بينما كانت الفلسفة ذائعة في فكر العصور الوسطى، وأوروبا تعيش تحت سيطرة الكنيسة واللاهوت، ظهرت جهات وشخصيات تمردت بفكرها على النظام الفكري الذي كان يسود في العصر القروسطي. من المعاناة التي عاشها الفكر، انبثق فكر جديد، فكر لا يدرس الوجود بل يدرس المعرفة وكيفية نشأتها، لا يدرس الأنطولوجيا بل يدرس الإبستيمولوجيا. وعلى سبيل المثال، المذهب العقلاني مع الفيلسوف ديكارت الذي خصص منهجًا وطريقًا للعقل، وكذلك في إنجلترا انبثق المنهج التجريبي مع فرانسيس بيكون ونقده للمنطق الأرسطي وتسليطه الضوء على الأوهام المحيطة بالعقل البشري. وهكذا كانت بداية لفلسفة جديدة وعصر جديد فكريا وهو العصر الحديث ، الذي تمرد فيه على اللاهوت وفتح آفاقًا للعقل، وكانت بداية لخروج أوروبا من ظلمات العصر الوسيط، أي الظلام من جهة الحروب التي كانت تعيشها في تلك الفترة والسيطرة الكنسية .

التأسيس الفعلي للفكر والفلسفة في العصر الحديث يبدأ مع ديكارت وتركيزه على الهيمنة على الطبيعة ويصبح الانسان حاكم الطبيعة . هكذا اعتبر البعض أن العصر الحديث بدأ مع ديكارت.

وللغوص في فكر  العصر الحديث، لا بد لنا من ذكر الفلاسفة الذين ساهموا في تحقيق ثورة ونهضة فكرية على المستوى الأوروبي وافكارهم ، وكذلك الظروف المساعدة على تحسين الفكر من التعصب والانغلاق إلى الانفتاح والتسامح والتطور.

       الفكر لا يتغير إلا بظهور فكر أفضل ومقنع أكثر. بدايةً، شهدت أوروبا تحولاتٍ كثيرة في شتى المجالات مما جعل النهضة الفكرية حليفها. قاد هذه الثورة الفلاسفة ، بدايةً مع رينيه ديكارت(1650-1596) الذي خصص قواعدًا للمنهج وجعل الشك سبيلًا للتفكير، خاصةً الشك في الأمور كلها باستثناء الدين والسياسة استبعدهما ورغم أنه شك في وجود الله ومسح الطاولة ، إلا أنه ظل وفيا للكنيسة  . وظهر بعده باروخ سبينوزا (1677-1632)من نفس المذهب لكي يسقط القناع عن السياسة و يواجه الاستبداد الديني من خلال كتابه " رسالة في اللاهوت والسياسة " ، وأيضا كتابه " علم الأخلاق " ،ويمكن القول إن باروخ سبينوزا واحد من أعظم فلاسفة القرن السابع عشر وأحد أهم مكتسبات الحداثة الأوروبية الذي كان قد جاء قبل أوانه في عصر لا يزال غارقا في الظلام ولم تكن حتى بوادر التنوير قد ظهرت بشكلها المعروف، لذلك كان المُفكر المُفترى عليه من المتدينين اليهود والمسيحيين في أوروبا للدرجة التي جعلت أحد اللاهوتيين يكتب عبارة لتوضع على قبر سبينوزا تقول “هنا يرقد سبينوزا.. أبصقوا على قبره”.([ 1 ])

تراتيبية تصنيف الوعي

حسب تاريخ الفلسفة نستطيع عمل تراتيبية نوعية توصيفية زائفة لا معنى حقيقي لها بين ثلاث مصطلحات تم ويتم تداولها في الفلسفة الحديثة هي الوعي بما هو نتاج عقلي منفصل تماما عن القصدية والجوهر الخالص وهو توصيف خاطيء مشوّه للوعي كفاعلية عقلية. فحين تقول (وعي) فإنك بذلك أردت أم لم ترد تقصد به الذات العارفة في حمولتها الوصول الغائي نحو تحقيق هدف مرسوم بذهنك (قبل) الشروع بممارسة وعيك الاشياء والموجودات في عالمنا الخارجي. هذا اذا ما إعتبرنا الوعي بعدي على قبلي يسبقه هو الشيء الموجود المستقل بذاته بمعنى توفر موضوع الوعي الادراكي..

النوع الثاني من الوعي هو الوعي القصدي الذي تتحدد فاعليته الفلسفية الموجودية بحمولته القصدية الملازمة له أي لموضوعه وهي النسخة الكاربونية المستنسخة لما ذهبنا له قبل اسطر بفارق الافتتان بالتسمية المصطلحية فلسفيا.. كنت ذكرت في مقالتي السابقة أن مصطلح الوعي القصدي كان برينتانو ابتدعه ليتلقفه من بعده تلميذه هوسرل صاحب الفلسفة الظاهراتية واشياعه اقطاب الوجودية الملحدة هيدجر وسارتر و وميرلوبونتي.

أما الوجودية المؤمنة فاقطابها هم ياسبرز وجبريل مارسيل رجل الدين اللاهوتي المسيحي الذي كان له تاثير فلسفي كبير جدا في مباحث فلسفية خارج نطاق مباحث الفلسفة الايمانية في الدين وخاصة في فلسفة الاغتراب. طالما قادنا هذا الاستطراد الى الوجودية فمن غير المعقول عدم التطرق الى رائد الوجودية الحديثة الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجورد الذي توفي في ريعان شبابه اقل من اربعين سنة وكان متدينا مخلصا انكر العقل ليبشر بالايمان الديني القلبي ولا تزال هذه النظرية الايمانية سارية المفعول الى يومنا هذا. كان كيركجورد متاثرا بافكار كلا من نيتشة وهوسرل ومستنكرا افكار هيجل في الديالكتيك المثالي للتطور التاريخي. وضع كيركجورد اسس الفلسفة الوجودية بنقطتين هامتين جدا:

  • اعتبر الوجود سابقا على الماهية او الجوهر. وقد اخذت الماركسية بهذا المبدأ الاستراتيجي الهام الذي انكره وبشدة متطرفة اسبينوزا قائلا الجوهر او الماهية تسبق الوجود ونحن حسب قوله ندرك الوجود بدلالة الجوهر.
  • خالف سورين كيركجورد هيجل حول التطور الجدلي المثالي للتاريخ قائلا إن التاريخ لا يسير بحتمية المسار الخطّي كما يتوهم هيجل معاصره الذي تحركه عوامل موضوعية خارجية. بل التاريخ تحكمه القطوعات او القفزات النوعية التي تجعل التاريخ يتطور بخطى نوعية تطورية بتاثير من سيرورة الواقع. وبخصوص ماسماه كيركجورد القفزة التطورية النوعية في التاريخ سحب مقولته على محاربة العقل والانحياز للايمان القلبي. قائلا الايمان الديني لا يحققه التفكير العقلي بل يحتاج الانسان الى قفزة نوعية في المطلق الديني الذي مصدره القلب.

الهدف من هذا المقال إلقاء نظرة على التفكير المساواتي لأحد ألمع الفلاسفة والمفكرين الاقتصاديين في القرن التاسع عشر: جون ستيوارت ميل.
- وقوعه في مرجل الفلسفة النفعية منذ نعومة أظافره
ولد جون ستيوارت ميل عام 1806. كان والده جيمس ميل، هو الآخر، فيلسوفا ومفكرا اقتصاديا، وشخصية بارزة في الحركة النفعية التي أسسها جيريمي بينثام .
كانت النظرية البنثامية التي انغمس فيها جون الصغير جذابة: إذ تفترض البحث "الطبيعي" عن السعادة من قبل كل فرد، فهي تريد تحديد الآلية التي يمكننا من خلالها جعل إضافة نوايا السعادة الفردية هذه رأس مال الرفاهية الجماعية. بطريقة ما، يتعلق الأمر بتحديد ورقة مهمة "اليد الخفية" الشهيرة التي، عند آدم سميث، تحرك بقوة المصالح الفردية من أجل تعزيز المصلحة العامة.
بالنسبة إلى بنثام، المنفعة هي المكون السحري في وصفة "السعادة الأعظم لأكبر عدد". ولذلك فهو يعتمد على شكل من أشكال العقلانية التي توجه العمل لدى كل شخص نحو السعادة، التي يخلط بينها وبين المتعة: السعادة تكون أفضل عندما تستمر، وبالتالي سيكون الفرد قادرا على توفير الموارد التي يجمعها (موارد طبيعة، مثلا) حتى لا تهان متعته المستقبلية؛ تكون السعادة أفضل عندما تكون "ممتدة"، لذلك يسعى الفرد إلى مشاركتها مع الآخرين (نحن نقدم جزءً من أجرنا الزهيد، لأنه من الممتع تناول العشاء مع الأصدقاء بدلاً من أن نحشو بطوننا بالطعام منزوين في ركن)؛ فالسعادة تكون أفضل عندما تكون "خصيبة"، ولذلك يفضل الفرد السعادة التي تخلق مصادر أخرى للسعادة على السعادة المدمرة للذات التي تقتل الدجاجة التي تبيض ذهباً...
أليست البرمجيات المغرية هي التي توفق بين الأنانية المنظمة والأخلاق الحضارية؟ تهب رياح حقيقية من التفاؤل على عالم الأفكار مما وراء بحر المانش...
- عندما يكتشف جون العواطف، يلتقي بالمرأة و"يقتل الأب"
في البداية، كان جون، يشتغل كمارد موهوب (درس الاقتصاد والفلسفة بلا كلل منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره)، بثقة في النفس وقناعة راسخة.
لكن في العشرين من عمره، كانت الصدمة: ضحية لما نسميه اليوم "الإرهاق" (اكتئاب عميق مرتبط بالإرهاق في العمل)، فجأة رأى نفسه "آلة تفكير" يجب، رغم الأعمال التي لا تشوبها شائبة للدوكسا النفعية التي اقترن بها، أن تقوم بمعاينة أنه ليس سعيدا... لكن ذلك ما حدث إطلاقا، وعزاه إلى أنه لم يترك مساحة كافية في حياته للأحاسيس، للمشاعر وللعواطف. في هذا الوقت وجد الراحة في شعر ويليام وردزورث الغنائي الذي ألهمه بفكرة “النفعية غير المباشرة”، ورفع القيم، المشاعر والعواطف إلى مرتبة “المصالح".
وسرعان ما وجد في الحب أسبابا وجيهة لإعادة الاتصال بالأمل: فهو في الواقع يعيش علاقة عاطفية مع هارييت تايلور، التي تزوجت برجل آخر وظل ينتظرها ما يقرب من 15 عاما حتى يتمكن من الزواج بها. تعتبر هارييت نفسها ناشطة نسوية، ولديها موضوع عملها المفضل: الآثار الضارة لتبعية للمرأة المالية إلى الاقتصادات والمجتمعات. فقبل ​​قرن ونصف من نشر تقارير ماكينزي (من بين تقارير أخرى)، سلطت الضوء على الإهدار الهائل للموارد والمهارات الناتج عن عدم المساواة بين المرأة والرجل.
توصل جون ستيوارت ميل، مقتنعا بالعرض الرائع الذي قدمته رفيقته، إلى إدراك حاسم: والده وجميع أصدقائه من الفلاسفة والاقتصاديين والعلماء (بنثام، ولكن أيضا ريكاردو، مُنظِّر توزيع الثروة أو ألين، قاتل العبودية العظيم) انحازوا بالكامل إلى هذا الجانب من "المنفعة" التي يمكن أن تجلبها النساء إلى الجماعة، لكنهم مرة أخرى عاملوها بازدراء، وتجاهلوها على أساس أن مصلحة النساء ستدخل في مصلحة آبائهن وأزواجهن.

 تتوزع العقلانية المطبقة في فلسفة ليفيناس بين مستويين: مستوى نهج نصف منطقي ونصف عملي في علاقة الذات بالعالم، ومستوى مقاربة ما قبل منطقية في علاقة الذات بالمستقبل والألوهية. ويمكن إثبات الفرق في معالجة الموقفين من خلال الانتقال من المعنى إلى المعقول، وهما أفهومان أساسيان يشهدان هنا على تجاوز النظرية نحو ما وراء لا تتوافق وسائل مقاربته مع تلك التي يمارسها العقل. وبالتالي سيكون من الجدير التساؤل حول التمييز بين المقاربتين، التأملية وقبل التأملية، ذواتي أفق نشأة فكر ليفيناس انطلاقا من تجذره في فينومينولوجيا هوسرل.
- النزول على أرض الملموس
من بين الأطروحات التي قدمها من خلال أعماله، طور ليفيناس باستفاضة فكرة أولوية الحياة على الفكر. ويمكن تلخيصها بفكرة أن التجربة المعاشة هي أساس أي فعل ذي أساس نظري وليس العكس. تُظهر القراءة المتأنية لنصوصه منذ أطروحته الأولى (1928) أن الاكتشاف الفينومينولوجي لقصدية الوعي يجعل من الممكن تفضيل العملي على النظري، بطريقة لا تعود فيها الحقيقة تُعطى للذات تبعا لمعرفة قد تكتسبها ولكن بشكل مباشر وبدون وساطة مع ضمان أرضية أصلية موضوعية ملتزمة بالفعلي. من خلال الفحص الدقيق لهذه العلاقة القصدية بين الذات والموضوع، فضل ليفيناس الشاب هذا المنظور في الفكر الهوسرلي، "فلسفة حية [...] في قلبها يتعين الارتماء والتفلسف". ولذلك فإن ثيمة الملموسية هي التي تكشف أولاً عن الرهان المتمثل في المقاربة الهادفة إلى اكتشاف الواقع انطلاقا من الاستثمار المعرفي الذي يسطّح المسافة بين الواقع والمثال. وهذه الرؤية العامة التي احتفظ بها ليفيناس هنا من هوسرل هي التي تغذي التوتر بين الفكري والفعلي، والتي أصبحت تدريجيا، بالنسبة إلى ليفيناس، نقطة وضاءة وجهت تفكيره منذ الثلاثينيات إلى الستينيات. مثلت هذه المقاربة الأولى بالنسبة إلى ليفيناس الشباب إمكانية إعادة تأهيل علاقتنا بالعالم من خلال إعادة التوازن للعلاقة ذات-موضوع بواسطة الأفكار الفينومينولوجية عن الارتباط، عن قصدية الوعي التي تحقق هدف الأشياء كما أعطيت لنا، عن المعنى بآفاقها المفتوحة بشكل دائم لتوضيح العالم مباشرة انطلاقا من المعطيات الأصلية وأخيرا، عن تصور للذات يسمح لنا بالحديث عن فلسفة الذات التي تدرك العالم بينما تكون ملتزمة بواقعه الفعلي.
لكن سرعان ما نلاحظ أنه من خلال دفع هذه الأفكار إلى أقصى حدودها، وجد ليفيناس الشاب نفسه في مواجهة موقف فينومينولوجيي وصفه بأنه تأملي للغاية، واعتبره بالتالي غير كاف، معاتبا "هوسرل على فكرانينه". هذا التمشي، الذي ظل مرتهنا إلى حد كبير بتأثير هايدجر، ولكن أيضًا على ما وحد العديد من المفكرين الفرنسيين ضد المنزع التنظيري في الفلسفة في ذلك الوقت، مع المطالبة بالعودة إلى الملموس، استدعى نقدا للفكرانية. قادت هذه الاعتبارات ليفيناس، وكذلك ميرلو بونتي وسارتر، إلى إظهار أن أطروحة الملموسية لا تصمد أمام الفحص على الإطلاق، وبالتالي متهمين الفينومينولوجيا الهوسرلية بنزعة تنظيرية مفرطة. تم طرح الأسئلة التي غذن هذا الموقف الفلسفي الأساسي عند ليفيناس على النحو التالي:
هل هناك حقا أولوية للنظرية؟ هل هناك مثال للتأمل يجب احترامه؟
إن الرؤية العامة التي احتفظ بها ليفيناس من الفينومينولوجيا تظهر للوهلة الأولى أن المقاربة الهوسرلية بدت وكأنها تعترف بتكييف الملموس، مما عزز مرة أخرى الفكرة التي مفادها أن الفكر لا ينفصل عن الحياة. تلعب الوظيفة المرجعية للحياة دورا استراتيجيا إلى حد أن أي اتصال مع كائن ممثل يتطلب وجوده (ظهوره) أمام الوعي. لا ينطبق هذا المبدأ الفينومينولوجي فقط على إعطاء الأشياء المادية من خلال أفعال مدركة أو ملموسة، ولكن أيضا على تحقيق مقاصد المعنى المتعلقة بالأشياء الخيالية والمتخيلة وغيرها. وهكذا تحتاج مقاصد العقل إلى الخبرة حتى تتمكن من الانتقال من الوقائع المفترضة إلى البداهة المترابطة، وهكذا تكون التجربة المعاشة ضرورية لأنه بدونها يظل كل معنى غير مفهوم عبثيا.
مع هوسرل، يقول ليفيناس، لم نعد نسعى إلى إضفاء الشرعية على المعرفة في شكل بناء عقلي خوفا من تدخل عفريت شرير قد يصرف أفعال وعينا. في الواقع، جعل هوسرل غير شرعي البحث عن عنصر ثالث للوساطة بين الفكر والعالم التي جاءت لتوضيح وجعل الكينونة التي تقدم نفسها للعقل موضوعية. وتبعا لهذا الاكتشاف للقصدية بالتحديد، سيتمكن ليفيناس من التمسك ب"روح الفلسفة الهوسرلية" حتى في عمله المتأخر جدا "خلافا للوجود أوما وراء الماهية" (1974)(*).

مقدمة
عبارة "الفلسفة المعاصرة" هي جزء من المصطلحات التقنية التي تشير إلى فترة محددة في تاريخ الفلسفة الغربية وهي فلسفة القرنين العشرين والحادي والعشرين. ومع ذلك، غالبًا ما يتم الخلط بين هذه العبارة مع الفلسفة الحديثة التي تشير إلى فترة سابقة في الفلسفة الغربية، وفلسفة ما بعد الحداثة التي تشير إلى انتقادات الفلاسفة القارية للفلسفة الحديثة، ومع استخدام غير تقني للعبارة التي تشير إلى أي عمل فلسفي أخير. فكيف ادى الالتحاق بزيادة الاحتراف في التفلسف الى الانضباط وصعود الفلسفة التحليلية والقارية؟

على هذا النحو تميل الفلسفة المعاصرة إلى التركيز ليس على العمل المشترك بل على اعمال الافراد. لعل الفكرة المركزية في الفلسفة المعاصرة للفعل هي فكرة القصدية. يقال عادة أن ما يميز الفعل عن مجرد حركة جسدية هو النية والقصد. لقد طرح عالم الاجتماع ماكس فيبر نقطة مماثلة عندما وصف الفعل بأنه سلوك ذو معنى. وبالمثل، يبدو أن الأفعال المشتركة تفترض النوايا والمقاصد، وهي في هذه الحالة نوايا ومقاصد مشتركة. وهكذا لا يمكن للناس أن يتحدثوا إلا إذا كانت هناك قصدية مشتركة للتحدث. يتصرف أطراف المحادثة في ضوء قصدية مشتركة للتحدث، وذلك لتنفيذ تلك القصدية. إن قسماً كبيراً من العمل الفلسفي المتنامي المتعلق بالعمل المشترك يهتم بطبيعة القصدية المشتركة، أو بعبارات أقل رسمية، ما الذي نعنيه نحن بالاستعمالات الفلسفية في عصرنا؟ وهل يجب على الفلاسفة أن يظلوا هواة أم يجب أن يصيروا محترفين؟ وماهي معايير الانتقال الفلسفي من دائرة الهواية الى مصاف الاحتراف والمهنية؟

المهنية والاختصاص والاحتراف

لقد ولّى فعليًا يوم الفيلسوف كمفكر منعزل، والهاوي الموهوب صاحب الرسالة المميزة وترك مكانه للفيلسوف المختص وصاحب الحرفة والذي يمارس الفلسفة كمهنة مثل بقية المهن والاختصاصات الأخرى. عملية الاحتراف هي العملية الاجتماعية التي تحدد من خلالها أي تجارة أو مهنة قواعد سلوك المجموعة، والمؤهلات المقبولة لعضوية المهنة، وهيئة أو جمعية مهنية للإشراف على سلوك أعضاء المهنة، ودرجة معينة من ترسيم المؤهلين من هواة غير مؤهلين يؤدي التحول إلى مهنة إلى العديد من التغييرات الطفيفة في مجال البحث، ولكن أحد العناصر التي يمكن التعرف عليها بسهولة في الاحتراف هو عدم صلة "الكتاب" المتزايد بالمجال: "ستبدأ بيانات البحث في التغيير بطرق التي أصبحت منتجاتها النهائية الحديثة واضحة للجميع ومثبطة للكثيرين، لن يتم بعد الآن تجسيد أبحاث العضو في كتب موجهة إلى أي شخص قد يكون مهتمًا بموضوع المجال كمقالات مختصرة موجهة فقط إلى الزملاء المحترفين، الأشخاص الذين يمكن افتراض معرفتهم بالنموذج المشترك والذين يثبت أنهم الوحيدون القادرون على قراءة الأوراق الموجهة إليهم. لقد مرت الفلسفة بهذه العملية في نهاية القرن التاسع عشر، وهي إحدى السمات المميزة الرئيسية لعصر الفلسفة المعاصرة في الفلسفة الغربية. وكانت ألمانيا أول دولة احترفت الفلسفة. في نهاية عام 1817، كان هيجل أول فيلسوف يتم تعيينه أستاذًا من قبل الدولة، وتحديدًا من قبل وزير التعليم البروسي، نتيجة للإصلاح النابليوني في بروسيا. وفي الولايات المتحدة، نشأ الاحتراف نتيجة للإصلاحات التي أدخلت على نظام التعليم العالي الأميركي الذي يعتمد إلى حد كبير على النموذج الألماني. يصف جيمس كامبل إضفاء الطابع المهني على الفلسفة في أمريكا على النحو التالي: إن قائمة التغييرات المحددة خلال إضفاء الطابع المهني على الفلسفة في أواخر القرن التاسع عشر مختصرة إلى حد ما، ولكن التحول الناتج عنها يكاد يكون شاملاً. لم يعد بإمكان أستاذ الفلسفة أن يعمل كمدافع عن الإيمان أو مشرح للحقيقة. كان على الفيلسوف الجديد أن يكون قائدًا للاستفسارات ومعلنًا للنتائج. لقد أصبح هذا التحول واضحًا عندما حلت شهادات الدكتوراه في الفلسفة (غالبًا ما تكون معتمدة من ألمانيا) محل خريجي اللاهوت والوزراء في فصول الفلسفة. الفترة ما بين الوقت الذي لم يكن فيه أحد تقريبًا حاصلاً على درجة الدكتوراه. عندما فعل الجميع تقريبًا ذلك كان قصيرًا جدًا. علاوة على ذلك، كانت الدكتوراه أكثر من مجرد ترخيص للتدريس: لقد كانت شهادة بأن مدرس الفلسفة المحتمل كان مدربًا جيدًا، وإن كان على نطاق ضيق، وجاهزًا للقيام بعمل مستقل في مجال الفلسفة الأكاديمية المتخصص والمقيد الآن. ان عمل هؤلاء الفلاسفة الجدد في أقسام مستقلة للفلسفة لقد حققوا مكاسب حقيقية في أبحاثهم، وخلقوا مجموعة من العمل الفلسفي الذي يظل محوريًا في دراستنا حتى الآن. وضع هؤلاء الفلاسفة الجدد أيضًا معاييرهم الخاصة للنجاح، ونشروا في هيئات الفلسفة المعترف بها التي تم تأسيسها في ذلك الوقت: أحادي (1890)، المجلة الدولية للأخلاق (1890)، المجلة الفلسفية (1892)، ومجلة الفلسفة وعلم النفس والأساليب العلمية (1904). وبطبيعة الحال، كان هؤلاء الفلاسفة يجمعون معًا في مجتمعات جمعية علم النفس الأمريكية (1892)، والجمعية الفلسفية الغربية (1900)، والجمعية الفلسفية الأمريكية (1900) لتعزيز مواقفهم الأكاديمية والنهوض بعملهم الفلسفي. كان الاحتراف في إنجلترا مرتبطًا بالمثل بالتطورات في التعليم العالي. في عمله، يناقش دينيس لايتون هذه التغييرات في الفلسفة البريطانية ومطالبة جرين بلقب أول فيلسوف أكاديمي محترف في بريطانيا: هنري سيدجويك، في لفتة كريمة، حدد جرين كأول فيلسوف أكاديمي محترف في بريطانيا. من المؤكد أن رأي سيدجويك يمكن التشكيك فيه: ويليام هاميلتون، وفيرير، وسيدجويك نفسه هم من بين المتنافسين على هذا الشرف. ومع ذلك، لا يمكن أن يكون هناك شك في أنه في الفترة ما بين وفاة ميل (1873) ونشر كتاب مور المبادئ الأخلاقية (1903)، شهدت مهنة الفلسفة البريطانية تحولًا، وكان جرين مسؤولًا جزئيًا عن هذا التحول. كان بنثام، وميلز، وكارليل، وكولريدج، وسبنسر، بالإضافة إلى العديد من المفكرين الفلسفيين الجادين الآخرين في القرن التاسع عشرأناسًا من الأدباء والإداريين والسياسيين النشطين ورجال الدين الذين يعيشون، ولكن ليس الأكاديميين. لقد ساعد جرين في فصل الدراسة الفلسفية عن دراسة النصوص الأدبية والتاريخية؛ ومن خلال إنشاء منهج الفلسفة في أكسفورد، أسس أيضًا الأساس المنطقي لمعلمي الفلسفة المدربين. عندما بدأ جرين مسيرته الأكاديمية، تم نشر الكثير من الكتابات الجادة حول الموضوع الفلسفي في مجلات الرأي المخصصة لمجموعة واسعة من الموضوعات (نادرًا ما تكون فلسفة "خالصة"). ساعد في إضفاء الطابع المهني على الكتابة الفلسفية من خلال تشجيع الدوريات المتخصصة، مثل "الأكاديمية" و"العقل"، والتي كانت بمثابة أماكن لنتائج البحث العلمي. النتيجة النهائية لإضفاء الطابع المهني على الفلسفة تعني أن العمل الذي يتم في هذا المجال يتم الآن بشكل حصري تقريبًا من قبل أساتذة الجامعات الحاصلين على درجة الدكتوراه في هذا المجال وينشرون في مجلات عالية التقنية وخاضعة لمراجعة النظراء. في حين أنه لا يزال شائعًا بين عامة السكان أن يكون لدى الشخص مجموعة من الآراء الدينية أو السياسية أو الفلسفية التي يعتبرها "فلسفته"، إلا أن هذه الآراء نادرًا ما تكون مستنيرة أو مرتبطة بالعمل الذي يتم إنجازه في الفلسفة المهنية اليوم. علاوة على ذلك، وعلى عكس العديد من العلوم التي أصبحت صناعة صحية للكتب والمجلات والبرامج التلفزيونية التي تهدف إلى تعميم العلوم وإيصال النتائج التقنية للمجال العلمي إلى عامة الناس، فإن أعمال الفلاسفة المحترفين موجهة إلى الجمهور خارج المهنة تظل نادرة. كتاب الفيلسوف مايكل ساندل "العدالة: ما هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله؟" وكتاب " على هراء " لهاري فرانكفورت هي أمثلة على الأعمال التي تتميز بالتمييز غير المألوف المتمثل في أنها كتبها فلاسفة محترفون ولكنها موجهة إلى جمهور أوسع من غير الفلاسفة وتحظى بشعبية كبيرة في نهاية المطاف. أصبح كلا العملين من أكثر الكتب مبيعًا في نيويورك تايمز. فماهي مميزات المهنة الفلسفية؟

تمهيد
يبدو أن مجتمعنا المعاصر يضع الجسد في مركز اهتماماتنا. توجد عبارات مثل "اعرف كيف تستمع إلى كجسدك"، و"اعمل على محاربة الشيخوخة"، و"احرص على زيادة أداء جسدك" في كل صفحة من مجلات الرفاهية التي نتحدث فيها عن السعادة مثل ما يبدأ برفاهية الجسم وحتى ما يمكن أن يكون كافيًا لتكون سعيدًا. كلما أصبح المجتمع أكثر فردية، كلما بدا الجسد في مركز اهتمامنا وكلما زادت أهمية الصورة التي يعطيها جسدنا عن أنفسنا للآخرين ولأنفسنا. في هذه الحالة فإن السؤال المطروح “هل الجسد مكروه في الفلسفة والعلم” يبدو سؤالا غير معاصر” ويعيد صورة للفلسفة التي ترى أن الحكمة تمر عبر الزهد وترى الجسد هو الذي يمنع حرية العقل والنفس والروح. لكن أي تفكير فلسفي يبدأ أولاً في التشكيك في معنى الكلمات، وخاصة في حالة سؤالنا، فهو مسألة التشكيك في التعريف الذي نقدمه ل“الجسد”. ومن هنا فقط سنتمكن من الإجابة على السؤال المطروح، وقبل كل شيء، نفهم أن الفلسفة تجعل من مسألة الجسد وعلاقته بالروح سؤالًا أساسيًا ومعاصرًا تمامًا، وهذا منذ بداية الفلسفة اليونانية...فماهي منزلة الجسد في الفلسفة والعلم؟ وهل هو محل تثمين واستحسان ام موضع ازدراء واستهجان؟ ومتى تحرر وأمكن له استعادة مكانة مرموقة؟ وكيف يتصرف الانسان مع تمثلاته لجسمه في الحياة اليومية؟ واذا كان الجسد موضوع مراقبة ومعاقبة فمتى يتحرر ويتحول الى اداة مقاومة؟

  الجسد كموضوع للعلم

إن مسألة الجسد هذه، يبدو أن العلم هو الذي يجيب عليها بشكل أوضح، أو بالأحرى يجيب على سؤال عمل الجسم. كيف يعمل الجسم؟ سنرى أن هذا السؤال حول كيفية عمل الجسم افتتحته الفلسفة الديكارتية التي تمثل بداية المنهج العلمي الحديث. بالنسبة للمعرفة العلمية، فإن الجسم عبارة عن آلية تخضع للقوانين العقلانية التي يجب فهمها لعلاج الأمراض وتقليل معاناة المريض. الدماغ نفسه جزء من الجسم ويمكن للتقدم في التصوير الطبي أن يحاول "شرح" وتحديد ما كان يسمى سابقًا "الحالة الذهنية"، و"المرض العقلي"، و"العاطفة" والتي بدا أنها تنتمي إلى سر روح الإنسان. ومن هنا قد نميل إلى الاعتقاد بأن هويتنا يمكن تلخيصها في هذا الجسد الذي يمكنني تحسين أدائه بفضل التقدم في التكنولوجيا والطب، والذي يمكنني تعويض أوجه القصور فيه بفضل الأطراف الاصطناعية ذات الكفاءة المتزايدة التي تسمح لنا بأن نعيش حياة طبيعية. الحياة عندما يفشل جزء من جسدي. لا يسعنا إلا أن نبتهج برؤية كيف يمكن للتقنيات الطبية أن تساهم في رفاهيتنا وتسمح لجسد مشوه بأداء وظائفه مرة أخرى، خاصة وأن علم الأعصاب يبدو أنه يزيل كل الغموض عن العقل، ولكن يجب أن نقول "يبدو" لأنه هناك هو دائما سؤال يبقى دون إجابة للعلم وهو ما هو الجسم؟ والذي يأتي ليتساءل ما هي الحياة؟ ينشأ هذا السؤال عندما ندرك أن الجسد ليس مكان الأداء فحسب، بل هو أيضًا مكان الحياة الداخلية الحميمة للإنسان، وأن تشبيه العقل البشري بالذكاء الاصطناعي للآلات له حدود. بكل بساطة لأن الجسد الذي يتعامل معه العلم يتم تعريفه من حيث الأداء في حين أن علاقتنا بجسدنا هي علاقة الوجود. لدي جسد لكنني جسدي إلى الحد الذي يكون فيه جسدًا تحييه روح تفلت من كل تصوير طبي، وهو هذا الشيء الصغير الذي يجعلني فريدًا، هذا العدم الصغير تقريبًا يقوله يانكليفيتش الذي سيولد ليعيش ويموت والذي لا يتم الخلط بينه وبين جسد آخر. يجب على العلم نفسه، بالتواضع الذي يمنحه لقيمته، أن يدرك أن هناك شيئًا يفلت من اختزال الجسد في آلية بسيطة وأن استكشاف الدماغ لا يمكن أن يستنفد تعقيد الروح البشرية، وينضم العلماء العظماء إلى جهودهم من أجل تحقيق ذلك. ان فهم الإنسان الأسئلة الميتافيزيقية الخاصة بالفيلسوف. يمكننا استخدام مصطلح "الروح" بمعناه الاشتقاقي للإشارة إلى ما ينعش الجسد، كما يقول الرواقيون. ومسألة الجسد لا تأخذ معنى في الفلسفة إلا عندما تقع على مستوى العلاقة بين النفس والجسد.

 حتى لو كان الفكر، كما يقول هيجل، جاحدا، ليس من المحتم أن يظلم المفكرين. حتى لو بدت فلسفة الرياضيات للبعض أنها لا تواجه جميع المشكلات الفلسفية الأصيلة، فلا يمكن لأي من طلابها أن ينسى ما يدينون به لليون برنشفيك، كما لا يمكن لأي شخص يعرفه أن يستحضر، دون مرارة على الشفاه، الموت المأساوي لجان. كافاييس .
"الفهم، كما قال كافاييس عن مناهج الرياضيات، هو التقاط الإيماءة والقدرة على الاستمرار. إن الحديث عن كافاييس هو أولاً، وهذا ما ينبغي أن يكون، التفكير في الطرق الممكنة للاستمرار بعده. بالطبع، يتعلق الأمر في المقام الأول بالتاريخ، ومنذ ذلك الحين تمت كتابة تاريخ الرياضيات وفقا لمعاييره الخاصة، وغالبا ما يكون ذلك في فجوة ملحوظة مع تلك التي يمكن استخلاصها من عمله. لكن الأمر لا يمكن إلا أن يتعلق أيضا بمؤلف لم يعتقد أبدا أنه من الممكن الفصل بين هذين النوعين من الأسئلة، للفلسفة، ولفلسفة الرياضيات. ما الذي يمكننا الاحتفاظ يه من المصطلحات التي فكر بها كافاييس فلسفيا في الرياضيات، وخاصة في علاقتها بالتاريخ؟ تحت أي ظروف، وبأي عواقب على طريقتنا في كتابة تاريخ الرياضيات؟ ولا فائدة من القول بأننا سنكتفي هنا بتقديم بعض الملاحظات، فمن المؤكد أن مثل هذا المشروع يتطلب مساعدة جميع أولئك، من علماء الرياضيات وفلاسفة ومؤرخي الرياضيات أو العلوم، الذين ما زالوا يجدون الاهتمام والتحفيز عند قراءة كتاباته.
الدليل الأول هو أن المسافة التاريخية قائمة بيننا وبين جان كافييس. لها على الأقل نتيجتان واضحتان بشكل مباشر.
أولاً، القرب الحي الذي جلبه وحافظ عليه لفترة طويلة وجود معلمين من حولنا لم يعرفوه ويعملوا معه فحسب، بل شاركوا معه تاريخا، حتى لا نقول مصيرا، وقد اختفى هذا النوع من التواطؤ. ويبدو أننا، في الوقت نفسه، نقف الآن، في مقابله وفي مقابل أعماله، على نفس المسافة التأملية التي تفصلنا عن الأعمال العظيمة للتقليد الفلسفي - حتى مع الأخذ في الاعتبار توقفه الدرامي، ما تسبب في عدم الاكتمال الذي لم يتم إنقاذه دائما في أعمال فلاسفة العصور الأقل بربرية.
كان هناك بعد ذلك التطور الطبيعي والمشروع للنقد، سواء على يد علماء الرياضيات الذين، عندما تحدثوا من داخل الممارسة الرياضية، اعترفوا بأنهم أصيبوا بخيبة أمل بسبب الانفتاح الضعيف نسبيا لتفكير كافاييس على تنوع مجالاته، أو على يد فلاسفة مناطقة، حريصين على أن يتموقعوا إزاء إرث مثالية عقلانية معينة، هو فكر مشترك، وغير منكر، للمعلمين الذين تعرف عليهم. إذا تمكنوا من الحكم على تأكيد القوة العقلانية للرياضيات بأنه مقبول، فقد وجدوا أنه من الصعب قبول نظير عدم الثقة العنيد في ما يتعلق بتطورات المنطق الصوري، الذي يشتبه دائما في تفضيله ولادة الأرسطية السكولائية من جديد.

هل معرفة عالمنا الخارجي تنفي واقعية ذلك العالم؟ وهل صحيح أن كل معرفة تستنفد نفسها حينما تكون محصورة بواقعية معرفتها؟ يقول شيلر ويؤيده دلتاي بذلك أنه لا يوجد غير ثلاثة مناهج معرفية هي معرفة استقرائية علمية، ومعرفة تنصب على الماهية، وثالثا منهج المعرفة الميتافيزيقية. هذا ليس موضوع مناقشتي لهذه الاطروحة حاليا.

كما يذهب شيلرومعه دلتاي أن (العالم الخارجي وجود حقيقي، واذا كان كل موجود ينحصر في معرفته لما كانت لهذا الوجود "واقعية" لان الواقعية تصنع المقاومة في وجه مقاصدنا. وما يثبت الشيء هو الصدمة التي تحدثها لنا "المقاومة". نقلا عن دكتور زكريا ابراهيم.

هذا التجريد الفلسفي العصّي على التلقي لا يمنعنا من تثبيت مايلي:

  • يقر شيلر أن العالم الخارجي وجود حقيقي بمعنى أنه قابل للادرك حسيا وكذلك معرفته بإي منهج علمي متاح، وهذه المعرفة لا تنفي حقيقته الموجودية كينونة مستقلة. لا يصح التعميم ان موجودات العالم الخارجي تنتهي واقعيتها بمجرد الانتهاء من معرفتها التي تحدثها الصدمة التي مبعثها لنا المقاومة على حد تعبير شيلر. لا يشير شيلر ولا دلتاي توضيح علاقة ثلاث مفردات اقحمت مع بعضها إعتسافا غير فلسفي واضح. هي الواقعية والصدمة والمقاومة.
  • معرفة العالم الخارجي طالما هو وجود حقيقي فهو يكون بالضرورة وجودا ماديا ولا يحتاج برهان اثباته الواقعي. وطالما موجوداته واقعية فلا تنحصر معرفتها الابستمولوجية بجانب فلسفي او بمنهج احادي. كما لا يمكن للمعرفة الادراكية في منهج الاستقراء العلمي تجريد موجودات العالم الخارجي من واقعيتها بعد استنفاد منهج الاستقراء العلمي معرفتها..
  • موجودات عالمنا الخارجي هي موجودات حقيقية واقعية قابلة للمعرفة المنهجية. وليس لموجود بالمواصفات التي ذكرناه تسنفد واقعيته في تمام معرفته. ولا يوجد كما ذكرنا موجود تنحصر موجوديته في جانب معرفته المنهجية التي تنفي واقعيته الموجودية امام المعرفة الادراكية للعقل.
  • يذهب كانط الى أن العقل ليس كافيا للمعرفة ولا بد من توفر ما اسماه "مدخلات" نحصل عليها من العالم الخارجي لامتلاكنا المعرفة. وبدوري اجد المعرفة هي تراكم خبرة العقل في فهمه وتفسير الحياة والتعايش المتّكيف أو الاحتدامي المتصارع معها احيانا.
  • لماذا كل موجود تتحدد موجوديته كمعرفة تنبعث عنه ما اطلق عليه شيلر" المقاومة" أية مقاومة يقصدها شيلر.؟ موجودات العالم الخارجي التي تمتلك خاصية انها تحمل معنى ادراكيا لغويا هي معطى للمعرفة ولا يحدث في خصيصته هذه انه يحمل المعنى لا صدمة ولا مقاومة. عالمنا الخارجي بموجوداته المدركة معرفيا منهجيا علميا او غير علمي فهو لا يمتلك وعيا ذاتيا مدّخرا في رفضه امتلاك مقاومة ذاتية طاردة لامكانية معرفته المتاحة لنا كموضوع.
  • ما سبق واشار له فيلسوف اللغة لوفيدج فينجشتين أن تجريد موضوع الفلسفة لغويا من غير وضوح ملزم في المعنى يكون الصمت في هذي الحال أجدى. وإعتبر فينجشتين وأيده بشدة جورج مور عضو المنطقية الانجليزية بأن الوضوح الفلسفي اللغوي عامل اساسي في أن يكون للفلسفة وبخاصة فلسفة اللغة واللسانيات مستقبلا امام طغيان التقدم العلمي الذي يتهدد الفلسفة عامة.

مقدمة
«إذا كانت الدولة قوية فإنها تسحقنا؛ "إذا كانت ضعيفة، فسوف نهلك"، كتب بول فاليري ذات مرة، مما أثار مشكلة دور وشرعية الدولة تجاه المواطنين والمجتمع الذي تمارس عليه سلطتها. ولكن ماذا تعني الدولة حقًا؟  بشكل عام، تحدد الدولة إقليمًا وسكانه الخاضعين لسلطة الحكومة. (فرنسا والصين دول مثلا).ومع ذلك، وبشكل أكثر تحديدًا، تحدد الدولة شكلاً من أشكال تنظيم السلطة مرتبطًا بالمؤسسات والقوانين التي نسميها السلطة السياسية.   ينشأ مصطلح السياسة من الكلمة اليونانية POLIS التي تشير إلى المدينة (مثل أثينا أو روما او قرطاج على سبيل المثال) حيث يتم تحديد العلاقات بين الأفراد عن طريق القوانين. ومن ثم فإن السلطة السياسية، أي سلطة الدولة، هي سلطة وضع القوانين التي تنظم حياة الناس في المجتمع. وهكذا يميز بيير كلاستر بين المجتمعات التي تكون فيها سلطة الدولة هي المهيمنة وتلك التي تستمد فيها السلطة إما من القائد (المسماة السلطة الكاريزمية) أو من سلطة التقاليد والعادات (ما يسمى بالسلطة التقليدية). فما هي المناقشات التي تثيرها سلطة الدولة؟ في الواقع تقدم الدولة نفسها كسلطة شرعية، فهي تمتلك، على حد تعبير عالم الاجتماع ماكس فيبر، "احتكار العنف المشروع". لكن هذه الجملة قد أصبحت مفارقة بالفعل لأن العنف هو إساءة استخدام للقوة ولا يبدو أنه مبرر على أي حال، ولكن هذه الصيغة كاشفة أيضًا نظرًا لأن الدولة تتمتع بسلطة معاقبة الأفراد الذين ينتهكون قوانينها (بما في ذلك في بعض الحالات عن طريق عقوبة الإعدام). وإلى أي مدى تعتبر هذه السلطة مشروعة؟ فمن ناحية يمكننا تبرير وجود الدولة لأنها تلعب دورا ضروريا في إرساء النظام والأمن وضمان استقرار المجتمع. إن أصل كلمة "الدولة" يعزز هذه الفكرة: فهي تأتي من الكلمة مداولة و"استمرار" والتي تُترجم إلى "البقاء"، "الحفاظ"، فإن الدولة ستسمح للمجتمع بالحفاظ على وحدته ونزاهته. ومع ذلك، يمكن أيضًا إدانة الدولة باعتبارها جهازًا خارج المجتمع يعيش على حسابه ويمكن أن يعرضه للخطر من خلال الحروب التي يمكن أن يشعلها هذا الجهاز. كما يتم طرح مسائل الحريات الفردية والمساواة لتحدي دور الدولة أو القمع الذي يمارسه أصحاب السلطات السياسية. ومع ذلك، فإن هذه المناقشات حول فائدة الدولة ومزاياها وعيوبها ومخاطرها تستند إلى افتراض مسبق "فردي" يمكن بموجبه للفرد أن يوجد دون الدولة، ولكن هذا الافتراض نفسه يمكن التشكيك فيه. فهل الروابط بين المجتمع والدولة من جهة، والإنسان والسياسة من جهة أخرى، هي روابط تقليدية أم طبيعية فقط، كما يقول أرسطو الذي يعتقد أن البشر يتم تعريفهم بانتمائهم إلى مجتمع سياسي؟ يكتب في هذا المعنى: "الإنسان "هو حيوان سياسي" في نصه "السياسة". إذن، ما الذي تعبر عنه عضوية الدولة؟ ما هي الروابط التي تم إنشاؤها بين أفراد هذه الدولة؟ هل تم تأسيسها على أساس حساب بسيط للفائدة؟

مقدمة
يبدو مفهوم العدالة مفهوما ملتبسا اذ الكل يطالب به على الصعيد الحقوقي والكل يفتقده على الصعيد الواقعي والجميع يرفعه على مستوى الشعار والمطلب والجميع يخسره على مستوى الممارسة والعمل. كما ان الافراد يفتقدونه في حياتهم والمجموعات تتمنى تحقيقه في مجال التبادلات والعلاقات فيما بينها. هذا الاصرار الإيتيقي على اللحاق بالعدالة والتمسك بها كمبدأ تأسيسي وحق كوني ناتج عن ارادة جماعية مشتركة لتخطي عتبة الظلم والتمييز ومرده تلك الرغبة التي تنتاب الناس في ازالة الفوارق ورفع الجور وتحقيق الانعتاق من براثن التبعية والاستقلال التام عن كل قهر سياسي داخلي وسلطة غاشمة خارجية. فأين هي العدالة في الواقع؟ ولماذا تم تغييبها والاعتداء عليها؟ وكيف يمكن استجلابها واستنباتها في جل الاوضاع الانسانية؟ وما السبيل الى تحقيقها وضمان استمراريتها؟ والى أي حد تسمو عن كل توظيف؟

العدالة كمشكل

لقد سبق لافلاطون في محاورة الغورجياس ان أبرز التوتر بين العدالة حسب الطبيعة وحسب القانون بقوله:"في أغلب الأحيان، تتعارض الطبيعة والقانون مع بعضهما البعض. لأنه حسب الطبيعة، ما هو أكثر شرًا هو أيضًا أقبح، مثل التعرض للظلم، بينما يجب ارتكابه وفقًا للقانون. ليس من فعل الانسان أن يعاني الظلم، بل هو من فعل العبد، الذي الموت أفضل له من الحياة، والذي، مظلومًا ومهينًا، لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، ولا عن من هو فيهم مهتم. لكن في رأيي، القوانين توضع للضعفاء ومن قبل الكثيرين. ومن أجلهم ومن مصلحتهم أن يفعلوا ذلك وأن يوزعوا المديح واللوم؛ ولتخويف الأقوى، القادرين على الحصول على الأفضلية عليهم، ومنعهم من الحصول عليها، يقولون إنه من العار والظلم أن يطمح المرء إلى أكثر من نصيبه، وهذا هو ما يعنيه الظلم. ، الرغبة في التملك أكثر من الآخرين؛ أما هم فأتصور أنهم يكتفون بأن يكونوا على قدم المساواة مع من هو أفضل منهم."1 زد على ذلك رأى افلاطون في محاورة القوانين انه "من الضروري أن يضع الناس لأنفسهم قوانين وأن يعيشوا وفقًا لهذه القوانين؛ وإلا فلا فرق بينهم وبين الحيوانات التي هي أوحش من جميع النواحي. وهذا هو السبب: لا يوجد على الإطلاق أي إنسان يولد بمثل هذه القدرة الطبيعية على التمييز في الفكر ما هو مفيد للإنسانية فيما يتعلق بالتنظيم السياسي، مثلما هو حالما يتم تمييز ذلك، لامتلاك الإمكانية دائمًا بالإضافة إلى ذلك والإرادة لتحقيق ما هو أفضل في الممارسة العملية. الحقيقة الأولى الصعبة التي يجب معرفتها هي، في الواقع، أن الفن السياسي الحقيقي لا يجب أن يهتم بالصالح الخاص، بل بالصالح العام، لأن الصالح العام يوحد، والصالح الخاص يمزق المدن، وأن الصالح العام والخير على وجه الخصوص، يستفيد كلاهما من كون الأول، وليس الثاني، مؤمنًا بالقوة."2  أما في الحقبة المعاصرة فقد أعاد المفكر الحر ألان اثارة قضية العدالة كما يلي: "يا له من غموض مذهل في مفهوم العدالة. وهذا بلا شك يأتي بشكل رئيسي من حقيقة أن نفس الكلمة تستخدم لتعيين العدالة التوزيعية والعدالة المتبادلة.

لماذا، في عصر التقدم الصناعي، يعيش معظم الناس في البؤس؟ كيف نعمل بفعالية من أجل ظهور عالم تحقق فبه العدالة الاجتماعية؟ تلك أسئلة أساسية طرحها ماركس 1818-1883)، أب الشيوعية الحديثة، وحاول، طوال حياته، إعطاءها أجوبة علمية في المتناول، فألهمت الحركات الثورية الكبرى في القرن العشرين.
بعد ولادته لأسرة يهودية ميسورة في ترير التابعة يومئذ لمملكة بروسيا، واصل كارل ماركس دراساته في بون ثم في برلين، ودافع أخير في إينا على أطروحة حول الفلسفة المادية القديمة.
عندما أصبح صحافيا في كولونيا لفائدة صحيفة Rheinische Zeitung، ثم رئيس تحريرها في ما بعد، سرع ماركس من وتيرة كتابة ونشر مقالاته الثورية. وحين أرغم على الاستقالة، لجأ إلى باريس سنة 1943 حيث التقى برودون وباكونين ولاسيما إنجلز، الذي صار صديقه ومساعده الأكثر وفاء.
وبعد أن أجبر على المنفى من جديد، هذه المرة في بروكسل التي أقام بها حتى عام 1848، وظل هناك قريبا من الحركات العمالية، استقر ماركس أخيرا مع زوجته وأبنائه في لندن. هذه المدينة التي عانى فيها من فقر مدقع، رغم عمله القار كصحافي والمساعدة المالية التي كان يتلقاها من إنجلز. وعلى إثر مرضه المزمن، ومضاعفة العلاجات، مات كارل ماركس عن عمر لم بتعد 64 عاما.
اكتسى عمل ماركس طابعا فلسفيا واقتصاديا وسياسيا في آن واحد. في البداية، كان قريبا من الدوائر الهيغلية اليسارية، لكنه أدرك أن الفلاسفة، بعد هيجل، ارتكبوا خطأ التفكير في الإنسان كفكرة وليس ككائن ملموس. يجب استبدال المثالية بالمادية. ومن بين المثاليين، هاجم ماركس بشكل خاص فويرباخ، الذي كان يشاركه في التخلي عن الدين. ولكنه رأى انه يجب توجيه النقد للدين نفسه عوض الله، لأن الأول ينوم الضمائر ويجعل الناس يحلمون بالجنة. من هنا قولته الشهيرة: "الدين أفيون الشعوب".
في البيان الشيوعي (1848)، قال إن محرك للتاريخ هو الصراع الطبقي من أجل حيازة وسائل الإنتاج التي تضمن القوة وتؤدي إلى استغلال الإنسان للإنسان. كان مقتنعا بأنه إذا تمكنت الطبقة البروليتارية من تحقيق الوحدة، فسوف تطيح بالطبقة البرجوازية من خلال الثورة. لكن لأجل تحقيق هذا الهدف، يجب تزويد البروليتاريين بالوعي الطبقي، لأن العمال لا يدركون قوتهم الثورية المحتملة.
على الصعيد الاقتصادي، أوضح ماركس في كتابه "رأس المال" أن نمط الإنتاج الرأسمالي يعتمد على انحراف التقدم التقني: فبدلاً من تخفيف مهمة العمال، تعمل الآلات على تمديد مدة العمل اليومي لتوليد المزيد من الأرباح. وهكذا يصبح العامل مستتغلا (بفتح الغين) ومغتربا. وعلى المستوى السياسي، تولى ماركس رئاسة الأممية العمالية، وباسم "الاشتراكية العلمية"، استبعد الفوضويين. وانطلاقا من دراسته للحرب الأهلية في فرنسا عام 1870، اعتقد أن الطبقة العاملة لا يمكن أن تكتفي بجعل الدولة تعمل لمصلحتها الخاصة، بل يجب عليها تحويلها. يجب على "ديكتاتورية البروليتاريا"، الدولة الاشتراكية، أن تفسح المجال لمجتمع شيوعي، مجتمع لا طبقي، مسالم وسعيد..