في فرنسا اليوم دعوات إلى "الهوية " و إلى "الوحدة الوطنية " في الإعلام و في الخطاب الرسمي..هو أمر مقبول فالبلد في حالة حرب، و في حالة الحرب لابد من "دعوة "إلى رص الصفوف و الانضباط و "الوحدة الوطنية". و "الدعوة" هنا فعل واع يمارسه فاعل يعي ما يريده، و يعي استراتيجيات تحقيق المشروع، يستنفر من استطاع من الناس و الموارد، يستقطب الفاعلين القادرين على العطاء و الفعل دون تردد، من يثقون ب"الداعي إلى"الوحدة الوطنية"، مادام هو بالضرورة"حامي الوحدة الوطنية"، و لا يهم السؤال"يحمي ممن ؟ و مع من ؟ و لصالح من ؟"، و هل هنالك "وحدة " على الأرض أم فقط في الخطاب؟ و وحدة على أرضية ماذا ؟ فالداعي إلى الوحدة يمتلك الإجابات...و في حالة الحرب تكون الغايات البعيدة أهم من كل الصراعات ال"هامشية" ،و كل الأسئلة تكون هامشية، و تكون مجرد ركاكة...
في الفهم الكلاسيكي، الهوية تحيل إلى ثوابت مجتمع ما، مقوماته و أسسه المشتركة، ما يغني وعيه و لاوعيه، قيمه و معاييره التي تتحدد على أساسها استجابات أفراده و ميولا تهم و مواقفهم و أبنيتهم الذهنية. الهوية من ثمة هي الكل المميز الذي يجعل مجتمعا ما متفردا و نموذجا و تجعله موحدا...و هكذا ف"الوحدة الوطنية" تكون ثقافية قبل أن تكون سياسية، و تعني التفاف الجميع حول فكرة "الوطن الموحد"...هذا التصور يحتل الواجهة مع أحداث فرنسا. فهي في الخطاب الرسمي مستهدفة لنموذجها المتفرد في ممارسة الحق و الواجب و في ممارسة الحياة، بالتالي هي مستهدفة لأنها في القمة و في الطليعة، و البقية ينظرون إليها بعين الحقد أو التشفي..تصور كهذا للهوية يغطي على سياسات الإقصاء و الاستبعاد الداخلي لشباب الضواحي، و يمسح من الأذهان كونهم ارتموا في أحضان "داعش" و لهم في جماجمهم ما يبرر ذلك .. و يبرر هذا التصور التدخل السافر في سياسات الدول التابعة لها اقتصاديا باسم الخير والحب و قيم الجمهورية..لذلك فالاستعمال الرسمي للهوية و"للوحدة الوطنية " هو ملغوم دائما، و قد كان التركيز مباشرة بعد الأحداث حول"صفاء و طهرانية" الذات الفرنسية، و بشكل ممنهج يتناسى الجميع الآن الحقيقة على الأرض و ينساقون وراء الخطاب... لذلك لابد من هذه الملاحظات :
في مستهل كتابه"باراديغما جديدة لفهم عالم اليوم" يثير "آلان تورين" عالم الاجتماع الفرنسي فكرة مهمة جدا، مفادها أن معطيات كبيرة تغيرت فيما يخص المنهج في فهم الأحداث و الوقائع، و ذلك مباشرة بعد الهجوم المجنون على برجي"منهاتن". هذا الحدث الدراماتيكي بلغ من العمق ما صار ينبئ بعالم جديد فعلا هو على وشك الولادة، يومها علت الدهشة و الصدمة ملامح الجميع...إلا الماسكين بالخيوط من خلف ستار،و هم بالمناسبة صناع "القاعدة " و "داعش" و ما جاورهما ، علت الصدمة ملامح الناس البسطاء و هم يقفزون بين الأشلاء الممزقة، و يكتشفون الموت..وهي ذات الصدمة التي يعيشها الفرنسيون اليوم. لكن من كانوا يتوقعون كل هذا الرعب، كانوا يعرفون أن المسار الذي تسير فيه أمريكا و أوروبا هو تعزيز المواقع و تثبيت العولمة..قتل الفعل في نفوس الناس باعتبارهم فاعلين..تسليع و تبضيع كل شيء، و الاستفراد بالرؤية و بالقرار، و"العولمة"بهذا المعنى هي جوهر العولمة، إنها ليست الإنتاج و الاستيراد و التصدير، بل هي شكل متطرف من أشكال الرأسمالية، شكل عنيف يدمر الآخر البعيد، و يذيب ذوات الذوات تماما كي يستمر، و هي بالتالي أعلى مراحل الجشع.
الهجمات الإرهابية المجنونة تطال دوما الأبرياء، مادام أن للماسكين بخيوط العالم في الاقتصاد و السياسة نواد محروسة جدا، لذلك تشكل العمليات الإرهابية دوما لحظة لا يفلتها الرأسمال ليزكي أطروحات و يعصف بأخرى أو ليخلط كل الأوراق في أذهان الناس و هم على وقع الاهتزاز النفسي الذي يرافق عادة مشاهد الموت و طقوس الجنائز، و لا يفلتها "اليمين المتطرف" للتطبيل لعجرفته و للدعوة إلى طرد الفقراء و تسييجهم ماداموا لا يملكون القدرة على البيع و الشراء، و يقعون بالتالي خارج دورة الإنتاج و الاستهلاك، و في خلط كل شيء تتبدل قواعد اللعب...الرأسمال من تم هو تماما كما الإرهاب، هو أيضا لا دين له و لا ملة، و لا يعترف بالأوطان و الهويات، و إنما يستغلها، و ما يهمه أكثر هو تشكل مجتمع جماهيري تتنقل فيه المنتجات الاستهلاكية والثقافية رغم تتنوع مستويات المعيشة والتقاليد الثقافية...و لا يهمه أن تغرق باريس أو "منهاتن" في الدم .
تساءل الناس في أمريكا و فرنسا معا، بالأمس كما اليوم ، لماذا يكرهنا الفقراء أينما كانوا؟ لماذا يعدون لنا ما استطاعوا من قوة و رباطة جأش؟ لماذا يكرهنا المسلمون خصوصا، فيقطعون رؤوسنا و هم في قمة النشوة ؟ هل في تطور بنياتنا التحتية و بنانا الذهنية و أنماط عيشنا مسا بهم أو بدينهم ؟ هل لكراهيتهم لنا سببا مقنعا حقا ؟ هل يزعجهم أننا نحب الحياة فنغني و نرقص؟ هل إدماجهم معنا في فهمنا للتطور الحاصل و اللاحق، للتنمية و النماء و الحداثة و الدين و المرأة و الفن ، و حقوق الإنسان، و الحريات..هو الحل ؟ أم الضرب و السحل و الغصب و التقتيل ؟...و كي يخلط الرأسمال الأوراق أكثر يغرق المشهد بأسئلة موجهة للداخل تهمه أكثر من أسئلة البسطاء البسيطة، و منها : "هل لصدامات التيارات السياسية معنى إذا ما استهدف "الوطن"؟ هل الوطن هو "فرنسا "فقط أم هو أوروبا الكبيرة ، هل لاختلاف اليساري و اليميني و المحافظ و الجمهوري أهمية في لحظة "الحرب"؟ ، و قد أعلن "هولاند " أن فرنسا في حالة حرب فعلا و أعلن حالة الطوارئ و أكد باقي المتحدثون أن قيم الحداثة المتجسدة أرضا في أوروبا هي المستهدف ، هل هنالك ما يبرر اختلاف ردة الفعل بين البرجوازيات الكبيرة و أبناء الضواحي اليوم؟ ألا يستلزم الأمر "وحدة وطنية"، و قد أكد هولاند أيضا في خطابه على أهمية هذه الوحدة ، دون أن يحدد على أرضية ماذا ؟
أغرق الإعلام الأمريكي أذهان الناس بعد 11سبتمبر بالصور، صور القتلى و صور"الزرقاوي" و هو يقطع الرؤوس ، فدفعهم دفعا نحو طرح تلك الأسئلة، فاستعصت عليهم الإجابات و قدم الرأسمال إجابته فأعلن الحرب على أفغانستان و العراق، و الحرب لحظة لبيع و شراء السلاح، و لكي يتحمس الجميع للحرب، استغل "بوش" و وزير دفاعه لغة "الوطن" و "الوطنية"، و صرنا لا نسمع إلا صوتهما يلقنان العالم القيم، بل و يتحدثان باسم الله بوصفهما لبلدهما براعي "الخير" و بشرطي العالم...و يطرح الفرنسيون اليوم ذات الأسئلة ، فتستعصي عليهم الإجابة، أما الدولة الواجهة و الدولة العميقة معا، فتعرف الجواب قبل السؤال..هو في شبه تكرار لما كان "إعلان الحرب".
في أمريكا ، سرعان ما خفت قيمة الأسئلة و جدوائية الإجابة عليها أمام أنانية و نرجسية القادة و عجرفة الرأسمال، فاعتلت الرغبة في مسح الأرض ب بن لادن و من حذا حذوه الركح، و صارت لغة الحرب و الدم أهم من كل القيم و من كل التنظير، و صار الثأر كلغة حيوانية أهم من الحب...و مع احتدام الحرب نسي المحافظون الأمريكان فعلا أن بينهم و بين اليسار و بين الجمهوريين اختلافات و تفاصيل، فتحلق الجميع حول فكرة الحرب"المقدسة"حماية "للهوية "و ل"صورة البلد"، وهو نجاح كاسح للرأسمال و لفكرة "الوحدة الوطنية "، و بعد استرداد "الهيبة "سيكون بالطبع لكل حادث حديث و من التيارات من ستشكك في السيناريو برمته،...لكن المثير حينذاك، و ما سنشهد تكراره و كأننا بصدد مسرحية، أن تغيير الأفكار و المواقف طال الجميع، فمع احتدام الحرب على "أفغانستان" و "القاعدة" و "طالبان" و "شباب مالي" و "بوكو حرام" ، تبرأ المسلمون الشيعة من السنة، و تبرأ السنة من السنة، و صار الإسلام أشكالا متعددة و فجر كل شكل مساجد الشكل المختلف ،فتدخلت أوروبا للصلح ، و وقف قادة المسلمين إلى جانب أمريكا ، لأن المسلمون هم البترول و البترول هو أمريكا..وقف الرئيس الأمريكي إلى جانب رؤساء الدول الإفريقية و العربية الفقيرة في "صور تذكارية "، و قدم مساعدات للفقراء لاجتثاث بذور الإرهاب و ملاحقة المتدينين المتشددين...بدا و كأن الرأسمال صار يدفع في اتجاه أنسنة العلاقات الدولية، فتبدلت بالتالي أهم المفاهيم التي شكلت في السابق أدوات فهم العالم بالنسبة لمن يجتهدون لفهم العالم، و حالما ينادي الفقراء ممن يعانقون بوش و كلينتون و أوباما في الصور التذكارية بضرورة الضرب على قفا إسرائيل، يعود الكل إلى قلاعه حتى تتضح الحدود و الفروق من جديد..حينها فقط يدرك الفقراء أن وحدتهم مع الرأسمال هي كعكة مسمومة، هي استغلال بشع ملفوف في ورق"مكافحة الإرهاب"و "الجريمة"..و مع اشتداد الحقد في قلوب الفرنسيين اليوم، أكيد ستشتد لغة التحريض و التخوين،و ستدخل مفاهيم"الوحدة الوطنية"و "الوطن" على الخط من جديد ، سيقنع الإعلام الناس بإلزامية ضرب " داعش" و سوريا و تفجيرها بمن فيها ، و مع اشتداد هذا الحقد سيجد اليمين من يصغي لخطابه ، و ستصير "داعش" ذات الفزاعة التي لوحت بها الدولة بيد اليمين يشير بها لمزيد من قهر الضواحي، مما يعني زوابع و اضطرابات في بناء الهوية الشخصة هناك ، و قد دعت"مارين لوبين" إلى إغلاق المساجد و طرد المهاجرين ... الفادح أن الرأسمال سيساوى في أذهان الناس بين الدولة المدنية و الدولة البوليسية، سيوافق الجميع على الحرب و تتحقق الوحدة الوطنية على أرضية قتل الآخر...و ستتبنى دول الجوار استراتيجيات فرنسا المصدومة بعقوق أبناءها ...و بالتالي يتمكن الرأسمال من العودة بالناس إلى فوضى السياسة...و الفوضى دائما من مصلحة الحاكم.