسكرية ،لأنها على حد تعبير احد الخبراء العسكريين الاستراتيجيين في الأمن القومي،" هي الدرع الواقي للأمن القومي ،الذي يرهب العدو ويجعله يفكر مليا قبل الإقدام على العبث بأمن البلاد..." وعلى هذا الأساس ،ظل الأمن القومي في المفهوم الأمريكي ،هو القلب النابض الذي يضخ دماء القوة في الجسم الأمريكي ،وكبرياء السيادة والهيمنة في العقلية الأمريكية ،التي اقتنعت أن أمنها القومي محفوظ ومصون،وذلك بما تملكه من قدرات ومؤهلات ،جعلا منه أسطورة ،أساسها نظرية التفوق الأمني الأمريكي ،فأضحت بذلك قبلة تولي شطرها وجوه الساسة الباحثين عن امن بلدانهم .
لكن أسطورة الأمن القومي التي عمرت حينا من الدهر في البنية الذهنية السياسية للمسؤول الأمريكي والمواطن الأمريكي ،بصفة خاصة ،والإنسان الكوني بصفة عامة ،أصابها شرخ كبير ، فتحطمت ، و تناثرت شظاياها تحت ضربة 11 شتنبر القاسية والعنيفة حققت هدفين كبيرين هما :
1-سقوط نظرية الأمن القومي .
2-الشعور بالإحباط وانكسار الكبرياء الأمريكي .
فعم على أثرهما الارتباك داخل الدوائر الحكومية المسؤولة ،الشاعرة بالخيبة والانكسار ،وتسرب الخوف إلى أفئدة المواطنين ،طاردا الاطمئنان الذي عمر فيها لعقود من الزمان ،مدركين أنهم لم يعودوا بعدما ما حدث ،في مأمن .فاهتزت بذلك ثقتهم في مسؤوليهم ،بل في دولتهم، الأقوى والاعتى في الكون.مما دفعها (الولايات المتحدة الأمريكية)وبجنون ، إلى تجنيد الرأي العام الدول، تحت عنوان مفهوم جديد،ولج القاموس السياسي،الاوهو، محاربة الارهاب.وفعلا ،أيد العالم النظرية الأمريكية الجديدة القائمة على ضرب أوكار الإرهاب و القضاء على الإرهابيين في معاقلهم ،عبر ضربات ،سميت بالاستباقية .وهو مفهوم عسكري جديد ، كما مفهوم الإرهاب .أبوهما الشرعي هو الأمن القومي ،الذي باسمه حرك الأسد الجريح كل ما يلزم لرد الاعتبار :
1- للذات الأمنية المنكسرة .
2- لكرامة المواطن الأمريكي.
3- لكبرياء الأمن القومي الجريح .
فباسم رد الاعتبار الذي حصل على الشرعية الكونية تم عبر البحار ،واحتلت الأراضي المشبوهة المتهمة .وأريقت دماء أهلها ،وانتهكت أعراض خائفيها وجرحاها ... ليشهد بذلك التاريخ الحديث ميلاد عهد جديد من الاستعمار ، تحت عنوان رئيس، جديد ،ألا وهو "الحماية الاستباقية للأمن القومي للامبريالية " الذي كان مقدمة منطقية استباقية إن صح التعبير ، على حد تصور و تنبؤ العديد من المهتمين بالدراسات الإستراتيجية السياسية ،لتنفيذ مخطط استعماري في الوطن العربي.وهو ما تأكد إبان الحرب على لبنان،و ما رافقها من تصريحات سياسية غربية ،بشرت بميلاد شرق أوسط جديد يقوم على :
رؤية سياسية جديدة .
مخطط استراتيجي جديد .
احتواء جديد .
يتبدى من خلال هذه القراءة البسيطة أن الأمن القومي في الفكر الامبريالي ،مقدس ، ينبغي حمايته لأنه يمثل :
السيادة .
الكرامة .
الهوية .
بل انه عقيدة تضمن الوجود وتحقق التفوق للجنس الآري على حد تعبير احد الخبراء الاستراتيجيين .لكن السؤال،هل استطاعت هذه العقيدة تحقيق الأهداف؟
الواقع ان هذه العقيدة القائمة على العنف والإرهاب، قد أعادت بالمفهوم العسكري الهيبة نسبيا إلى الأمن القومي السياسي ،إلا أنها أضرت في واقع الحال ،بأمن أهم واخطر، له ارتباط شديد بالمواطن ،انه الأمن القومي الاقتصادي ، فكيف ذلك ؟
إن من ابرز الانعكاسات المباشرة الناجمة عن الثأر للأمن القومي السياسي ،خارج الحدود الترابية السيادية للولايات المتحدة الأمريكية، ميلاد الأزمة الاقتصادية الخانقة التي اكتسحت البلاد .إذ دبت في مفاصل اغلب القطاعات الحيوية ،ولعل الواقع الاقتصادي ينطق بصوت مبحوح ،بما يجري داخل بنيات الدولة ،حيث كان المواطن القربان الأول الذي أكلته نيران الأزمة ، ليليه المواطن الاروبي الذي تأثر بكيفية مباشرة أو غير مباشرة بما يجري في بلاد القير والاسفلت .مما ادخل العالم في أزمة اقتصادية عالمية جراء ما رصد من أموال ضخمة أفرغت من خزائن الاقتصاد وضخت من خزائن السياسة .مما جعل المسؤولين الكبار القائمين على تدبير الشأن العالمي، سياسيا ،وماليا ،واقتصاديا ،يعيدون النظر في الاستراتيجيات المعتمدة لحماية الأمن القومي .فانطلقت الدراسات والتحاليل الإستراتيجية ،والتعاليق النقدية في كل ركن من أركان بلاد العم سام.فبدأت على أثرها نظريات جديدة تلوح في الأفق ،تمهيدا لتجاوز النظرة او النظرية الكلاسيكية القديمة التي حكمت العقلية الغربية طويلا ،والقائمة على أساس ضرورة توفير الأمن القومي السياسي لتحقيق استقرار وطمأنينة المواطن ،واستبدالها بنظرية الأمن القومي الاقتصادي ،وهذا أمر صحيح تثبته أحداث 11 شتنبر ،فلو أن الولايات المتحدة الأمريكية حققت الأمن الاقتصادي لأهل دول الجنوب. وأغلقت الأفواه الجائعة لما مس أمنها القومي ولعله الدرس الذي استوعبته أوربا باعتبارها القارة المتاخمة لدول الجنوب ، التي ارتأت واقتنعت أن أمنها القومي لا يمكن أن يتحقق إلا باستتباب الأمن الاقتصادي للدول الفقيرة .فنهجت بذلك سياسة الاقتراب من دول الجنوب ، عبر اللقاءات و الاتصالات والاجتماعات توجت بسلسلة من الإجراءات منها :
تقديم مساعدات .
منح قروض شروط تفصيلية.
تشجيع الاستثمارات .
دعم الجمعيات .
دعم المشاريع الاجتماعية والاقتصادية .
دعم قطاع التربية والتكوين .
وهي إجراءات تحتاج إلى الإرادة السياسية الصادقة .كما تحتاج أيضا إلى بذل المزيد من الجهد والتضحيات .لكن ،وفي ظل الأزمة العالمية يبدو إن الأمن القومي السياسي مهدد في ظل الأزمة الاقتصادية. هذا ما يلاحظ من خلال ما يجري في أوربا من أحداث اجتماعية وأمنية واقتصادية ،لم تكن مألوفة قبل الأزمة .لكن الشيء الأكيد ان الأمن الاقتصادي القومي أصبح اليوم قناعة راسخة لدى المسؤولين الغربيين ، أكثر من اي وقت مضى ،وضرورة واجبة الوجود، داخل الحدود ، وخارجها،كشرط أساس لتحقيق الأمن القومي السياسي .
ترى، هل سيعمل الوطن العربي ،على تغيير رؤيته لمفهوم الأمن القومي ، في ظل الحركة االتغييرية التي شهدها العالم ،لاسيما عقب الهزات العنيفة التي اجتاحت بعض المناطق من الوطن العربي ؟ وهل سيظل متمسكا بالمقاربات الأمنية للحفاظ على الأمن القومي لبلدانه؟
صحيح ،إن الأمن يضمن الاستقرار ويحافظ على الأرواح والممتلكات ، لأنه واجب أخلاقي ،وسياسي تتحمله الدولة ، لكن هذا الواجب الأخلاقي يمكن أن يتحول إلى مكروه يتهدد الأمن القومي ،وينقلب ضد مصلحته ،ولعل ما آلت إليه بعض المناطق من الوطن العربي ، سياسيا ، اليوم ، يرتبط بموضوع الحفاظ على الأمن القومي .و للإشارة، فإذا كان المواطن العربي قد قبل فيما مضى من الأزمنة و العهود بالمفهوم الكلاسيكي للأمن القومي ، القاضي بالحفاظ على امن البلاد ،واستسلم لما تشرعه الدولة من قوانين أمنية صارمة نابعة من عقلية يحركها الهوى المخزني ، فإنه اليوم ،وفي ظل المتغيرات الدولية ،والإقليمية ،وفي سياق الانفتاح على العالم الكوني ذي الثقافة المتحاورة والمتجاورة ،أدرك وبعمق أن الحفاظ على الأمن القومي لا يتم عن طريق المقاربات الأمنية المعتمدة على البوليس المدجج بالخودات الفولاذية، والهروارات الكهربائية و القنابل الحارقة ،الخانقة ، فلا هذه و لا تلك باستطاعتها أن تحافظ على امن البلاد والعباد ،ولو كان الأمر كذلك ، لنجحت الولايات المتحدة الأمريكية المعتمدة على الوسائل الأمنية الأكثر قوة ،وقدرة ،ونجاعة ،في منع ترابها ومواطنيها من كارثة 11 شتنبر التي هزت أمنها القومي، محولة إياه من أسطورة حقيقية إلى كذبة حقيقية ، لطالما صدقها الرأي الكوني ،وهو أمر لم يكن ليحدث لو حكمت العقل وسمعت لصوت الحق ،ونبذت سياسة العنف ،والغطرسة ،والاحتقار
وخاصمت فلسفة الظلم والاعتداء ،القائمة على إراقة الدم باسم الشرعية والحق والقانون ،والكف عن دعم ومآزرة الدب الأعمى :الكيان الصهيوني ،وهي كلها علل وأسباب ستجعل الولايات المتحدة دوما مهددة في أمنها ومستهدفة في مصالحها.فهل استطاعت الولايات المتحدة أن تصون أمنها القومي بمعناه الشامل داخل التراب الأمريكي وخارجه ،عن طريق القوة العسكرية والأمنية والاستخباراتية المتميزة،المتوفرة لديها ؟
ان الواقع السياسي والأمني يجيب وبدقة عن السؤال ،الشيء الذي دفع المهتمين الاستراتيجيين الى بلورة مفهوم جديد للأمن القومي الذي لم يعد بطبيعته الكلاسيكية قادرا على تحقيق الامن القومي ،مؤكدين ان الأمن القومي يتحقق بآليات جديدة تستمد شرعيتها من الاجتماعي و الاقتصادي اللذين يؤسسان لامن قومي حقيقي ،يقود المجتمع وأهله نحو الاستقرار، وهي رؤية جديدة تبناها الفكر الغربي ،وازدادت رسوخا لديه ،بعد الأحداث الأخيرة التي شهدها الوطن العربي ،اذ جعلت الغرب يدرك وبعمق ان امنه مهدد ،كلما هدد امن الاخر ، مما جعله يبادر الى الإسهام في ايجاد الحلول الكفيلة بتحقيق الاستقرار .
فما هو السبيل الأنسب اذن للوطن العربي، لتحقيق امنه القومي ،ايعتمد المقاربة الأمنية الكلاسيكية القائمة على العصا ،والخودة ، والسيارة المصفحة ، والحذاء الأسود السميك ؟ام يتعين عليه سلوك طريق عقلاني حضاري مدني دستوري قانوني ؟
ان التطور الفكري و المدني والحضاري يفرض على الدولة ان تسايره بالاليات الفكرية والقانونية و الدستورية المناسبة، له.وحتى ينتمي الوطن العربي الى معسكر الحضارة والمدنية ينبغي له ان يصل بمجتمعاته إلى الاستقرار :
الاختياري .
لا القسري .
والمقصود بالثاني ،هو ذلك الاستقرار المفروض بمنطق القوة ،المؤمن بشرعية العصا والخودة .أما الأول، وهو الأفضل، والأنبل ،على اعتبار انه نابع من إدارة المواطن المواطنة .اي، هو الذي ينتجه ويسهم في تحقيقه ،وذلك حينما تتوافر لديه الشرائط الذاتية والموضوعية الكفيلة بتحقيقه.
فماهي اذن هذه الشرائط ؟
يرى السياسيون أن هناك العديد من العوامل القادرة على تتبيت الاستقرار داخل كيان المجتمع ، وتحصين الأمن القومي للبلد ، نذكر منها :
المواطنة .
الشعور بالانتماء .
بناء الفكرالتشاركي المواطني .
الحرية .
الديمقراطية .
التمتع بالحقوق .
وهي عوامل ان هي توافرت، فإنها على حد تعبير احد السياسيين :"الجدار المنيع القوي الذي يقوي الفرد ويجعله طاقة جبارة وقوة فولاذية صعبة الاختراق تمنع البلد ومؤهلاته ،وتصونهما من الأيادي الطويلة القذرة ،لا سيما الأمن الذي يتربص به الأعداء ....." ويقول آخر :"إن الأمن القومي لبلد ما، لا يصونه أصحاب المسدسات والمدافع فحسب ،ولكن يصونه كل المواطنين المخلصين الذين تربطهم رابطة المواطنة القوية ببلدهم ،لأنها الرباط المقدس الأقوى من الرصاص ،واعتي من المدافع ور اجمات الصواريخ..." ويقول آخر :" إن الرعاية الحقيقية للآمن القومي لكل بلد عقيدة وطنية يرسخها حب الوطن ،وقناعة فكرية وطنية يؤمن بها العقل الفعال وتتشربها النفس المطمئنة الفاضلة ،ومسؤولية أخلاقية وضرورة وجودية نابعتين من صميم المواطنة الخالصة القائمة على حب الخير وإرادة البناء..."،يستشف من منطوق هذه الشواهد النصية ذوات المعاني العميقةان الأمن القومي لايصان بالمسدس والعصا ،ورائحة الرصاص ،والحذاء الأسود السميك ،بل يصان ويحفظ بما ذكر من الشرائط ،باعتبارها نسيج الأمن الحقيقي ،القادرة بحق على ترسيخه ،وأول خيوط هذا النسيج :
المواطنة : اسم مشتق من وطن ،والوطن هو الحيز الجغرافي الذي يحتضن جماعات من الناس ،يكونون :إما مواطنين : وهم الذين ينتمون إلى الوطن انتماء ثقافيا ونفسيا ووجدانيا وتاريخيا ،باعتبارها عناصر القوة الصانعة لهوية المواطن الذي تربطه ببلده قوة الجغرافيا وشرعية التاريخ.
وإما مستوطنون : وهم أولئك الذين يحتضنهم وطن ما ، عبر الإقامة القانونية ،ولاتربطهم به أواصر ثقافية ،وتاريخية فيحملون صفة المهاجرين ،المقيمين الشرعيين ،او صفة المغتصبين ،كما هو الحال بالنسبة للصهاينة الدخلاء المفروضين على الأرض وأهلها عنوة بدون سند شرعي ، قانوني ولعل الشيء الذي يناضل من اجله الصهاينة هو تربية الأجيال على المواطنة ،باعتبارها القوة المعنوية القادرة على حماية كيانهم ،لتصبح بذلك المواطنة العقيدة الأساس في التنشئة الاجتماعية لديهم ،لأنها تملك من القوة ما لا تملكه الذبابة ،حتى أن احد المسؤولين الاسرائليين قال يوما :" يتعين على دولة إسرائيل أن تبني المواطن ،وليعلم الجميع ،أن البناء الحقيقي أساسه تراب دولة إسرائيل ،أي الوطن ،وهو المفهوم الذي إذا نجحنا في غرسه في قلوب أبنائنا ،ضمنا امن إسرائيل .إذ القوة الحقيقية تكمن في الوطن والمواطنة و المواطن ،وليس في فولاذ الديانة." وقد بدت هذه العقيدة المواطنة واضحة المعالم ،و بصورة بشعة أثناء إعلان العدوان الشرس على غزة الجريحة المنهكة ،وما لحقها من دمار ،وذلك حفاظا على امن الوطن و المواطن.
إلا أن امن إسرائيل لن يتحقق لا بقوة الدبابة ولا باستراتيجيه بناء المواطنة المزيفة ،الكاذبة التي بدأ الصهاينة يدركون جيدا حقيقتها ،وذلك لأن المواطنة الصادقة الحقيقية سر يدركه الإنسان المنتمي عاطفيا، وثقافيا ،ووجدانيا إلى أرضه التي تحتضنه بالدفء والعطاء والتقدير ،ويحتضنها بالتضحية والإخلاص والبناء... اد تعمل التربية الصادقة المواطنة على غرس هذه الصفات النبيلة وغيرها من القيم الحميدة في أغوار نفسه ليستيقنها قلبه ويتشرب معينها ، حتى تصبح من الثوابت الأساس في شخصيته ،وفي وجوده .
والجدير ذكره، إن المواطنة الصادقة الحقيقية لن تزهر ولن تثمر في غياب عنصر يعد عصب وجودها،و سر قوتها ،ألا وهو :
- الشعور بالانتماء :
الواضح أن هذا المفهوم ينقسم إلى قسمين :
- قسم نفسي ذاتي ،يتجلى في الإحساس الذي يحمله الفرد حول موضوع معين ،فإن تحقق وتوفر عنصر الانتماء ،وقع الحب ووقر ،واشتد على أساسه الارتباط بذلك الموضوع ،،فيغدو بالنسبة إليه هدفا مقدسا يناضل من اجل حمايته وصيانته.
-قسم موضوعي اجتماعي : ويتعلق بالآخر ،والمقصود هنا ،القوى الفاعلة المتحكمة : السلطة ،المجتمع ، الوطن ...فيما إذا كانت تشعر الفرد بأنه :
أ- منتمي : والانتماء في هذا المقام يقوم على قاعدة التمتع بما يجب من حقوق .
ب- لا منتمي : أي خارج دائرة الاهتمام من لدن القوى الفاعلة المؤثرة المذكورة ..مما يعني عدم التوفر على الحقوق ،و هو أمر يضعف الإحساس بالانتماء ،ويربك الشعورية ،فتنفصم بذلك عرى وأواصر الروابط الاجتماعية والنفسية بين الجانبين ،فينعدم الشعور بالمواطنة ،فتصبح لفظا بدون معنى، وجسدا بلا روح ،وشعار أجوف، بلا مرجعية .أفلا ينبغي الاهتمام بعنصر الانتماء ذي البعدين النفسي والاجتماعي لما له من أهمية بالغة التأثير في بناء المواطنة الصادقة الحامية بحق للامن القومي الذي كان ولازال هاجس الوطن العربي ؟
وفي سياق هذا الحديث ينبغي استحضار ثيمة الحرية ،باعتبارها قيمة من القيم الإنسانية النبيلة ،التي كانت وستظل مطلبا ملحا من المطالب الأساس للأفراد والجماعات والأمم،وذلك لقدرتها على خلق :
1-الدينامية الفكرية : الكفيلة بتحرير الفرد فكريا من القيود ،لجعله ذاتا حرة ،ومفكرة ومتأملة ،ومبدعة ... إذ بفضلها تستمر القدرات والطاقات لخدمة الصالح العام.
2-الدينامية الاجتماعية :المتمثلة في التنافس وخلق الروح التشاركية المبنية على الرأي الحر ،وقبول الرأي الأخر ،قصد التعاون على البر الذي من شأنه خلق نسيج اجتماعي مبني على التلاحم والانسجام،المؤسسين لمجتمع التكافل والتضامن النابذ للعنف.
3-الدينامية السياسية :وتندرج ضمن الفعاليات المؤثرة على الحياة العامة للمجتمع :
- سلبا : اذا قطعت الالسن وشدت بالنسعات، وحوصرت الاراء وسادت العصبية، والشعوبية والحزبية الضيقة ،فيغلب التناحر المؤدي الى التشرذم والانقسام .وهما صفتان متلازمتان مزمنتان تعوقان العمل السياسي في الوطن العربي وتخرجه عن هدفه الحقيقي الساعي الى تدبير الشان العام .وتزج به او تجنح به نحو الهدف الضيق القاضي بحماية المآرب الشخصية .
-أو إيجابا ،وذلك حينما ينظر إلى السياسة على أنها تكليف يلزم صاحبه الدفاع عن الصالح العام .لاتشريف ، يستمد منه اللقب ،والصفة ،والحصانة ،لبناء الذات ،والاعتداء على الأخر وتدميره ،إقصاء أو تهميشا.
4- الدينامية الثقافية : و التي بدونها يكون المجتمع مظلما ،اذ بالثقافة تهتدي الأفكار وتنكشف الأوهام ،وتحارب الخرافات والأباطيل إليها يرجع الفضل في تقدم الامم والشعوب عبر التاريخ ،هي المقياس الذي به يقاس قوة الأمم ، وموقعها داخل الخريطة الثقافية الكونية. ونظرا لما تكتسيه من أهمية جليلة قيل عنها "إن الثقافة هي قوة المجتمع بها يسمو نحو الرفعة والعزة... بقوتها يقوي جانبه ويشتد ساعده.وبغيابها آو بضعفها يضعف جانبه ...انه حزام الأمان والاطمئنان ،بل الأكثر من هذا و ذاك أنها السلاح الضامن لسلامة الأمن القومي ..." .
والجدير ذكره في هذا السياق أن إيمان الأفكار بالحرية المسؤولة البناءة الساعية نحو البناء ،تقود حتما إلى الديمقراطية .لأن الأولى علة او سبب منطقي لوجود الثانية ،لأنه لايمكن لوسط ان يكون ديمقراطيا إذا ما فقدت على أديمه الحرية ،اذ لا حرية بدون ديمقراطية ،ولاديموقراطية بدون حرية ،وعلى هذا الأساس ،وقراءة للواقع الراهن ،سياسيا ،واجتماعيا،وفكريا ... يمكن أن ينظر إلى الأمن القومي عبر منظورين مختلفين وذلك على مستوى الرؤية والممارسة .
فالمنظور الغربي للأمن القومي تحكمه رؤية تقوم على الدراسة الدقيقة الخاضعة للمتغيرات تترجم إلى مخططات إستراتيجية عملية بنيت على ثلاث محاور أساس هي :
المواطنة .
الحرية .
الديمقراطية .
فتحقق بذلك الأمن القومي لحدودها الترابية ،لكن حينما تم العبث بقيمتي الحرية و الديمقراطية ولو خارج حدودها الترابية ،انتهك الأمن القومي الغربي ،وجرحت كبرياؤه في العديد من المناطق الغربية لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية ،التي لم تكن صادقة في خطابها حول ثيمتي الحرية والديمقراطية خارج حدودها .
أما المنظور العربي : فيحمل رؤيته الخاصة للأمن القومي المنحصر في حماية الأنظمة و الساهرين على حمايتها ،وهو سلوك امتد لعقود من الزمان ،وهو سلوك لم يعد مناسبا للعصر في ظل المتغيرات الكونية الراهنة التي تقتضي السهر على تحقيق :
*الحرية .
*الديمقراطية .
والعمل على ترسيخ قيمة المواطنة في النفوس باعتباره الثالوث المقدس الذي يطلق عليه ثالوث البناء و الاستقرار وحماية الأمن والحدود ،انها حقا الإستراتيجية الفاعلة ،الناجحة ، الناجعة ، الناعمة ،القادرة على صيانة الأمن القومي العربي من الأخطار الداخلية والخارجية ،وليس الإستراتيجية العنيفة النابعة من العقليات المخزنية السلطوية المؤمنة بالهراوات والرصاص والأحذية السوداء السميكة .ولو كانت مجدية لحمت الأقوياء قبل الضعفاء.
فهل سيدرك الوطن العربي ان الحفاظ على الأمن القومي بالمنظور الكلاسيكي قد شاخت هياكله وأكلت الأرضة منساته وأصبح في عداد الماضي المؤلم للذاكرة الفردية والجماعية ،وهل سيقتنع أن مفهوم الأمن لم يعد مخزنيا سلطويا تسلطيا ، بل أصبح مهمة تشاركيه يتقاسمها النسيج الاجتماعي ،وهل سيقتنع أيضا ان الحرية والمواطنة والديمقراطية فلسفة حياة وليست فلسفة موت .ألا يمكن الاهتمام بالمواطنة وبناء قيمها لتصبح أساس كيان الأمة وأساس وجودها؟لأنها على حد تعبير الباحثين في قيمة المواطنة "... إنها قوة لا تهزم وكيانا لا يهدم ... إنها الجدار النفسي الوجداني الأكثر قوة وصلابة ... تفوق صلابة الحديد..." ؟
الدكتور محمد الصفاح