anfasse02044" نحن في حاجة أكيدة إلى الجمال لكي نوسع...حقل قيمنا الممكنة ولكي نفكر على نحو مختلف..."1[1]
بماذا يتعامل الناقد الفلسفي مع الأثر الفني؟ ماهي الشروط التي تتيح عملية التلقي؟ كيف يمكن لأثر فني أن يغير حياة البشرية؟ وبأي معنى يقاوم الفن التفاهة والقبح والانحطاط القيمي؟ وما شرط إمكان نقد الذوق؟
عندما يكون المتلقي أمام أثر فني على غرار أغنية وقطعة موسيقية وقصيدة شعرية وفيلم سينمائي ومشهد مسرحي وتمثال منحوت وهيكل معماري ولوحة مرسومة وفسيفساء جدارية وأنشودة دينية وعمل أدبي فإنه مطالب بأن يتبع الخطوات الذوقية التالية:
1.     التركيز على ماهو جميل في هذا الأثر والاستمتاع به وذلك بالاقتدار على بلوغ العمق في السطح. 
2.     أن يلمح التناغم الذي يوجد في الأثر من وجهة نظر شكلية ويرصد التناسق بصورة تجريدية.
3.     أن يعيش المتلقي المعنى الذي يتضمنه الأثر ويشارك في سبك الدلالة وفهم المرجع والإحالة.
4.     أن يقوم المرء بتصعيد الطاقة الليبيدية في الأثر والتسامي وتحويل إلى هدف ثقافي وفعل ملتزم.
5.     أن يشتغل المتلقي على مهمة تقبل السر وتتبع اللغز والخروج المتاهة وتفكيك اللغة المشفرة التي تعبر بها الآثار عن ذاتية مبدعها.
6.     أن يعتمد المرء على الأثر الفني من أجل بناء الجسور2[2] وردم الهوة التي تفصل بين الذات والعالم ويحقق التواصل بين الذوات ويزيل أشكال سوء التفاهم بين الأنا والآخر ضمن وضعية تشاركية.

anfasse02043استطاع الفيلسوف الفرنسي  إدغار موران  Edgar Morin ( 1928) اختزال التساؤلات التي تشغل بال كل مفكر و فيلسوف معاصر، ويصوغها في تساؤل واحد و الذي هو عنوان المؤلف (هل نسير إلى الهاوية؟).
كثرت في القرن الواحد والعشرون مؤلفات تحدثت عن النظرة المتشائمة أو التي تتجه في سياق شبه يقيني في اتجاه واحد، من هذه المؤلفات "نهاية التاريخ وخاتم البشر" لفرانسيس فوكوياما، "صدام الحضارات" لصامويل هنتنغتون…وغيرها من المؤلفات التي عرضت الوضع الراهن للحضارة الإنسانية.
غير أن هذا الكتاب يختلف عما سبقه، إذ أنّه يتميز بنوع من الشمولية و التوسع في معالجة التساؤلات المختلفة، فهو لم يتناول أزمة الحضارة الإنسانية من الجانب الأخلاقي والاقتصادي فقط كما فعل فوكوياما، ولا من الجانب الإيديولوجي الديني كما فعل هنتنغتون، ولكنه بطريقة تفكيكية  ذكية إستطاع تحليل الأفكار ومعالجتها ثمّ بطريقة بنائية يعيد وصل وربط الأفكار ومحاولة إيجاد العلاقة السببية و بالتالي اقتراح الاليات المناسبة لحل أو تجاوز  مختلف المشاكل، في صورة جزئية والوضع الرّاهن في صورة عامة.  بحيث أعاد ترتيب الأفكار عبر العصر التاريخ بطريقة دقيقة لإيجاد خط التسلسل الذي أخذته الحضارة الإنسانية، وصولا إلى الوضع الكارثي الذي يهدد وجود البشر، يجعل كل عقل يتساءل هل نحن نسير إلى الهاوية؟.  

anfasse02042مما لا شك فيه أن الفلسفة اليوم باتت ضرورية في ظل التحديات الراهنة، وخاصة في عالمنا العربي والاسلامي، نظرا لاستشراء الانغلاق الهوياتي والاقتتالات الطائفية والفوضى التي تشهدها العديد من الدول؛ ليبيا اليمن سوريا العراق الصومال....الخ. لهذه الأسباب وغيرها نحن في حاجة ماسة الى قراءة متأنية لما يحدث في واقعنا، و هذا المقال المتواضع التي أقدم تحت عنوان: "في علاقة الهوية بالعنف" تصور أمارتيا كومار صن نموذجا، لا يدعي الإجابة عن كل القضايا والإشكالات، فواهم من يدعي ذلك. إنه فقط أرضية للنقاش وقابل للتكذيب والتزييف والتطوير. إنه مساهمة في الحل الممكن "فمن يصنع الحرب بإمكانه أن يصنع السلام". هكذا تكلم أمارتيا صن.

إن العنف في معناه العام إلحاق الضرر بالآخر[1]  وعندما نتحدث عن الهوية نقصد الخصوصية المتفردة التي تميز الفرد عن غيره سواء كانت دينية أو عرقية أو ثقافية... والعلاقة التي تربط الهوية بالعنف هي علاقة وطيدة، وبالتالي؛ تصبح الهوية في حالة استغلالها أداة في يد قادة المذابح وصناع الكراهية.

Anfasse25043الدين فكرة أوجدها الإنسان كإجابة عن غموض الطبيعة، والدولة كذلك فكرة صنعها نفس الإنسان، درءا لشره وابتعادا عن جشعه لصالح المصلحة العامة، بيد أن العلاقة بيم الإثنين تكاد تنفصل كي تتصل والعكس بالعكس، فلنتأمل مثلا أهم الحروب التي عرفتها الإنسانية، وأيضا أهم الكوارث التي بصمت تاريخ الإنسان، كي نستخلص أن من بين مسبباتها الكبرى إثنان لا ثالث لهما: الدين والدولة، وهو ما يبرز بالملموس غرابة هذا الكائن، مادامت رسالة كل من الدين والدولة، رسالة تروم إلى التسامح والعدالة والإنصاف، ومعاقبة كل من تتطاول يده على الآخر أو على ما يملك شرعا...
    الدولة تحكم باسم القانون الوضعي، والدين يحكم باسم الحد، الدولة تستمد وجودها من مؤسساتها القانونية والمدنية، بينما يستمد الدين قوته وسلطته من السماء، لحد الساعة قد تبدو الأمور عادية جدا، لكن وبأجرأتها وقراءتها على ضوء التاريخ، قد نعثر على عديد الملاحظات التي من خلالها لم يسلم التاريخ من ذلك الصراع بين الدين والدولة، أي بين الدين والسياسة، والحال أن الجمع بينهما هو كالجمع بين النار والوقود، لسبب بسيط هو أن الدين باجتماعه والسياسة يكاد يفرغها من محتواها، فتتحول هذه الأخيرة إلى مجرد تابع لا غير، ومنه نصبح أمام دولة دين وليس أمام دين دولة.
    والواقع أن الإشارة إلى هاته الثنائية الشائكة، تعيدنا إلى طرح السؤال التالي والذي بقي معلقا إلى إشعار آخر: بأي حق نُحكم، إن باسم القانون أو باسم الدين؟ لهذا كان من الأجدر الوقوف عند أكثر الأشياء إجماعا من طرف الناس، والحال أن هذا الشيء لن يكون سوى الدولة بطابعها المدني وليس بلبوسها الديني، مادام الأول تنظيم للعلاقات بين الناس والثاني تفسير للكون والعالم، ومادامت أيضا طبيعة الأول علائقية تقنية، في حين أن طبيعة الثاني روحانية صرفة، فهل يمكن للدين أن يحقق الإجماع أو شبه إجماع من طرف الناس على غرار الدولة؟

 Anfasse25040    رغم أننا نجهل الكثير عن كتاب ومفكري إسبانيا، فنحن نعرف صاحب العمل الأدبي الرائع، دون كيخوت دولامنشا، لميغيل دي سرفانتيس. في كتابه "حياة دون كيخوته وسانتشو" يستعيد ميغيل ده أونامومنو أسطورة ذلك الرجل الفارس والمغامر، دون كيخوته، تلك الشخصية التراجيدية على الشكل الكوميدي، شخصية ترى فيها الكوميديا البشرية في عمقها المأساوي(1). يؤكد أونامونو عند استعادة هذا العمل الأدبي على أن طموحه هو بث الحياة في عمل كان وما يزال يعده الكثيرون حرفا ميتا، وتقفى أثر فلسفة بلده إسبانيا. ويشير إلى أنه ازداد اقتناعا أكثر بأن الفلسفة الإسبانية، سارية ومنبثة في الأدب والحياة والعمل والتصوف، وليس في مذاهب فلسفية، إذ أن الرواية والشعر والمسرح الإسباني، كلها أعمال تنطوي على حدس في العالم وتصور للحياة. وحتى اللغة الإسبانية، يرى أونامونو أنها تتضمن في ذاتها فلسفة. يبدو لي هذا الإعتزاز بالذات مشروع، لكن أونامونو، سيقرنه بتوق كبير في خلود النفس والحياة الأبدية، وبعملية نفي وحط من ملكة العقل وقيمة العديد من الفلاسفة، وأذكر بالأخص باروخ سبينوزا وفريديريك نيتشه وآخرين. أتوخى من هذه المتابعة، الإقامة وسط  نص "فلسفي"، يعتبر من أحسن أعمال أونامونو، حسب الموسوعة الحرة ويكيبيديا، وذلك من أجل بسط مواقف هذا الكاتب من العقل وخلود النفس، ودفع القراء إلى الإنتباه إلى بعض التأويلات المغالية لآرائه وأفكاره.

أونامونو ضد الروح العلمية لعصره
     يصر ميغيل ده أونامونو على تقييمه السلبي للقرن التاسع عشر، إذ يعتبر نصفه الثاني عصرا لافلسفيا ووضعيا وتقنيا وتاريخيا محضا، وعلميا وطبيعيا، عصرا في جوهره ماديا ومتشائما(2). ويؤكد على أن هذا القرن هو ترجمة للمثل الأعلى الذي أخذ يتشكل انطلاقا من عصر النهضة، مرورا بالإصلاح الديني والثورة الفرنسية، والمبني على مفاهيم التقدم والعقل والعلم والثقافة التي نزعت عن أوربا هويتها الكاثوليكية -المثل الأعلى العزيز على قلب وعاطفة أونامونو- وهي الحياة الأبدية بعد الموت. لقد حل التشاؤم في نظر أونامونو، لأن العلم لا يبعث على الرضا، ولا الثروة والمعرفة والثقافة والضمير الخلقي الحسن يساعد على تحصيل إلسعادة، ولا التقدم يبعث على الرضا أيضا. فالإنسان ما كان ليقنع بالعقلانية، ولا بالصراع الثقافي، بل كان يريد أن يضفي غاية نهائية على الحياة(3)، ممثلة في الإيمان بخلود النفس. على هذا الأساس، لا يعطي ميغيل ده أونامونو أية أهمية للعلوم ولمبتكرات عصره، كالكهرباء والقطار مثلا، فيكفي استعمالها كما تستعمل اللوغاريتمات في بلد من تصورها(4). ويدعو الإسبان إلى عدم الشعور بالنقص، أمام لوم الآخرين لهم بضعف قدرتهم العلمية وعدم امتلاكهم للروح العلمية، ويقول:" لنا مجنوننا السامي ومثالنا دون كيخوته...، كما لنا تصوفنا وفلسفتنا، فلسفة كيخوتية وكيخوتية فلسفية"(5).مقابل هذه النظرة العدمية للتاريخ ولإبداعات الإنسان، يدافع أونامونو على صيغة تدل على موقف جمالي حسب تعبيره، وهو كسب الأبدية، صيغة الموقف الديني. ذلك أننا نقفز من الجمالي والإقتصادي إلى الديني من فوق المنطقي والخلقي؛ نقفز من الفن إلى الدين(6)، يكتب أونامونو.

Anfasse25034إن الحديث عن الفيلسوف الألماني "جوتفريد فيلهلم ليبنتز" (1646-1716م) ليس سهلا، خصوصا وأنه خصب الإنتاج ومتعدد الاهتمامات، بين ما هو سياسي وما هو رياضي وما هو قانوني  وما هو فلسفي... ظهرت فلسفته  في سياق الصراع الفلسفي للفلسفة الحديثة بين الاتجاه العقلاني القاري والاتجاه التجريبي الانجليزي، واختلاف منظورهما للجوهر والعقل والمعرفة.

وفي مقالنا المتواضع هذا، سنسلط الضوء على إسهام "ليبنتز" في مفهوم  المونادة أو الجوهر من خلال  كتابه الموسوم ب"المونادولوجيا"، والذي تناول فيه دلالة مفهوم المونادة أو الجوهر، وعددها وترتيبها وكيفية نشأتها وفنائها. فما هي المونادة أو الجوهر في نظره؟ يعد مفهوم الجوهر من المفاهيم الأساسية في الفلسفة، هذا المفهوم الذي حظي باهتمام أرسطو وغيره، أخذ بعدا جديدا مع الفلسفة الحديثة، ففلسفة ديكارت العقلانية تقوم على هذا المفهوم بشكل أساسي، بل إن عماد الفلسفة الديكارتية هو الجوهر. فأول مبدأ يقيني توصل إليه ديكارت بعد عملية الشك المنهجي، هو الجوهر المفكر، والذي كان نقطة انطلاقه لاكتشاف جوهر آخر ألا وهو الجوهر الإلهي الضامن الخالق لكل الجواهر الأخرى، والضامن لقيام المعرفة الحقة. وتبعه في ذلك "سبينوزا" الذي تحدث عن وجود جوهر واحد هو "الله" أما الجواهر الأخرى التي تحدث عنها ديكارت فما هي إلا صفات للجوهر الإلهي في نظر فيلسوف هولندا.

anfasse18039" إذا ما أراد المرء أن يتجدد فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدل مقامه، أي يغرب كما تغرب الشمس..."
ـ عبد الفتاح كيليطو ـ
    " النسيان هو يقظة الذاكرة، إنه القوة الحارسة التي بفضلها يحافظ على سر الاشياء..."
ـ موريس بلونشو ـ
    الاغتراب ترحال من مكان إلى مكان، ومن ذكرى إلى أخرى، إنها ترجمة فعلية لطبيعة الإنسان اللاميتافيزيقية التي تأبى أن تقوم على المبدأ الواحد، كما ترفض الخضوع لأنموذج دون غيره، والحال أن أبرز رد على كل نمطية إنما لا يستقيم إلا وتجربة الاغتراب، علما أن الاغتراب اغترابات لامتناهية، أي أنها تخلخل النمطي الداخلي معيدة إياه إلى نمطي خارجي من خلاله يصبح الاغتراب تكرارا، لكنه ليس تكرارا للثابت وإنما هو تدوير rotation وتكرار للمتحول الذي ليس له لا وطن ولا مكان، إنه عود أبدي للجديد فينا، وتكرار للاختلاف فيما نراه هوية، وولادات متجددة للراكن المتحول الذي يسكننا، ومنه يستحيل النسبي مطلقا، لكن المطلق فيه هو النسبي الذي ما إن يظهر كي يختفي، وليس يظهر كي يبقى دوما في الزمان والمكان.
    والاغتراب أيضا عيش خارج زمن اللحظة وخارج ثلاثية الماضي والحاضر والمستقبل، إذ زمنه زمن الجمود المتحرك، الذي يرسم الخلود ليس في الاستمرار وإنما في التعمق في السطح، أي أن زمنه زمن الخفة التي تنتقل حسب رغبتها وليس حسب قانون الطبيعة، كما أن زمنه أيضا زمن الارتياب الذي يرتاب من كل شيء، حيث لا يركن إلى حقيقة إلا وسعى في نفس الوقت إلى دحضها بحثا عن حقيقة أخرى، وهو بذلك يؤسس للإرادة اللامتناهية كما يعمل على تقويض كل الإرادات الثابتة، إنه تأمل للمنسي واستذكار له، بقدر ما أنه استغراق في الهامش وإخراجه ليس من أجل أن يصبح مركزا، وإنما تدميرا saper للمركز والهامش، ومنه فزمن الاغتراب يكاد يشبه حركة الإلكترون في الفيزياء التي لا ترسم لنفسها مسارا محددا وحتميا   déterminéبقدر ما تسير على نمط غير متوقع imprévu، وهي بهذا الأمر تؤسس لحياة العدم الخلاق وليس لمنطق الثنائيات les dualismes.

anfasse18038من الأمراض التي تعاني منها أوساطنا الثقافية والفكرية، شيوع لامبالاة مفرطة تجاه ما يكتب ويعرض، وانتشار سلوكات ملؤها الإزدراء والتحقير لكل ماهو فكري وفلسفي. بل يقف المرء مذهولا أمام تنامي عداوات بين ممتهني الكتابة، قد تصل إلى تحاشي اللقاء والحوار، وسوء التقدير والإعتراف، ومقاطعة مشاريع فكرية وثقافية وفنية. ينتج عن هذا التقوقع على الذات، ارتباط الشأن الثقافي بانتماءات وأخويات ومصالح. لكن هناك خطوط انفلات تخترق الساحة الثقافية، تنشأ فوقها حركات إبداعية وابتكارات، وكذلك مشاكل وأخطار. ذلك ما يفرض مساءلة دور الفلسفة ومهمتها في عالم محكوم بمنطق الصورة وسطوة الإعلام، وانتشار طرق سافلة للتفكير. من أهم مظاهر هذه السفالة، تزايد ما يسمى بالكتابة الصحفية التي تريد أن تسود، بحكم احتكارها لقنوات النشر والبث والتوزيع. لكن ما يعاب على هذا النوع من الكتابة هو خضوعها لأشكال مدروسة من المراقبة والتوجيه، وضعف مساهمتها في تغيير صورة الفكر. لهذا لابد من اقحام الفلسفة في مواجهة معضلات العصر الفكرية والثقافية. فعمل الفكر ليس هو إدانة الشر الذي قد  يسكن، كل ما يوجد، بل أن يستشعر الخطر الذي يكمن في كل ما هو مألوف، وأن يجعل  كل ما هو راسخ موضع إشكال(1).

anfasse18035بداية البدايات رسمت لنا أعمق تجليات بناء الحضارة الإنسانية انطلاقا من مخاض عسير في الصراع الإنساني، الذي حدث في الواقع اليومي للإنسان، رغبة منه وبحثا عن البقاء وتوفير حياة كريمة، هكذا وجد أول البشر نفسه في مجال صارعه وقاومه وتحداه،  فذاته تعاني، تقاتل، تكدح وتعمل ثم تحارب لتحقيق نفسها وحماية مصالحها. فالحضارة بنيت على أكتاف المقاتلين وتصادم الذوات،  مما ولد انفتاح المنغلقين عنوة وجلب أسس قوم لبناء ذات قوم آخرين ، فكانت الأمم بهذا تتسابق حول امتلاك أنجع الوسائل الحديثة في التفوق والعلو والإحساس بالقوة، غير أن صراع "الإنسان ألأول" مَهّد لمنطلقات ومسلمات إنسانية وفطرية طبعت ذات الدماغ الذي تأمل لأول مرة ليخطط ويتحضر ويتجاوز طبيعته الأولى  ويحاول أن يتقدم، فتشكلت لنا معالم الوعي الدماغية للإنسان الأول وترسبت في عروق دماغه لتطابق فيما بعد ماهية ما نصطلح عليه "بالفطرة"، التي تشكل عليها الدماغ، لتصل الفطرة لتُميز أدوار الناس ووظائفهم في الحياة تحقيقا للاستمرارية والوجود وتجنبا للقتل والإبادة والتوحش، غير أن تطور البشرية في امتدادها التاريخي خلق لنا صراعا عكس لنا بداية تحلل الفطرة وأوجد معضلة "الإنفصام" في الذات البشرية، وهو "صراع الفطرة الدماغية مع العقل المبدع"، كما نعلم جميعا أن العقل الوضعي بنى نفسه وفق صيرورة طويلة، كانت ملامحها الأولى من أوروبا في تجاذبها الطرف مع الكنيسة والسلطة و تقسيم الأدوار في الحياة فيما تُعرفه الماركسية "بالطبقية"، وكذا الأنوار التي تحدت رموز التعاقد الذي وضعته "الحضارة" الأوروبية. عموما أين وصل الصراع اليوم بين الفطرة و"عقل الوضعية" اليوم؟
أولا: الغرب

anfasse11041لئن أولت الفلسفة اهتماما بمضامين مجرَدة و كونيَة نسمَّيها مفهوما و توخت في معالجتها المنحى العقلي المنطقي الذي يسعى دائما للبحث عن تطابق ما مع الواقع من أجل الضفر بحقيقة يستقيم داخلها الوجود الإنساني كنسق أفلاطون مثلا فان ذلك جعلها تتعالى عن المسائل اليوميَة التي تمسَ الكيان الإنساني في صيرورته و تموضع الحياة موضعة تجمَدها و تجرَدها حتى تصير فكرة محضة و لا تطرح على نفسها كلَ ما يتعلَق بالذات و أعماق الإنسان و تشابكه بل تمرَ على اليوميَ مرورا غير إشكالي. و لعلَ ذلك ما فرَق الفلاسفة إلى فرقة هادمة للميتافيزيقا متجاوزة لها و أخرى محافظة تخشى على الفكر السقوط في حركيًة اليومية و فقدانه للمعنى.
فمعرف الحيرة مثلا هو من المعارف التي لم تحض بالاهتمام من قبل الفلاسفة لكنَّها كانت منبثَة في أنساقهم, فهي من المسكوت عنه الذي بدأت الفلسفة المعاصرة في إماطة اللثام عنه و لعلَ ذلك ما سنقوم به ببيان التناول المتعالي الكلاسيكي لمعرف الحيرة و إن كان ثانويَا و التناول التفهَمي الفينومينولوجي الذي يلتفت إلى المسكوت عنه و يخلَصه من الصمت الذي غيَبه داخل تاريخ الفلسفة.
فمالحيرة ؟ و بأي معنى يمكن الحديث فلسفيا في شأنها ؟

anfasse11040كانت المرحلة الكلاسيكية من تاريخ الإسلام،و التي تتطابق زمنيا مع فترة العصور الوسطى في الغرب،مليئة بالتساؤلات و الدراسات و المؤلفات العامة،إنها مرحلة التفكير العلمي و النقدي ،مرحلة المناظرات الحرة بين العلماء في الفكر الإسلامي.
كانت الفلسفة قد شهدت ازدهارا ملحوظا ما بين عامي 150-450 هجرية،غير أن هذا الازدهار و النجاح سينحسر مع بداية القرن الثالث عشر الميلادي/السابع الهجري،و مع هذا الانحسار سيبدأ العقل الإسلامي في الانسحاب من الساحة العلمية في الوقت الذي بدأ فيه الغرب بالازدهار.
و من أبلغ الأمثلة التي يمكن أن نضربها بهذا الصدد،مثل ابن رشد،إذ إن مؤلفاته أصابها النسيان و الفشل في المجتمعات العربية،بينما الفكر نفسه و المؤلفات نفسها ترجمت إلى اللاتينية و حظيت بنجاح متزايد في المجتمعات الأوروبية المسيحية حتى القرن السادس عشر.
فلماذا فشل الفكر الفلسفي في الفكر الإسلامي؟لماذا فشل ما كان مزدهرا قبل القرن 13 الميلادي و انسحب من الساحة الفكرية و العلمية؟ذلك هو السؤال الذي سيقود تحركاتنا في هذا المقال.
 سؤال حاول كل من محمد عابد الجابري و محمد أركون أن يجيب عليه،كل بمنهجيته في التحليل و التفكيك.
«لقد ضرب الغزالي الفلسفة ضربة قاضية لم تقم لها بعده قائمة»هكذا كتب محمد عابد الجابري متحدثا عن مصير الفلسفة في الفكر العربي الإسلامي.