أعلنت لجنة نوبل للسلام يوم 9 ـ 10 ـ2015 أنها قررت منح جائزتها الذائعة الصيت في العالم للرباعي التونسي المتكون من الاتحاد العام التونسي للشغل المركزية النقابية الأهم و الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان و هيئة المحامين التونسيين و أخيرا اتحاد الصناعة والتجارة و الصناعات التقليدية ممثل المستثمرين الخواص لمبادرته بإقامة حوار وطني جمع بين الأحزاب الحاكمة إثر انتخابات المجلس الـتأسيسي باستثناء حزب المؤتمر الذي رفض الدخول فيه بدعوى التمسك بالشرعية وبين المعارضة بمختلف مكوناتها السياسية . وقد انتهى الحوار, بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الفشل بفعل تشبث الأحزاب الحاكمة بالسلطة, إلى التسريع في صياغة الدستور الذي تمت المصادقة عليه في آخر جانفي 2014 , بالإضافة إلى تسليم السلطة لحكومة تسيير أعمال مهمتها الرئيسية الإعداد لانتخابات برلمانية و رئاسية .الأمر الذي تم فعلا خلال خريف السنة المذكورة. يقدر أغلب الملاحظين أن الحوار الوطني جنب البلاد أزمة سياسية حادة كانت تنذر بانتشار العنف و انهيار مؤسسات الدولة.حيث يمكن القول :إنه وقع تجاوز فترة انتقالية طالت أكثر من المتوقع باتجاه إرساء مؤسسات قارة.
ما من شك أن إسناد الجائزة لمنظمات المجتمع المدني الأربعة أمر مستحق و من واجبنا أن نقدم لها تهانينا الحارة و ندعوها إلى الاستمرار في نهج الدفاع عن السلم المدني و الحرية ضد دعاة العنف و الإرهاب الذي ما يزال يتربص بالديمقراطية الوليدة حيث أعلن خلال كتابة هذه الأسطر فقط عن استشهاد جنديين اثنين من الجيش الوطني في حصيلة أولية و أحد الرعاة بجبل سمامة بالشمال الغربي للبلاد. وقبل يوم فقط من إعلان الجائزة وقعت في سوسة المدينة الساحلية محاولة قتل نائب من البرلمان الجديد من قبل مجهولين إلى حد الآن.
في سياق هذا الحدث أريد أن أتوقف عند دواعي إسناد الجائزة للرباعي كما صرحت بها لجنة نوبل للسلام في هذه السنة وقيمة الاحتجاج السلمي و الحوار في سياق الثورة التونسية:
ـــ دواعي اختيار الرباعي من قبل لجنة نوبل للسلام :
صرحت اللجنة في نص مقتضب أنها أسندت الجائزة للرباعي "نظرا لمساهمته الحاسمة في بناء ديمقراطية تعددية في تونس..." النص يركز على دور الرباعي في إرساء "ديمقراطية تعددية" يجب أن نميزها عن ديمقراطية الأغلبية التي لا تعترف بدور المعارضة البرلمانية و الحزبية ,و هو شكل من الديمقراطية يمكن أن يتحول إلى استبداد رغم انتسابه للأغلبية.وقد شهدت الفترة الانتقالية مثل هذا النهج الذي أدى إلى أزمة سياسية حادة خاصة إثر اغتيال الرمزين شكري بلعيد أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد في 6 فيفري 2013 و محمد البراهمي أمين عام حزب التيار الشعبي و النائب في المجلس الوطني التأسيسي في 25 جويلية من نفس السنة.و تلا هذين الاغتيالين قتل 8 جنود بجبل الشعانبي والتمثيل بجثثهم 4 أيام بعد اغتيال البراهمي أمام منزله. تمثلت الأزمة السياسية حينئذ في تمسك الأحزاب الحاكمة بالسلطة من جهة سيما حزبي النهضة و المؤتمر بدعوى الشرعية وحيازتها لأغلبية المقاعد في التأسيسي وبين مطالب المعارضة من جهة أخرى بحل المجلس التأسيسي وإسقاط حكومة علي العريض في "اعتصام الرحيل" الذي شارك فيه عشرات الآلاف من المواطنين بقيادة جبهة الإنقاذ التي تكونت من الاتحاد من أجل تونس و الجبهة الشعبية. و تزامن ذلك مع إعلان بعض النواب في البداية استقالتهم أو تعليق عضويتهم بالمجلس الوطني التأسيسي حتى وصل عددهم 60 عضوا تقريبا.مما أجبر رئيس المجلس التأسيسي على تعليق أشغال هذا الأخير و أجبر النهضة على قبول مبادرة الرباعي للدخول في الحوار الوطني بعد أن رفضت في البداية مطالب المعارضة بحل المجلس التأسيسي و تعويض حكومة العريض بحكومة مستقلة, فيما اختار حزب المؤتمر رفض الأمر إلى جانب حزبي الإصلاح و التنمية و تيار المحبة.
ــ الاحتجاج السلمي بديلا عن العنف السياسي :
تبين تجربة الثورة التونسية أن مقاومة الاستبداد والظلم الاجتماعي ممكنة عن طريق الاحتجاجات السلمية التي تصدى لها النظام السابق بطريقة عنيفة وصلت إلى حد قتل المتظاهرين.و يبدو أن الأمر مثل خاصية مميزة للثورة التونسية مقارنة ببقية الثورات العربية الأخرى خاصة في ليبيا و سوريا حيث تم عسكرة الثورات بسرعة مما حولها إلى اقتتال داخلي أججته قوى إقليمية و عالمية ساعية إلى بسط نفوذها على الدول العربية وتفكيكها مع فرض حلفاء جدد لها في السلطة.و أعتقد أن عنصر المفاجأة لعب دورا هاما في إنقاذ الثورة التونسية من العسكرة. حيث أن الاغتيالات السياسية وعمليات قتل الجنود وعناصر الأمن و لاحقا السياح الأجانب لم تكن إلا محاولات فاشلة لتحويل وجهة الثورة عن أهدافها الحقيقية المتمثلة في الكرامة و الحرية و العدالة الاجتماعية.في هذا السياق يمكن أن نقول: إن دعوة الاتحاد العام التونسي للشغل إثر التئام الهيئة الإدارية في 29 ـ 7 ـ 2013 إلى الحوار بين الأحزاب الحاكمة منها و المعارضة مقترحا خارطة طريق للخروج من الأزمة إلا تأكيدا على الطابع السلمي و المدني للثورة التونسية. ولاحقا ستنضم منظمات المجتمع المدني الثلاث نعني الرابطة و اتحاد الصناعة و التجارة و هيئة المحامين إلى مبادرة اتحاد الشغال . وبذلك تشكل ما عرف بالرباعي الراعي للحوار الوطني في تلك الفترة الحرجة . الأمر الذي شكل ضغطا مدنيا حقيقيا على الأحزاب السياسية الحاكمة منها للذهاب في نهج الحوار مع المعارضة.
تظهر الثورة التونسية إذن خلال مراحلها المتتالية أهمية دور منظمات المجتمع المدني في المبادرة و التأطير و التوجيه و الضغط على أصحاب القرار السياسي من أجل الوصول إلى تحقيق أهداف الثورة.وإن العمل في هذا الاتجاه لا يزال مطلوبا سواء من قبل المدافعين عن الحقوق الاجتماعية والمدنية والسياسية أو من قبل الساعين إلى تهيئة أرضية للاستثمار الوطني مع ما يتطلبه ذلك من وحدة وطنية حقيقية لا تكون مجرد شعار يخفي تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. فهنيئا لمجتمعنا المدني , هنيئا لشعبنا بالجائزة .\.