كتاب من تأليف جون بركنز الذي سبق أن عمل كمستشار اقتصادي لدى شركات أمريكية ليجد موطئ قدم له في عالم المال والأعمال، قبل أن يوطن عزمه على البوح بخبايا عمله، ومن ثم نشر الغسيل القذر لحقيقة النظام الاقتصادي السائد المفرغ من أي التزام أخلاقي. وهكذا، فقد سلط المؤلف الضوء على خطورة الدور الذي يؤديه "قراصنة الاقتصاد" وتداعياته الوخيمة على اقتصادات الدول "النامية"، فضلا عن أساليب عملهم الخبيثة، مستحضرا تجارب شخصية له أثناء تجواله بين مجموعة من الدول التي عمل بها.
يُعرف الكاتب قراصنة الاقتصاد بأنهم "خبراء محترفون ذوو أجور مرتفعة، مهمتهم هي أن يسلبوا ملايين الدولارات بالغش والخداع من دول عديدة". وتكمن مهمة قراصنة الاقتصاد في خدمة ما يسميه بركنز ب "الكوربوقراطية" التي تحيل إلى تحالف من الشركات والبنوك والحكومات يوحد بينها هدف مشترك ألا وهو الحفاظ على النظام الرأسمالي القائم، وذلك من خلال إضفاء المصداقية على تمثلات زائفة من قبيل أن النمو الاقتصادي يخدم البشرية جمعاء، وسرعان ما تقطف ثماره الفئات الدنيا من الناس الأقل حظا، وهو ما يدعوه بعض الاقتصاديين بنظرية "التقاطر إلى الأسفل"، بحيث عرى الكاتب زيف هذه النظرية.

كتاب بمثابة دراسة بحثية للباحث الفلسطيني ذي المنزع القومي الليبرالي عزمي بشارة، تتوزع مضامينه على أربعة فصول (توترات الديمقراطية بين المساواتية والحرية، الشعبوية: الخطاب والمزاج والأيديولوجيا، مسألة عدم الثقة بالمؤسسات الديمقراطية، هل فقد النظام الديمقراطي جاذبيته؟)، إذ تناول من خلالها الظاهرة الشعبوية من حيث هي خطاب سياسي وممارسة في آن واحد، فمن شأن عدم تحديد معنى المصطلح بدقة أن يُطلق العنان لهذه التسمية من دون قيد، كما انبرى المؤلف لبيان مصادر الشعبوية ومضارها على النظام الديمقراطي:

جوهر الشعبوية

بحسب الكاتب، الشعبوية هي استراتيجية سياسية تستثمر في مزاج شعبي غاضب، وقد تتحول من محض خطاب إلى أيديولوجيا في الحالات القصوى، وذلك حين تفضي إلى استقطابات حادة تنعكس في المقابلة بين الشعب "الطاهر – النقي" والنخب "الفاسدة". فالسياسي الشعبوي يزعُم بأنه وحده الممثل الحقيقي للشعب على الضد من النخب التقليدية، مع التنبيه إلى أن خطاب الأخيرة لا يخلو أيضا من مسحة شعبوية وإن بدرجة أقل حدة. كما ينهض الخطاب الشعبوي على الاعتقاد بأن الشعب هو مستودع كل الفضائل، وهو دوما على حق، فيما يجنح إلى شيطنة النخب ("أعداء الشعب") وتسويد صحيفتها في نظر الجمهور.

وقد عبر المفكر الألماني كارل شميت (1888-1985) بوضوح عن تلك النزعة حين طعن في الديمقراطية التمثيلية، القائمة على فكرة تمثيل الأحزاب، التي لا تجسد – في اعتقاده – إرادة وتطلعات الشعب، بحيث نادى شميت بحكم فرد دكتاتور في مكنته اتخاذ قرارات حاسمة لا تذعن لسطوة المواضعات النخبوية، على نحو يضمن تحقيق مبدأ السيادة الشعبية. وبينما لا ينكر عزمي بشارة أن أطروحة محدودية الديمقراطية التمثيلية تنطوي على قدر من الوجاهة، فإنه يلح – بالمقابل – على أن فرادة الديمقراطية الليبرالية تكمن في إتاحتها وسائل للرقابة الشعبية والقضائية على النخب الحاكمة، في إطار مبدأ علوية القانون، وهي الضمانات التي تهدد الشعبوية بالنيل منها.

رغم أني لست من المهووسين بكرة القدم باعتبارها رياضة جميلة أنتجتها الثقافة البشرية، ومع أن لدي انطباعا غير جيد حول توظيفها، كإيديولوجيا، لأداء أدوار إشغالية تتفيهية صارفة للمدمنين عليها عن الاهتمام بقضاياهم الأساسية والمصيرية، بوعي أو دون وعي، كما تُوَظَّفُ الأديان والفنون لأداء ذات الدور، وتسخر لذلك مختلف القنوات. رغم ذلك فقد تابعتُ المباراة الأخيرة بين فريق الوداد البيضاوي المغربي وفريق الترجي التونسي في إطار نهائي كأس عصبة الأبطال الإفريقية، والتي جرت بملعب رادس بتونس، ليلةَ الجمعة، الواحد والثلاثين من شهر ماي 2019، وتوقفت بسبب احتجاج فريق الوداد البيضاوي على حرمانه من هدف مشروع، ومطالبته بالرجوع إلى الفيديو «VAR» لاستعادة حقه بعد التأكد من مشروعية الهدف، وهو ما لم يحصل بسبب عدم تشغيل التقنية لسبب من الأسباب، الأمر الذي اعتبره الفريق المتضرر، وعدد كبير من المتتبعين والمحللين التقنيين غاية في الاستهتار والعبث، خاصة وأن ثمة شبه إجماع سابق للمحللين التقنيين حول الظلم الذي تعرض له فريق الوداد في مباراة الذهاب أيضا، بسبب حرمانه من هدف مشروع، والذي ساوقه رفض الحكم العودة إلى الفار رغم كونه يشتغل، وتم تشغيله لصالح الفريق الخصم. الخلاصة أن مباراة الإياب المهزلة توجت بإعلان فريق الترجي بطلا للدورة في أجواء يعمهما استياء الجميع تقريبا، بما في ذلك جل الجمهور الذي انسحب من الملعب، لتتعقد الأمور بعد ذلك، وتسير نحو قرار الاتحاد الإفريقي لكرة القدم (CAF) إعادة المباراة في بلد محايد، كما تم الإعلان على ذلك يوم 05 يونيو 2019، وتشتعل داحس والغبراء بين القبائل على موارد الوهم والزعم.

"أن تقتل إنسانا من أجل خير العالم أمر يتناقض مع خير العالم،
ولكن أن تتألم وتضحي بنفسك من أجل العالم ذلكم هو الخير كله"
ماوتسي تونغ .
إننا سوف نكسب معركتنا لا بمقدار ما نقتل من خصومنا،
ولكن بمقدار ما نقتل في نفوسنا الرغبة في القتل.
المهاتما غاندي

1-مقدمة:

قد يبدو مفهوم الثورة السلمية للوهلة الأولى مفهوما كلاسيكيا لا يختلف كثيرا عن غيره من المفاهيم التي تجاوره في المكان وتجانسه في الدلالة. ولكن ما أن يـتأمل المرء فيه ويتمعن في تجلياته حتى يجد نفسه في فضاء فكري مترامي الأبعاد والأطراف، وفي خضم التمعن والنظر، يدرك المتأمل أن مفهوم اللاعنف مفهوم في فلسفة وفلسفة في مفهوم.

وليس من المصادفة أن يرتبط هذا المفهوم ارتباطا عميقا بالحكمة الإنسانية الشرقية، بما تشتمل عليه هذه الحكمة من إشراقات إنسانية، وشطحات صوفية كانت وما زالت قادرة على التوغل في أعمق مناطق الوعي الأخلاقي والوجداني في الإنسان؛ وليس غريبا أن يتعانق جمال هذا التسامح الصوفي المتضوّع بالحكمة الشرقية، مع سمو الحكمة المسيحية القديمة، وليس من العجب أيضا أن يخفق بين هاتين الحكمتين قلب المهاتما غاندي الكبير، الذي مَتحَ رحيق المحبة والتسامح من معين الحكمة الهندية القديمة، ونهل من معين الحضارة الغربية المتدفقة، فجاء عطاؤه غمرا إنسانيا مصقولا في منهج فكري فلسفي أصيل، فأخذ المفكرون من ذلك العطاء يرتحقون ومن هذا الفكر ينهلون في سبيل بناء فلسفة إنسانية للسلام قادرة على أن تنير دروب الشعوب المظلومة والمغلوبة على أمرها في نضالها من أجل الحق والحرية والسلام.

لقد استلهم المهاتما غاندي([1])حكمتي الشرق والغرب، فأخصب ما بينهما ليشيّد فلسفة جديدة كان لها أثر كبير في توجيه النضال الإنساني من أجل الحرية والسلام. ولكن حبه للسلام ونضاله من الحرية لم يحصناه ضد الشهادة التي كان يطلبها ([2]). فكان على موعد من الشهادة وكان له ما أراد، حيث منحه أحد الهندوس المتعصبين شرف الشهادة فنهض بها رمزا للحرية وعنوانا لفلسفة النضال السلمي من أجل الحرية والسلام ([3]). رحل غاندي ولكن أنساقه الفكرية مازالت تشكل طاقة إنسانية حيوية تعتمدها الشعوب في النضال ويعتمدها المفكرون في تأجيج هذا النضال وعقلنته فكريا ونظريا مستلهمين روح غاندي وفلسفته([4]).

أصبحت وسائل الإعلام مصدراً مركزياً تماماً عندما يريد الدنماركيون التعامل مع القضايا الدينية بأوسع معانيها. فيما يقتصر حضور الكنيسة وقراءة الكتاب المقدس على أقلية متواضعة من الشعب الدنمركي، بينما يستخدم الجزء الأكبر من السكان محطات التليفزيون والروايات والأفلام وشبكة الإنترنت والراديو لإشباع الاهتمامات والروحية والدينية، خارج رعاية الكنيسة الوطنية.
لم يعد الدنمركيون يحصلون على القصص العظيمة عن معركة الخير ضد الشر من الكتاب المقدس أو الكتب الدينية الأخرى، بل من الأفلام والتلفزيون والروايات وألعاب الحاسوب.
لا تقوم وسائل الإعلام بنقل نصوص حول الموضوعات الدينية فحسب، بل تنتج أيضاً مجموعة متنوعة من المواد ذات المحتوى الديني بنسب متفاوتة، والتي تتميز بالتالي بتدخل وسائل الإعلام. حيث تخضع المعلومات الواقعية ومناقشة الدين لمعايير الأخبار الصحفية، ولا يتم إنتاج الروايات الغيبية ونشرها من قبل رجال الدين، بل من قبل الإعلاميين المحترفين مثل المخرجين، وكتاب السيناريو، ومدراء الفنون، وغيرهم.
تهيمن على وسائل الإعلام الدنمركية أنواع وموضوعات الثقافة الشعبية، ونتيجة لذلك تصبح وسائل الإعلام بوتقة تنصهر فيها جميع أنواع الموضوعات الغيبية والخيالية والروحية والدينية.
صحيح أن وسائل الإعلام لديها ولع كبير بالديانات الموجودة مثل المسيحية والإسلام والبوذية وما إلى ذلك، ولهذا السبب غالباً ما تعيد المسلسلات التلفزيونية والروايات والأفلام وألعاب الحاسوب إنشاء وتفسير الزخارف الكتابية، أو استخدام الرموز والآثار من الديانات المختلفة.
لكن وسائل الإعلام لا تهتم بالتبشير بالدين، بل تريد في المقام الأول أن تستهلك الأديان لأغراضها الخاصة. بالنسبة لوسائل الإعلام، تُعد الروايات والأيقونات والطقوس الدينية للأديان المنظمة مستودعاً واسعاً للدعائم التي يمكنهم استخدامها لإخبار قصصهم الخاصة عن الأحداث الخيالية والروحية والدينية.
إن أفلام "إنديانا جونز" Indiana Jones والمسلسلات التليفزيونية مثل LOST وقصص هاري بوتر Harry Potter لـ"جيه كيه رولينج" J. K. Rowling ونجاحات ألعاب الحاسوب مثل World of Warcraft هي إنتاجات تستخدم العناصر الدينية بصورة كثيفة، والتي تختلط وتتحول إلى روايات أسطورية جديدة.

عرف المشهد السياسي اليساري المغربي عدة تحولات وانشقاقات حالت دون التركيز على الاستجابة للمطالب الشّعبية، واكتفى بتركيز اهتمامه على الأفكار العريضة والإيديولوجيات وطرح المزيد من الأسباب لانشقاقات أدت إلى فقدانه لدوره الاجتماعي المتمثل في الاصطفاف إلى جانب الفئات الشعبية والدفاع عن مصالح العمال والطبقات المعدمة. وكشفت جل التنظيمات اليسارية والنقابية والحقوقية عن عجزها في أن يكون لها صدى لدى القواعد الشعبية وأصبحت تقاتل فقط من اجل البقاء.
تضيع معالم الإنسان المناضل الداعي إلى التحرر من العبودية والإستغلال، ففي دوامة هذه الصراعات الفوقية لا نكاد نعثر على التجاوب الصادق والبعد المحدد للرؤيا الواضحة إلا عند قلة ممن أتيحت لهم ثقافة واسعة واتصال حقيقي بأرض الواقع. و يخطئ مناضلونا حين يظنون أنهم حتى لو لم تنضج أفكارهم أو لم تكتمل لهم الأداة للممارسة الميدانية أو لم يتوفر لهم صدق المعاناة، فإن قرارهم بالوقوف إلى جانب الفئات المهمّشة و تناولهم لموضوعات حية تلامس ما في نفوسهم من مآسي و آلام، سيغفر لهم كل العيوب و سيحول عنهم نظر النقد، و هم في هذا ينسون أن عرض القضايا - لكي تكون لها قيمة و يكون لها التأثير المنشود - يتطلب من المناضل معرفة بالميدان المنتمي إليه و قدرة على التصور البنّاء، كما يتطلب منه تجاوبا صادقا مع الجوانب الحية و اتخاذ موقف منها، من شأن ملامح الصدق و القوة فيه أن تجعل القواعد الشعبية تنسجم معه و تتجاوب، فيتحول الصدق و التجاوب بذلك من إطارهما الشخصي إلى الإطار العام.

يعد الفقر ظاهرة معقدة ومتعددة الجوانب، تختلف باختلاف المجتمعات والمجالات والأزمنة، وبذلك فالتصور التقليدي للظاهرة يختلف تماما عن التصور الحديث. لقد تميزت فترة ما قبل القرن التاسع باعتبار الفقر قيمة إنسانية عليا، وذلك لأسباب دينية وأخلاقية، حيث كانت تسود نظرة دينية قدرية، تدعو للزهد في المعيشة وتحث على تقبل الحرمان والتعايش معه، إذ كان الاعتقاد السائد يعتبر الفقر تحريرا للإنسان من الهموم الدنيوية ويضمن له تأشيرة الخلاص، وهكذا اعتبر الفقر مسألة عادية جدا، مرتبطة بالوجود الإنساني.
لقد طبع هذا التصور المختزل للفقر، نظرة رواد المدرسة الاقتصادية الكلاسيكية خلال النصف الثاني من القرن 18 والنصف الأول من القرن 19، الذين اعتبروا الفقر حالة محفزة على العمل الذي يخلق الثروة، وفي هذا السياق "أكد "David Ricardo" على ضرورة إبقاء الأجور في مستوى الكفاف، من أجل بقاء الطبقة العاملة عند الحد الأدنى لمستويات المعيشة، رافضا بذلك فكرة وضع قوانين لصالح الفقراء التي تبنتها السياسات العمومية في إنجلترا خلال مطلع القرن التاسع عشر. وكإجابة عن هذا الاتجاه الرأسمالي وما خلفه من بؤس وفقر، برز التيار الاشتراكي كمدافع عن الطبقة العمالية، حيث اعتبر "Karl Marx" أن تراكم الثروة في جانب هو إذن وفي نفس الوقت تراكم البؤس والمعاناة في الجانب المقابل.
انطلاقا من تسعينيات القرن الماضي طرح مفهوم جديد للفقر، رافق صعود نماذج التنمية التي أطلقها البنك الدولي، هكذا أصبحت للفقر دلالة مزدوجة، الأولى ترتبط بالواقع الاجتماعي والتمثل الشعبي للظاهرة باعتبارها مشكلة حرمان ولامساواة مختلفة في الزمان والمكان. أما الثانية، فتركز على المقاربات الأكثر جدوى لدراسة الفقر والطرق الأكثر دقة لقياسه وتحديد الفقراء. تعبر هذه الدلالة المزدوجة عن تعقد ظاهرة الفقر وتداخل أبعاده، رغم حصول تطرف اقتصادي أحيانا واجتماعي أحيانا أخرى، في دراسته وقياسه وتحديد الفقراء.

نملك تصورات خاطئة تتسم بالنمطية حيال حرية المثقف والثقافة، تجعلنا نظن أن المثقف حر. هو كذلك من حيث قدرته على التفكير خارج دائرة القيادة التي تسعى إلى احتجازه داخل سجن ايديولوجيا معينة أو تأسره في وهم مصالح ذاتية ضيقة، وكلما تقلصت هذه القدرة على مقاومة مراكز القرار إلا وتراجع هامش الحرية لدى المثقف وغدت الثقافة طقسا احتفاليا يستغل أبشع استغلال بوعي أو بدونه. لكن ما الذي يجعل المثقف أسيرا، فاقدا شرط وجوده ؟
لقد اختار الكثير من مثقفينا اليوم العزلة. والنأي بأنفسهم عن كل صراع نحو التحرر من قيود السلطة مهما كان مصدرها، ولا ندري ما إذا كان اختيارهم هذا سعيا إلى التأمل في ذواتهم ومحاولة الهروب من طواحين الهواء التي تفوق قدرتهم على لعب دور البطولة، أم أن عزلتهم تهدف إلى تحقيق مسافة تمكنهم من تغيير رؤاهم تجاه الواقع دون الدخول في استنزاف طاقاتهم وبهذا تكون عزلتهم اختيار واعي يبحث عن الأمان لتحقيق النضج والتمكن من أدوات جديدة لتحقيق وجودهم الفعلي.