" لا تستهدف التربية إلا تشكيل الإنسان، سواء بواسطة مدرسة الأحاسيس، أي العائلة، أو بواسطة التدريس. وليس التعليم إلا هذا الجزء من التدريس الذي يستهدف تثقيف الإنسان بتكوين حكمه" [1]
ما يلفت الانتباه اليوم هو أن قطاع التربية في المجتمعات المعاصرة يتخبط في أزمة جوهرية لا تقتصر على ساحات المدارس وأقسام المعاهد ومخابر الجامعات وقاعات التدريس الأكاديمي ، وإنما تشمل المبيتات والأسر والمؤسسات الثقافية والحواضن الاجتماعية وتؤرق بال الدول والجمعيات الأهلية وتحير العقول الجادة. والحق أن هذه الأزمة لا يتعلق تاريخ اشتدادها باللحظة الراهنة فقط وإنما ضاربة في القدم وتعود إلى الزمن الذي استحوذ فيه السفسطائيون على حديقة العقل واستمروا في ترويج الظنون والآراء المبتسرة. بهذا المعنى تبدو الأزمة متصلة بتعثر البيداغوجيا وتكوين المربين وضعف النجاعة بالنسبة للمدرسة ولكنها في العمق ورطة هيكلية انجرت عن تعميم التعليم من الأطفال إلى شرائح عمرية متقدمة في السن وترتب عنها انحدار في المستوى وظهور أشكال جديدة من الأممية ناتجة عن غياب الأفكار الناظمة والرؤى التأليفية والنظريات الرابطة ، وفي المقابل الإغراق في التخصص والتشذر والانعزالية والانفصال. لقد أضرت هذه الأزمة بشكل ملفت للانتباه بالمنزلة التي ينبغي أن تحتلها التربية في الوضع البشري وقطعت العلاقة التلازمية بين المدرسة والمجتمع وقللت من دور التعليم في تنظيم الوجود اجتماعيا. كما أسقطت من حساب الدارسين أهمية طرح مشاكل التربية ضمن المشاكل السياسية وعرضها على النقاش العمومي للمواطنين والنظر إليها من زوايا متعددة مثل الطرح الاقتصادي والمنظومة الإيتيقية المأمولة [2]. من هذا المنطلق تم استدعاء جون لوك لجهوده التنويرية وبرامجه التربوية من جهة نظرية المعرفة وتصوره لبرنامج بيداغوجي عساه يقدم حلولا تنويرية.
منهجية الكتابة الإنشائية في مادة الفلسفة : منهجية واحدة؛ أم منهجيات؟ (الجزء 1) ـ ذ. محمد الحوش
مقدمة
لا يمكن لك في أي نقاش مع أحد الأساتذة أو التلاميذ ألا تجد اهتماما بمسالة الكتابة الإنشائية في مادة الفلسفة. فكثيرا ما يقترح عليك أحد التلاميذ ورقة مكتوبا عليها ما يعتبره منهجية ويستفتيك فيما إذا كانت صالحة للعمل بها في الامتحان الوطني. والغالب أن هذه "المنهجية" تتضمن القليل من الروابط اللغوية والكثير من الفراغات التي يسهل عليه حفظها، بل وتوظيفها في كل المواضيع والإشكالات الفلسفية على طول المقرر وعرضه. وإذا كان الأمر بهذا الشكل؛ أي إذا كانت تلك المنهجية صالحة لكل شيء وبنفس النفس الببغاوي، فأين الفلسفة؟ وأين إبداع التلميذ؟
لو كان الأمر يتعلق بالتلميذ فقط لكان بالإمكان التماس العذر له لأن غايته براغماتية مرتبطة بالحصول على درجة في الامتحان بأقل جهد، لكن الأمر يتجاوزه نحو المدرسين كما نعاين ذلك في واقع الممارسة. والحال أن الكثير من هؤلاء هم حجة ذلك التلميذ صاحب المنهجية العجيبة الصالحة لكل زمان ومكان، بطريقة آلية وبدون حضور لأدنى قيم الإبداع أو إعمال للعقل. هكذا تجد هذه الطريقة "التخلصية" من التلميذ ومن "صداع الرأس" في إفهامه بأن الكتابة الفلسفة -ولو كانت إنشائية مدرسية- يلزم أن تكون كتابة إبداعية بالدرجة الأولى تؤكد تحقق الكفاية التواصلية أو جزء منها كما تشير إلى ذلك (التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة الفلسفة، 2007)، لكن الرغبة في التخلص من المتابعة اللازمة للتلاميذ[1] ولكتاباتهم تفرض اختيار الطريق السهل نحو صيغة أكثر آلية يحس التلميذ معها بأنه تحول إلى فيلسوف.
المُدرس باحثا ـ حميد بن خيبش
هل يمكن إنضاج البحث التربوي في صفوف المعلمين على نحو يضمن انخراطهم في حل المشاكل الصفية التي تعيق أداءهم،وتحد من الجودة المرتقبة ؟
قد يبدو السؤال متقدما في ظاهره إذا عاينا الإطار الذي يتم وفقه رسم الخطة التكوينية للمعلمين. ذلك الإطار الذي يحصر أدوارهم في إدارة الفصل،و تيسير التعلمات،واللجوء إلى البدائل المتاحة (طرائق، وسائل ...) للحد من أية تعثرات أو صعوبات تكسر "القالب "المعد بإتقان لمخرجات منسجمة مع الوضع الراهن.إلا أن عالم اليوم الموسوم بالتعقد و التشابك و الاعتماد المتبادل بات يستهدف النظم التعليمية في شتى أنحاء العالم،ويضغط باتجاه إحداث تصويبات جادة في الممارسة التعليمية،وتعديل المناهج و الاستراتيجيات،وحفز الذاتية الثقافية على الاندراج في المتغير العالمي طوعا أو كرها ! وهذا المعطى يفرض حتما توسيع أدوار المدرسين،وتنمية مهاراتهم البحثية في المجال التربوي والنفسي و المهني لتمكينهم من تجاوز الصعوبات التي تعترض ممارستهم الصفية،وتطوير المؤسسات التي ينتمون إليها.
عن قيم المدرسة ورهانات المجتمع ـ خلوق السرغيني
تمهيد
إن واقعا بشريا يعيش تحديات ورهانات، في الآن نفسه، على جميع المستويات والأصعدة، معرفيا وقيميا وعلى مستوى مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية أيضا، بل وعلى مستوى مجالات الحياة كلها، لا يمكن أن نحسن تدبير شأنه والنهوض به إلا إذا سادت قيم الحرية والحق والعدالة والديمقراطية على الصعيد السياسي الاجتماعي، ثم قيم الحوار والتسامح والمحبة على الصعيد الأخلاقي الفردي، وهو الأمر الذي يمكنه أن يساعد على تحقيق الخير الأسمى المتمثل في تنمية البلد وازدهاره. غير أن الإقتناع بوجود أزمة حقيقية تتخبط فيها المدرسة المغربية لهو سبب كاف لتدشين مسلسل من الإصلاحات في المنظومة التربوية ككل، وهو ما جعل "البنك الدولي" يعطي تقريرا أسودا مخيبا للآمال، وبالتالي فإن الحديث عن الإصلاح هو بالأساس حديث عن رهان الاستجابة لحاجات المجتمع ومتطلباته، فعندما لا تكون المدرسة بمنتوجاتها المعرفية والقيمية والمهاراتية عند حسن ظن المجتمع وانتظاراته، أي حينما تعجز المدرسة على تلبية أغراض المجتمع وأهداف أفراده، وعلى رأسها الترقي الاجتماعي، حينئذ تشتد الأزمة وتستفحل، وهو نفسه ما يلح عليه "الميثاق الوطني" في توجهاته على أن المدرسة تمثل محركا حقيقيا للتقدم الاجتماعي وعامل من عوامل التنمية البشرية، كما أنها مجالا حقيقيا لترسيخ مجموعة من القيم من مواطنة وتسامح وسلوك مدني وقيم حقوق الانسان والحوار...لكن واقع الممارسة يثبت بالملموس عكس هذه التنظيرات ما يجعل العلاقة بين واقع المدرسة ورهانات المجتمع أو قل واقع المدرسة ورهانات التنظيرات الإصلاحية موضع تساؤل، فبأي معنى إذن نتحدث عن اللاتطابق بين المدرسة والمجتمع أو أزمة تنظير/تخطيط العلاقة بين المدرسة والمجتمع؟
تجديد العلاقة البيداغوجية ـ ذ. محمد الجيري
" L’école n’est pas une guerre entre élèves et maître, c’est une collaboration affectueuse, une lente ascension commune vers la connaissance et l’amour. "
Henri Vincenot.
يحمل الواقع اليومي تحديات جديدة وكثيرة بالنسبة للبناءات النظرية، وتتسارع وتيرة التحولات التي يشهدها الراهن ما يفضي إلى تآكل أدوات وآليات النظام المدرسي أمام تغول التكنولوجيا وسطوة التغيرات التي تشهدها الأجيال الحالية للمتعلمين، وتحول ثقافة الشباب، وانتظارات المجتمع.لا بد من الوعي باللحظة التي يوجد فيها المشتغلون بالتربية والتكوين، ومن اعتبار الوضع العام للمدرسة والمعارف المدرسية، وعلاقة ذلك بالمحيط العام والخاص، وبل وعلاقات كل ذلك بالتلميذ، فلا حاجة للتذكير بأن العالم اليوم أضحى أكثر تعقيدا مما نظن، فالسياق المجتمعي الحالي ما فتئ يطرح على المدرسة معادلات تربوية معقدة من قبيل أفق العلاقة البيداغوجية، ومعها يصبح من الضروري مساءلة دور المدرسة كفضاء للتنشئة الاجتماعية من حيث قدرتها على إيجاد مناخ سليم لإقامة علاقات تربوية وبيداغوجية متوازنة متحررة من قبضة الماضي، مواكبة لروح العصر، وبالتالي مسهمة في تحرير الطاقات ومنتجة لفرص التحصيل والنجاح الدراسي. وما يضفي على هذه العلاقة طابعا إشكاليا كون انتظارات المجتمع من المدرسة لا تلتقي أحيانا مع حاجيات وميوله، ولذلك فإن فعل الإكراه - الذي يمارسه النظام المدرسي على زبنائه لتحقيق غاياته-، وما يولده من توتر يتحول إلى خاصية ملازمة ولصيقة بالعمل المدرسي.
سياق التجديد
"الدعامات الديداكتيكية المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة" وتدريس التاريخ والجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي :نموذج المضمون الرقمي : أية قيمة مضافة ؟ ـ عبد الرحمان شهبون
مدخل إشكالي :
في إطار مواكبة المدرسة المغربية للمستجدات التكنولوجية الحديثة والرهان على عملية تحديث وتجويد المنتوج التربوي، في أفق اللحاق "بمجتمعات المعرفة"، انصب الاهتمام الرسمي على أهمية إدماج الآليات المرتبطة بتكنولوجيا المعلومات والاتصال التربوي ضمن العملية التدريسية بما فيها تدريس مادتي التاريخ والجغرافيا بالتعليم الثانوي التأهيلي بغية الاستفادة من كل ما تقدمه فضاءات الأنترنيت والمضمون الرقمي من منتوج تربوي رقمي محين ومتنوع، بإمكانه المساهمة في الارتقاء بتدريسية المادة شكلا ومضمونا...
ويكتسي هذا التجديد البيداغوجي – التكنلوجي حاليا أهميته من كونه يشكل أحد المداخل الأساس التي ينبني عليها إصلاح منظومة التربية والتكوين في سياقها العام، وتحديثا للمناهج الدراسية في أبعادها الشاملة، بهدف تجويد تدريسية المواد الدراسية بالمرحلة الثانوية التأهيلية، ومنها على الخصوص مادتي التاريخ والجغرافيا أملا في إعادة إحياء بريقهما ومكانتهما الوظيفية، ومسايرة منحى التطور المجتمعي بصفة عامة، واهتمامات الأجيال الحالية من المتعلمين المولعة بهذه التكنولوجيا الحديثة، وجعل آلياتها المعلوماتية في خدمة عمليتي التعليم والتعلم والارتقاء بمحتوى العرض التربوي...
وإذا كان هاجس "الإطار الماكرو - تكنلوجي" هو الأكثر حضورا لاستخدام وتوظيف هذه الآليات المعلوماتية الحديثة ضمن الخطاب الرسمي للوزارة الوصية على قطاع التربية والتكوين بالمغرب، فإن النقاش الحاد والمثير للجدل والمغيب ضمن صلب هذه المعادلة التحديثية، هو غياب التساؤلات ذات الطبيعة البيداغوجية والديداكتيكية حول الخطوات المهارية والمنهجية والمفاهيمية الأساس والكفيلة بحسن استعمال واستثمار هذه الآليات المعلوماتية الحديثة في العملية التدريسية. والقيمة المضافة التي يمكن لهذه الدعامات التكنلوجية الحديثة أن تحملها في أفق تجويد وتحديث تدريسية مادتي التاريخ والجغرافيا...
العلاقة أستاذ- تلميذ في مادة الفلسفة: دراسة في التمثلات والتوافق الدراسي ـ محمد الحوش
مقدمة
إن أهم خاصية تميز المجتمعات المعاصرة بما يميزها من توجه نحو الفردانية هي بروز مفهوم الذات والهوية الخاصة، والتوجه أكثر نحو التحلل من ضوابط الجماعة وقواعدها، وما ينتج عن ذلك من تبعات. إن هذا الحكم وبالرغم مما قد يكون لنا عنه من تحفظ خصوصا في المجتمع الذي نعيش فيه، فهو يبقى ذو أهمية قصوى إذا ما استحضرنا طبيعة العينة التي أجرينا معها هذه الدراسة، والتي يتراوح سنها ما بين 14 و 17 سنة، أي أنها تعيش مرحلة المراهقة بكل ما ينتج عنها من تغيرات واضطرابات، وإعادة صياغة أفكارها حول الكون بصفة عامة وحول المواضيع التي تدخل معها في علاقة مباشرة .
مناسبة هذا الاستهلال هو كون التلاميذ الذين يشكلون عينة بحثنا يتميزون بتلك الخصائص. وبالتالي، من الأكيد أنهم يتأثرون أيضا بما ينتج عنها من نتائج مرتبطة ببروز مفهوم الذات، وبالسعي لتحقيق الاستقلالية الخاصة والتي يكون من أهم تجلياتها تحقيق الاستقلال على المستوى المعرفي، والسعي لبناء تصورات خاصة نحو ما يرتبط بكل ذلك. وإذا كانت هذه الفئة من المتمدرسين كذلك، فإن سعيها سينصب على بناء موقف من الفضاء المدرسي والمؤسسي بالدرجة الأولى.
من أجل مقاربة بعض مكونات هذا الفضاء المذكور بمنهجية علمية في علاقته بالتلميذ، اخترنا دراسة تمثلات التلاميذ لمكون من مكونات هذا الفضاء وهو مدرس مادة الفلسفة، وعلاقة تلك التمثلات بتحقيق توافقهم الدراسي، كونه يعبر عن مدى نجاح أو فشل التلميذ في التعامل مع الواقع بناء على ما قام ببنائه من تمثلات سابقة حوله.
1- موضوع الدراسة
إن نجاح العملية التعليمية التعلمية لن يكون مكتملا دون وجود تكامل ما بين المتدخلين في هذه العملية عموما والمتدخلين بشكل مباشر على وجه الخصوص، ونقصد هنا التلميذ والأستاذ في علاقتهما البينية من جهة وعلاقتهما بالمعرفة من جهة أخرى .
التربية على الديمقراطية والتعايش زمن الكراهية والاعتداءات : نموذج بيداغوجي من أجل الديمقراطية – فيليب ميريوه(2016) ـ ترجمة : ت.محمد أبرقي
يَأسُ المُربّين انتصارٌ للإرهابيين.
بهذه العبارة ينهي فيليب ميريوه توطئة مؤلفه الجديد الذي وسمه بعنوان مثير"التربية بعد الاعتداءات" فنحن-يضيف-نعلم أن الحياة كانت دوما هشة،والإنسان كما الديمقراطية خلال لحظات يصيران تحت تهديد القوى التقليدية التي لا تزال تقطن عالمنا،ونعرف أن كل ما يشدنا في العمق قاتل،والحلكة يمكنها ذات يوم سحب الأمل في قدوم النور...
فما الذي يمكننا القيام به بهدف إسماع المنطق وصوت العقل لمن اختار سبيل اللاَعقل؟
مشاعر ديمقراطية:
واجب جَرد المكاشفة وواجب الابتكار.
يلزمنا،فعلا،القيام بجرد بيًنٍ للطريقة التي بها تركنا مؤسساتنا تنحرف لدرجة صارت تفقد معها جزءا كبيرا من الثقة.لقد عبَر كل من"فرانسوا جُورو" كما "إيريك فافي"الكاتب العام المساعد لعصبة المدرسين حول ذلك الموضوع ومنبر"المقهى البيداغوجي"،وذكروا بأن المدرسة لا تفِي حقا بوعودها،وأن الحق في تربية ذات جودة من أجل الجميع يظل وبشكل عريض مجرد أمنية...
ينبغي الإنصات لهم،دون الميل نحو الاتهام المثير للدموع بعبارات مثل"كان علينا أن..."ولكن،وهو ما يفرض نفسه الآن،وبتحمَل النظر إلى الأمام،بالقول:"يجب علينا أن...". كيف يمكن تَحمُل زحزحة القارات المدرسية التي ظهرت في بلدنا؟كيف يمكن تبرير الطابع المشين الشكلي للتربية المدنية والفنية؟كيف يمكن تقبل حرمان عدد من الشباب (في الثانويات المهنية ومراكز التكوين)من التكوين الفلسفي بينما-حسب دراسات ميدانية-هم يرغبون في ذلك؟كيف يمكن التساهل مع فقدان الطابع المؤسساتي للمرافق المدرسية حيث نوع من العَملقة-باسم اقتصاديات السُلم الشهيرة-يزرع اللامبالاة،ويترك الضغط والعنف يتطوران؟ كيف نبرر هذا التخلي الطوعي والمرغوب عن "مستقبل مشترك" يفرض نفسه اليوم أكثر،وحيث الاختلافات(عدم الاعتراف بها) تُهدِّد،إن لم يتم حصرها ضمن مشروع جماعي،بتفجير هياكلنا الاجتماعية؟
وسائطية التربية بين إعداد الفرد وتنمية المجتمع ـ د.زهير الخويلدي
"تشكل التربية النقطة التي يتقرر فيها ما إذا كنا نحب هذا العالم بما يكفي لنتحمل مسؤوليته ونعمل على إنقاذه من هذا الخراب الذي سيؤول اليه حتما، لولا هذا التجدد، ولولا وفود اليافعين الجدد عليه" [1]
التربية هي تبليغ الشيء الى كماله وذلك عن طريق تطوير الملكات المعرفية عند الإنسان بالتدريب وتنمية الوظائف النفسية بالتمرين واكتساب المهارات. وحينما يربى المرء فإن ملكاته تتقوى وقدراته تزيد وسلوكه يتهذب ويصبح صالحا للحياة الاجتماعية ومؤهلا للوسط المدني ومعمرا للأرض ومدبرا لصلاح الكون. اللافت للنظر أن ريكور لم يترك فلسفة للتربية واضحة المعالم ولكنه يستنجد بالتربية كتدبير إتيقي بعد أن بان له فشل سلطة السياسة وواجب الأخلاق في اقتلاع بذور الشر المزروعة في الطبيعة والثقافة الإنسانيتين على السواء وقد اقتدى بأعمال ليسنغ في » تربية النوع البشري« وجون جاك روسو في سفره الكبير »إميل« وبكانط في كتابه في التربية وتأثر أيضا بحنة أرندت في مقالها أزمة التربية [2]. فكيف شخص بول ريكور أزمة التربية في المؤسسات التعليمية الغربية؟ ماهي أسباب الأزمة التربوية؟ وما طبيعة تأثير هذه الأزمة على التطور العلمي والسلم المدني والتنوير الثقافي؟ وهل قدم البديل المطلوب؟
لقد توجه التفكير في التربية عند ريكور نحو نزع طابع الشر عن الفعل الإنساني وتأسيس شروط إمكان الفعل الحصيف الخال من العنف والكذب وارتكاب الأذى وإحداث الضرر للغير ودون تخليف الضحية، ولذلك كان هاجس ريكور الأكبر هو اتباع تربية تنظم الفضاء العمومي وفق قيم الديمقراطية وبما يسمح بالعيش المشترك والمحافظة على التعددية واحترام الاختلاف وصيانة الحقوق والحريات وضمان التنوع. كما تحرص التربية على إقامة علاقات إتيقية بين الذوات ترتكز على قيم الثقة بالذات من أجل التخلص من جميع أشكال العنف وبلوغ الاندماج الطبيعي وعلى قيم احترام الذات من أجل تفادي كل أشكال الحرمان والاستبعاد والوصول إلى الاندماج الاجتماعي وعلى قيم تقدير الذات من أجل التخلص من مشاعر الاهانة والازدراء وتعزيز مبادئ الحب في العائلة والحق في المجتمع والتضامن في الدولة.
علاوة على ذلك يكشف ريكور عن التوازن الصعب الذي تقوم به التربية بين الطبيعة والثقافة وبين الهمجية والحضارة وذلك بتأكيده أن» التربية بالمعنى القوي للكلمة لا يمكن أن تكون سوى التوازن العادل والصعب بين مطلب الموضعة أي التكيف ومطلب التفكير واللاّتكيف، هذا هو التوازن الممتد الذي يبقي الانسان واقفا« [3].
المعلّم ومهام التربية على المواطنة البيئيّة ـ عبدالله عطيّة
التربية مشغل مجتمعيّ حسّاس ودقيق ،وحساسيته مردّها انتظارات المجموعة الوطنيّة منه في كلّ قطر، ولذلك فالاستثمار في المعرفة اليوم رهانٌ تتنافس من أجله الأمم والشعوب ،ويُباهي بإنجازاته بعضُها البعضَ، فضلا على أنّ مقياس رقيّ المجتمعات أضحى تربويّا ومعرفيّا. فالتربية مدرسيّة مثلما هو معلوم ،والمدرسة هي المؤسّسة المُناط بعهدتها وظائف ثلاث :الوظيفة التربويّة والوظيفة التعليميّة والوظيفة التأهيليّة ،أمّا عن الوظيفة الأولى فتتمثل في "تربية الناشئة على الأخلاق الحميدة والسّلوك القويم وروح المسؤوليّة والمبادرة ،وهي تضطلع على هذا الأساس :
- بتنمية الحسّ المدنيّ لدى الناشئة وتربيتهم على قيم المواطنة...
- بتنمية شخصيّة الفرد بكلّ أبعادها الخلقيّة والوجدانيّة والعقليّة والبدنيّة..
- بتنشئة التلميذ على احترام القيم الجماعيّة وقواعد العيش معا.."
أمّا الوظيفة التعليميّة للمدرسة فتظلّ من أدقّ الوظائف التي تعمل من أجلها، وتتمثل بالخصوص في "ضمان تعليم جيّد للجميع يتيح اكتساب ثقافة عامّة ومعارف نظريّة وعمليّة ،ويمكّن من تنمية مواهب المتعلّمين وتطوير قدراتهم على التعلّم الذاتيّ والانخراط في مجتمع المعرفة..." ولعلّ الوظيفة الثالثة للمدرسة هي بنفس أهمّية الوظيفتين الأٌوليين ،فهي "تسعى إلى تنمية مهارات وكفايات لدى خرّجيها حسب سنّ التلميذ والمرحلة التعليميّة، وتتولّى مؤسّسات التكوين المهنيّ والتعليم العالي تطوير هذه الكفايات والمهارات لاحقا..." (1) وفي انسجام كلّيّ مع هذا المدخل النّظري الذي حدّد وظائف المدرسة في النظام التربويّ التونسيّ قدّم تقرير اليونسكو المسمّى "التعليم ذلك الكنز المكنون" الذي تمّ اعتماده سنة 1995 تصوّره لدور المؤسّسة التربويّة في القرن الحادي والعشرين مستندا إلى أربعة مبادئ أساسيّة:
- التعلّم للمعرفة.
- التعلّم للعمل.
- التعلّم للعيش مع الآخرين ، - التعلّم ليكون المرء.
المدرسة و مهام البناء الديمقراطيّ ـ عبدالله عطيّة
توطئــــــــــــــــــــــــــــــــــــة:
يقتضي منطق الاهتمام بالعلاقة بين النّظم التربويّة وموادها التعليميّة وبين البناء المؤسسيّ الديمقراطيّ الانطلاق من استشكال طبيعة هذه العلاقة ومشروعيتها، فلئن كان من البديهيّ- أي في مستوى المتصوّر العام- اعتبار غائيّة الفعل التربويّ تمرير المعارف ودحر الجهل وتوفير الكوادر التي يحتاجها المجتمع في شتّى مناحي الحياة ،فإن مثل هكذا تصوّرا غدا لا معنى له في خضمّ التحوّلات التي ترافق الوجود البشريّ وتخصيصا ما كان منها موصولا بالقيم وطرائق السّلوك والعلاقة بالآخر المحلّي والعالمي. وعليه فإن المؤسّسة التربويّة اليوم و في ظلّ الثورة المعلوماتية وتنوّع تكنولوجيات الاتّصال الحديثة والمتجدّدة تبدو فضاء ينشد فيه المتعلم صورة للمربّي لا يصادفها إلا نادرا ،وفضاء يبحث فيه المربّي عن متعلّم لا يكون غريبا عنه فلا يعثر عليه .المتعلم لم يعد - كما كان طويلا – منتوجا مدرسيّا خالصا والمدرّس كذلك ما عاد المحتكر الوحيد للعلم والمعرفة، بل إنّ حاجات أجيال المتعلمين اليوم مشدودة إلى ما هو كونيّ مشترك لا مجال لإنكاره أو تجاهله يتمثل في حقّها في أن تساهم في صياغة مواطنة وطنيّة وعالمية تتأسّس على منظومة حقوقية يكون الإنسان وسيلتها وغايتها. فلقد أضحى من المتأكد وجود علاقة وثيقة بين حقوق الانسان من جهة ، وبين التنمية بأبعادها المتنوّعة من جهة ثانية .ذلك أن حقوق الانسان كلّ مركب لا يحتمل التجزئة ،وهي تستدعي التعامل معها في شموليتها: السياسية والتربويّة والمدنيّة والاقتصاديّة والثقافيّة وأيضا الحقوق الجماعية باعتبارها آخر أجيال هذه الحقوق ،ونعني بها الحقّ في الأمن والسّلم والتضامن وفي البيئة السليمة.
التلازم وثيق إذن بين التربية على المواطنة وبين أسس الدّيمقراطية أعني بين الحقل المعرفيّ والبيداغوجي(المدرسيّ-التربوي) وبين الحقل السّياسيّ والمدنيّ (نظم الحكم) فكيف تتجلّى هذه العلاقة ؟ وما هي مرتكزاتها؟
الإطار الاستراتيجيّ للتربية على الديمقراطيّة: