anfasse08063" أنا صديق سقراط وأفلاطون ولكن محبتي للحقيقة أكبر"
-  شيشرون -
من سلبيات الديمقراطية، حسب إشارة أفلاطون في كتاب الجمهورية، أنها تجعلنا نرضى بالاعتقادات بدل المعارف ونتأثر بقوة الاقتناع لدى خطيب بدل نور الحقيقة لدى فيلسوف. لهذا ينبغي ألا نخشى من حيازتنا لأقل قدر من المعلومات التي تدخل في توجيه رأينا حول المعارف التي حصلنا عليها وتحديد قيمتها بغض النظر عن مخاطر التقنية وذنوب المتهم والنظام الاقتصادي الأكثر نجاعة وعدالة والسياسي الأكثر كفاءة.
بناء على ذلك نحن نتمسك بالاعتقادات الموروثة والآراء الجاهزة بدل عزمنا على الخوض في المسائل والبحث عن الحقائق ونقلل من شأن الشكاك ومجهود الحيارى وتردد المرتابين بينما نعظم من قدر من يدافع بحماسة عن وجاهة قناعاته وصواب مسلماته. في حين أن الحق يمتلك ميلا فريدا نحو مواجهة الاعتقاد الأكثر صلابة ويسعى إلى تغيير الفكر على الرغم من عناده واستبساله في الدفاع عن وجوده. 

والحق أنه لا يوجد طاغية يفرض علينا التعامل مع الاعتقادات بوصفها حقائق وإنما نحن الذين نسلم بذلك لكونها دارجة في الحياة اليومية ومتعارف عليها في التفكير العمومي للبشر وتمثل قاعدة الحس المشترك. كما لا يتحلى المرء بالمرونة النقدية ولا يغادر الأرض الصلبة لليقين إلا إذا عزم يوما ما على تغيير القناعات الموروثة وتثوير الاعتقادات البالية والتخلي عن الآراء المتداولة والبحث الشخصي عن الحقيقة بممارسة التفكير واتخاذ قرار مضاد للسلطة المعرفية القائمة والذهاب في اتجاه معاكس لمتطلبات الرأي السائد.
من مفارقات الحقيقة يمكن ذكر ما يلي:

anfasse08062قبل كل شيء، "لا يوجد مفهوم بسيط، كل مفهوم يملك محددات ويكون محددا بها"([1]). إن الإعلان عن المفهوم على شكل لفظة يحيل إلى مرجعية معرفية (كيان علمي، نظري، مذهب، و يشير إلى موضوعات يفترض أنها قابلة للتعريف أو الوصف أو التمثل والإدراك  الخ...([2] ). إن المفهوم لا يتم الإعلان عليه من طرف الفيلسوف إلا بعد أن تكون قد اكتملت معالمه داخل النسق الفكري الذي يشتغل من داخله، وهذا ما نجد بعضه في القول التالي "إن انبثاق أو بناء المعنى يمر لذا الفيلسوف عبر مجهود تعريفي رصين أو صارم "للمفاهيم العامة" notion و تكونه أو إنشاء الإشكاليات التي تثيرها"([3])، و بذلك يكون الإعلان بمثابة تجميع و تنظيم للنظام الداخلي لخطاب الفيلسوف، كما أن الإعلان عن المفهوم لا يتم إلا بعد أن يكون الفيلسوف قد ضمن لمفهومه، بدرجة كبيرة، العيش خارج محيط الخاص الذي بني داخله.

فإذا كان إعلان الفيلسوف عن مفهوم ما هو بمثابة اختزال أو تركيب لقضية معينة داخل نظامه العام، من هنا تكون معرفة المفهوم و إدراك معناه، والإحاطة به، لن تتم إلا من خلال استيعاب النظام العام الذي نُحث من داخله، فالتعاريف القاموسية لا تعطي إلا المشترك، و ما يتقاسمه المفهوم مع غيره، أو في مقابلته مع غيره، أما إدراكه في حقيقته و دلالته العميقة لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال معايشة المحيط الذي صنع من داخله ذلك المفهوم، ولعل هذا ما عبر عنه طه عبد الرحمان "فلا ينفهم المفهوم الفلسفي إلا ضمن مجال تداولي مخصوص"([4]). من هذا المنطق، تكون مهمة المفهوم وظيفية لا أقل ولا أكثر، ولا معنى له في حد ذاته كلفظة، إلا بالقدر الذي يحيل به إلى النظام الخاص بالفيلسوف.

anfasse01057يمكن أن نلاحظ أن هناك نزوعا عند كثير من المثقفين إلى نقد الحداثة وإلى تحميلها مسؤوليات خطيرة, انطلاقا من تجارب التاريخ. على أنه لا يمكن أن نتناسى أن أغلب الاتجاهات الفكرية والسياسية المعارضة للحداثة كانت معادية للديمقراطية في ذات الوقت (على سبيل المثال, الاتجاهات الرومانسية في ألمانيا, الاتجاهات القومية والعرقية في فرنسا…)؛ إن صعود وتنامي الفاشيات في أوروبا ارتكز على طروحات مناقضة للحداثة والديمقراطية في آن.
إن النقد الراديكالي للحداثة قد يفضي إلى نسف الديمقراطية وتحطيمها). ألا يجب بالأحرى أن نأخذ بعين الاعتبار ما ذهب إليه هابرماس في هذا الموضوع, حيث أنه دعا إلى التفريق بين قيم الحداثة والتي لا يماري أحد في أهميتها والواقع التاريخي الذي يتحكم فيه التركيب الاجتماعي وطبيعة الطبقات السائدة.

I – أواليات مفاهيمية:
1 – الحداثة: مفاهيم متعددة.
يمكن القول بداية إن الحداثة مفهوم يصعب تحديده بدقة, زمنيا ومفهوميا.
زمنيا أولا:
هناك من تحدث عن حداثة "الديمقراطية في أثينا" في التاريخ القديم(1) وهناك من قال بحداثة السفسطائيين وماثلها بالفكر الأنواري الذي برز فيما بعد(2)، وهناك من تحدث عن الحداثة بصفتها مرحلة فكرية متميزة ظهرت مع بروز الذاتية في القرن السادس عشر وامتدت إلى أواخر القرن التاسع عشر. ثم اختفت في الفترات المتأزمة, تلك التي عرفت فيها أوربا تنامي حركات تنادي بالعدمية وبالقومية العرقية, وأفضت في آخر المطاف إلى النازية.
وطفت الحداثة على سطح الفكر, وتجلت على مستوى الواقع, بعد الحرب العالمية الثانية.

anfasse01055استهلال:
" الخيال أهم من المعرفة، فهو رؤية مسبقة لجاذبية الحياة المستقبلية" - ألبرت أينشتاين-
لقد درجت الفلسفة منذ القديم على تهميش الخيال والنظر إليه بازدراء وتحقير على مستوى المعرفة وعلى مستوى الوجود. فقد وضع جنب إلى جنب مع الحس والظن واعتبرت المدركات الخيالية خالية من كل معنى ودلالة وقريبة من الوهم واللاّحقيقة والدرجة الصفر من المعرفة. كما وقع التعامل مع الوجود الخيالي بوصفه اللاّوجود وبصورة أخرى الوجود الشبهي وذلك لتضاده مع الوجود الحقيقي والواقعي.
هذه النظرة الميتافيزيقية للخيال ساهم في تشكلها تنزيل العقل منزلة السيد المطلق وتفضيل لغة المفهوم ومنزع التجريد على  الإنصات إلى دروس التجارب والرجوع إلى الوقائع الخام والاحتكام إلى لغة الحياة. كما نظر الحس المشترك إلى الإنسان المتخيل نظرة سلبية واعتبره غارقا في أوهامه تقوده تمثلاته وتهيئاته وخواطره ولا يقودها ويوجد دائما خارج ذاته وبعيدا عن الواقع ومبحرا في عوالم وبحار غريبة.
لئن أنهت الفلسفة النقدية عند عمونيال كانط رحلة العذاب الذي عاشتها ملكة الخيال طوال تاريخ الأنساق الأنطولوجية التقليدية وميزيت بين الخيال التكراري والخيال المبدع وأسندت إلى الخيال المتعالي مهمة التأليف بين مقولات الذهن ومعطيات التجربة الحسية تحت توجيه أفكار العقل فإن المقاربة الفنومينولوجية قد أعادت الاعتبار لهذه التجربة الإدراكية وسلكت هذا السبيل  للإطلالة على الزمان والوجود في العالم.

anfasse01054خلص مشيل فوكو في كتابه (الكلمات والأشياء) إلى نتيجة حزينة، يقول فيها: «ليس الإنسان هو أقدم مشكل طرح أمام المعرفة البشرية، وليس هو المشكل القائم باستمرار. فإذا ما قمنا بتحقيب زمني قصير نسبياً، وبتقطيع جغرافي محدود نقصد الثقافة الأوربية خلال القرن السادس عشر يمكن أن نجزم بيقين أن الإنسان هو ابتكار حديث. إذ لم تكن المعرفة تدور ولو بشكل غامض حول هذا الإنسان ولا حول أسراره، منذ أمد بعيد […] فحفريات فكرنا تظهر بأيسر تأمل أن الإنسان هو ابتكار يعود إلى تاريخ حديث، وقد تكون نهايته قريبة"[1]). فقبل نهاية القرن الثامن عشر لم يكن للإنسان وجود، رغم أن علم النحو، والتاريخ الطبيعي، وتحليل الثروات […] كانت كلها أشكالاً وصيغاً تعترف بالإنسان. بيد أن الوعي الإبستيمولوجي بالإنسان كموضوع للمعرفة، كان غائباً تماماً.

  في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ، هيأت  علوم البيولوجيا واللغة والإقتصاد، التربة لطرح هذا السؤال: ما هو الإنسان؟ وفي الحركة العميقة لهذه الطفرة الأركيولوجية نشأ الوعي الحديث بالفرد الحي والمتكلم والعامل ، فكان ذلك إيذانا بميلاد الإنسان كذات عارفة وكموضوع للمعرفة.

anfasse25048   "إنهم يخرقون قواعد اللعبة عندما يصبح الموت هو رهان اللعبة، وبذلك فالقواعد الجديدة للعبة ليست ملكنا.إننا نسعى الى أن نحمّل الإرهاب أي معنى، وأن نعثر له على أي تأويل، لكنه خلو من المعنى، ووحدها جذرية المشهد، ووحدها قساوة المشهد هي المبتكرة، والمتعذر تبسيطها. إن مشهد الإرهاب يفرض إرهاب المشهد "
جان بودريار: ذهنية الإرهاب- لوموند 3 نوفمبر2001
                                                            
   مقدّمة: الإرهاب مفهوم خارج السياق:         
ارتبطت دلالة الإرهاب بسياقات ومعاني مختلفة إلى حدّ التناقض، الأمر الذي دفع البعض لاعتباره فعلا مُقاوما أو شكلا من أشكال النضال، إذ هو عندهم فعلٌ جهاديّ أصيل" يُرهبون به عدوّ اللّه وعدوّهم"، الأمر الذّي دفعهم للتعامل معه كاستراتيجيا دفاع تنتصر للحقّ والمُقدسّ وتدافع عن الحقيقة والدين. وهو عند البعض الآخر فعل إجراميّ يحيل على همجيّة وبربريّة ثقافة ما، الشيء الذّي دفعهم للتشكيك في إمكانيّة الحديث  عن انتساب القائمين بهذه الأفعال لما يسمّى ثقافة. الشيء الذّي دفع البقيّة الباقية تلافيا لاستفزاز هذا البعض أو لإحراج البعض الآخر، إلى اعتماد إهمال التعريف كاستراتيجيا وقائيّة، والاكتفاء بتفسير هذه الظّاهرة أو التفكير في مسوّغاتها، بدعوى الموضوعيّة والحياديّة.  في حين أنّ الاشتغال على المفهوم أمر لا مفرّ منه إذا كنّا فعلا نطلب الموضوعيّة والحياد، بل تجنّب الخوض في مسألة التعريف هو في الجوهر موقف موغل في الذّاتيّة والانحياز.

anfasse25046"نعم أنا شخص خطير، لكنني لست كذلك إلا لكوني أتصدى بالنقد للميثاق الليبرالي المسيطر. وهذا هو الممنوع على الناس أن يخوضوا فيه" سلافوي جيجيك
تقديم
     يبدو إسم الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك شبه مجهول بالنسبة للعديد من المهتمين بالفكر الفلسفي المعاصر في الضفة الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط. لكن صوته مسموع  في الضفة الشمالية، عبر حضوره الفكري والإعلامي والأكاديمي الفاعل، وتنوع اهتماماته الفلسفية، حتى وصف ب:"الفيلسوف المتعولم" و"الفيلسوف الأكثر خطرا في الغرب"(1). من جهتي أعتبر أن خطورته نابعة من قوة انتقاده للنظام الرأسمالي وللأسس التي يرتكز عليها كالليبرالية والديمقراطية. إذ أن تمسكه بالإشتراكية والشيوعية، وإيمانه بالفلسفة الألمانية كبديل منافس لليبرالية الرأسمالية، يجعله من بين المفكرين القلائل الذين لازالوا يؤمنون بدور الفكر الماركسي في اقتراح بديل راديكالي للإيديولوجيا الليبرالية وللنظام الرأسمالي نفسه. أتوخى من هذه المقالة، مشاركة القارئ في الإطلاع على بعض أفكار هذا الرجل "الخطير"، أملا في التقاط تلك الإشارات الغامضة الآتية من المستقبل.

anfasse15051يعتبر تصور مارتن هيدجر للغة من بين أهم وأعمق التصورات التي اهتمت بمفهوم اللغة وحاولت الكشف عن ماهيتها ،بعيدا عن التأويلات الميتافزيقية التي سادت التفكير الغربي منذ أفلاطون .وبدأ اهتمام هذا الفيلسوف باللغة منذ سنة 1916 ضمن أطروحته للدكتوراه حيث تناولها في الإطار العام لمشكل المقولات المنطقية التقليدية.سيستأنف هيدجر مقاربته للغة في مؤلفه الأهم الوجود والزمان الصادر سنة 1927حيث سيعتبرها كنمط من أنماط وجود الدازين. وفي مرحلته الأخيرة أي بعد المنطعفKehre  فكر أكثر في ماهية اللغة. ولنرى كيف قاربها في كتابه الوجود والزمان:
 إن المعنى هو الذي يؤسس اللغة أو القول الذي هو تحديد عيني للكلام وبه يعبر عادة. وبدون اللغة لن تكون الأشياء أبدا هي ما هي عليه، ذلك أن اللغة هي التي تستدعيها وتعطينا القدرة على استدعائها  كما يوضح ذلك هايدجر في كتابه الوجود والزمان"إن الكلام ينبغي أيضا ان تكون  له من حيث ماهيته طريقة كينونة متصلة بالعالم عل نحو مخصوص.إن مفهومية الكينونة-في-العالم- وفق وجدان ما إنما تفصح عن نفسها من حيث هي كلام" (1). وبهذا المعنى فإن اللغة هي التي تفتح لنا العالم،لأنها وحدها التي تعطينا إمكان الإقامة بالقرب من موجود منفتح من قبل، وأن نتوجه بالخطاب إلى الموجود بما هو موجود. وكل ماهو كائن لايمكن أن يكون إلا في "معبد اللغة". وفي هذا المعبد يقيم الإنسان دائما، لأن هذا المعبد هو الذي يجعل من الإنسان موجودا يعبر عن نفسه." إن اللغة هي بيت الوجود" الذي يسكنه الإنسان، وفيه يتخذ كل شيء مكانه.
والحوار هو الكلام الذي يتم فيه التعبير باشتراك الغير.وبالحوار نكون واحدا، مترابطين في تركيباتنا الأساسية.أنا ما أقول، ونحن معا ما تعبر عنه كلماتنا. يقول هيدجر: " ينبغي أن تفهم ظاهرة التواصل، كما قد أشير بعد إلى ذلك أثناء التحليل، في معنى أنطولوجي واسع. إن التواصل بالقول، البلاغ مثلا، هو حالة خاصة من التواصل المدرك في أساسه على نحو وجوداني. ففي هذا الأخير يتشكل تمفصل الكينونة- الواحد-مع- الآخر الفاهمة. وإنما هو الذي ينجز "اقتسام" الوجدان- معا وفهم الكينونة-معا. ليس التواصل أبدا شيئا من قبيل نقل التجارب المعيشة، مثلا نقل آراء وأماني من باطن ذات ما إلى باطن ذات أخرى." (2)

anfasse15050تقديم
     هناك إجماع حول أهمية الترجمة في حياة الشعوب والأمم، ودورها في التقريب بين الحضارات والثقافات وتفاهمها. لذلك نلاحظ تزايد الإهتمام بالترجمة، سواء من طرف أفراد ذاتيين أو مؤسسات رسمية. لكن عملية الترجمة تطرح إشكالات حقيقية حول دوافعها ومقتضياتها وغاياتها، الشيء الذي جعل منها قضية فلسفية. تجلى ذلك في النقاشات والجدالات التي ركزت حول أسئلة الأمانة والخيانة أثناء الترجمة، و الترجمة النهائية والنسخة طبق الأصل، واستعداد لغات لاستضافة نصوص ومتون لغات أجنبية متعددة ومختلفة. لكن ما يثير في قضية الترجمة، هو الهوة الفاصلة بين إعداد نصوص وكتب، وطبيعة التفاعل معها والتفكير بها، لا أقصد هنا القارئ فقط، بل المترجم ذاته. لهذا لا أستسيغ مقدمات وإهداءات وتعليقات عدد من المترجمين، التي تستبق عزيمة القارئ، لتذكره بهويته وثقافته وأخلاقه، وبتفوق حضارته وأبطالها، وبالتالي تقطع الطريق أمام قيام أي تفاعل أو توظيف أو إعمال فكر.
سأحاول في مقالتي هذه،  إثارة ثلاث مواقف من الترجمة، وهي كالتالي: موقف الكاتب المترجم عبد السلام بنعبد العالي من المغرب، وموقف الأستاذ المترجم فتحي المسكيني من تونس، وموقف الأديب المترجم فيليكس فارس من لبنان.

عبد السلام بنعبد العالي: زهو الفكر في ازدهار الترجمة
     في كل مرة يتناول فيها عبد السلام بعبد العالي قضية الترجمة، تجده متحمسا لسرد فضائلها البيداغوجية والتربوية والفلسفية، بل يجعل من الترجمة قضية الفلسفة. ففي كتابه "في الترجمة"، يؤكد على أن قضية الترجمة هي بلا منازع قضية الفلسفة...، هي هم الفكر في محاولته لإعادة قراءة تراثه وتجاوزه(1). فبالترجمة يتم تحويل النصوص والمتون، الشئ الذي يضمن حياتها وحياة اللغة والفكر في نفس الآن. وهي ما ينفخ الحياة في النصوص وينقلها من ثقافة إلى أخرى، من لغة إلى أخرى(2).  وبهذا المعنى، تصير الترجمة استراتيجية لتوليد الفوارق، وإقحام الآخر في الذات، ووسيلة انفتاح وتحرر(3).

anfasse15048ليست الفلسفة ترفا كما يعتقد عامة القوم، بقدر ما أنها ليست فكرا أضحى من التراث الإنساني كما يرى بعض النقاد، لا وليس الفكر الفلسفي أداة نستعملها متى شئنا ثم نرفضها عندما نريد... إن أول إساءة للفلسفة كفكر تتجلى في اعتبارها تطاحنات فكرية أو عبارة عن أقاويل تسبح في بحر من المتناقضات التجريدية المحضة، بينما اعتبرت الفلسفة وعلى مر العصور تثمينا لمجهودات فكرية وعلمية وأدبية، وتتويجا لعصارة حضارة بعينها، الفكر الفلسفي فكر راق جدا، من ثمة كان من الصعب استيعابه لدى الحضارات التي لا تؤمن بتحرير العقل، ومنه فثقافة العبيد هي من عملت دوما على الحط من قيمة الفلسفة، هذا وإنه ليست في حاجة إلى من يدافع عنها، بقدر ما أنها تصور واقع ونمط وبنية تفكير كل ثقافة وكل فرد.
    إن كل رافض للفلسفة إنما يرفض ضمنيا روح النقد، وحس المغامرة الفكرية، وتحرير العقل من التبعية والقصور الفكري، هذا علما أن نفس الفكر ليس بمثابة بضاعة قد نختارها أو نرفضها وفق اختياراتنا، ومنه فبدل أن تضعنا الفلسفة بين الرفض والقبول، يمكن أن تسقطنا في ثنائية الخوف والإقدام، الفلسفة إقدام وشجاعة، إنها انفلاتات الفكر نحو التأسيس لفكر آخر، وبناء للهوية كاختلاف وليس كثبات، وتقويض للنموذج الواحد لصالح النماذج المتعددة، وخلخلة للمركز نحو العودة إلى الهامش، ودحض للخطاب الوحيد نحو الخطابات المتعددة، وتفكيك للنص المستبد لصالح النص المنفتح المتغير، وهدم للطمأنينة إرساءً لمنطق الانتقال والترحال نحو المجهول، ربما لهذا الأمر يخاف منها المفكر التوتاليتاري، مثلما يتوجس منها العاجز عن التفكير، وبقدر ما يرتعب منها حارس وقاضي الفكر، بقدر ما توقظ مضجع الجاهل فكريا، ومنه فقد توجب التذكير بأنه كلما عم الجهل غابت الفلسفة، وكلما ساد التخلف كنا بحاجة إليها، وكلما حلمنا أكثر كلما كان حضورها أكبر.

anfasse15047من النافل القول بادئ ذي بدئ، أنه لا يمكن أن نفصل الآراء السياسية لباسكال عن سياقها التاريخي_السياسي الذي أنشأها، و تأسيسا على ذلك، سنعمل في الجملة الأولى من هذا القول على استعراض هذا السياق، على أن نتحرى في ذلك أوجز القول و أخصره، لنصرف الاهتمام في الجملة الثانية لاستعراض آراء باسكال السياسية من خلال "الخواطر"، و المرتبطة هاهنا بالمفاهيم السالفة الذكر، على أن نعمل في الجملة الأخيرة على بلورة خلاصة ممكنة لهذا القول.
 إذا كانت الحرب المدنية هي أسوء المآسي بالنسبة لباسكال، فذلك يمكن أن يرد ، بشكل جزئي، إلى أن أحزمة البنادق قد احتدمت ما بين (1648-1652 ) ،كما أنه إن كان يدافع بمرارة عن الأخلاق المسيحية، فلأن " لويس 14" ، بدعم اليسوعيينJésuites، حارب "بوررويال" الذي كان يُتصور كمكان للنقاد وللعداء، و للاستقلال المطلوب ضدا على سلطته الشخصية المطلقة.[1]
من جهة أخرى، هناك كتابين اثنين أثرا بشكل كبير في باسكال: " المحاولات"Essais" لمونتين، و بالخصوص[ " الدفاع عن "وريمون سبوند"Raymond Sebond ]، و" مدينة الله" للقديس أوغسطين. الأول، يذهب إلى أن القوانين و العادات هي نسبية و مستقلة عن كل عقلانية، ذلك أن " مونتين" يندرج ضمن تيار الشكوكيين الجدد « Néosceptique »لعصره، الذي يعيد التساؤل حول الوصية الأرسطية، المتمثلة في  اكتشاف عالم جديد و حروب الأديان[2]، أما الثاني؛ فيعيد فكرة أن المدينة الحقيقية الوحيدة هي المدينة المسيحية، أي مدينة الله.