برزت العولمة قوية منيعة مع الولادة المزدوجة للأسواق العالمية و الشبكة العنكبوتية ٬ ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين . فتحت وطأة مبدأ التنافسية التي قام عليها الاقتصاد ٬ تم الكشف الخارق عما تعنيه العولمة عندما تستخدم من أجل تجفيف الينابيع العميقة التي يستقي منها الٳنسان وعيه بذاته و للعالم المعروض فيه .
فالتنافسية لم تأت عن هوس في الرفاهية ٬ أو عن رغبة في مطابقة السماء للأرض بٳحلال الٳنسان محل الٳله الميت . بل حلت رافعة لواء التقدم لتغزو كل المجالات الٳنسانية و الرمزية و المادية . حينها أصبح للتقدم مرادف واحد يفيد معناه : ٳذا لم تستطع المضي نحو الأمام ٬ و ٳذا لم تبتدع أشياء جديدة فمصيرك التلاشي . و بتعبير أدق ٬ أضحى التقدم المسكون بقوانين التنافسية يدفع نفسه بنفسه ٬و يحصد ما يحصد من ٳنجازات مستبدا بمركزيته ٬مستعبدا الٳنسان في دائرة مغلقة من الٳنتاج الهادف ٳلى الاستهلاك دون علة غائية .
كل ذلك يطرح بحدة نوع التحولات المستقبلية التي تنتظر الٳنسان . لذا نجد لوك فيري Luc ferry يشبه النظام الاقتصادي بالانتقاء الطبيعي للنزعة التطورية عند داروين Darwin . فكل فصيلة لم تستطع التكيف مع متغيرات العالم مصيرها الانقراض . كذلك الأمر في عالم محموم أمسى التقدم فيه المعادل الموضوعي لفكرتي التجديد اللامتناهي و الاختراع المقترنين بعملية التكيف الدائم .
قراءة في كتاب" مدخل إلى الفكر المركب" لإدغار موران ـ زياد الترتير
في سياق قراءته للحقل الفلسفي والعلمي والإبستمولوجي (المعرفي) المعاصر، يقر الفيلسوف الفرنسي إدغار موران بهيمنة منظومة التبسيط والاختزال إلى الوحدات الأولية لمختلف الحقول المعرفية كالذرة في الفيزياء، والخلية في علوم الحياة، والتركيب (Structure) في قواعد اللغة على أساس أن الوحدة غير قابلة للتفكيك، ووحدها القابلة للضبط والقياس، فقامت منظومة التبسيط بتنظيم الكون عن طريق اختزاله في كيانات وجواهر مغلقة وثابتة، عذرية وخالدة، لا تعرف التناقض والاختلال. وبذلك شكلت لاوعي الفكر الغربي، وحكمت نظرياته وخطاباته.
إن منظومة التبسيط باختيارها ذاك النظام، والعذرية، والثبات، والخلود، والأصل، والهوية، والاستمرارية، قامت بحرب تاريخية وتجاهل هائل لأسئلة لا يجاب عنها بصدد التحوّل، والفوضى، والتجدد، والخلق، والتعقد، والصدفة، والاختلال، واللانهائي، واللايقيني. إن كبح تلك الأسئلة يُعقّد من فهم ومعرفة أدق للعالم والكون بعد الاكتشافات الفيزيائية لكوانتوم الطاقة وللأنظمة المختلة والعلوم النسقية عموماً، التي تتطلب أدوات وأطراً ينظمها الفكر المركب القادر على تمثل الوجه الجديد لعالم دينامي، صدفوي، متنوع، ومتحول، ولا نهائي. إن مهمة الفكر المركب هي تغيير هوية العالم الذي ارتكز فهمنا له على منجزات العلم الكلاسيكي.
حول فكرة الإلحاد ـ هادي معزوز
كثيرة هي النقاشات التي كتبت أو قيلت حول فكرة الإلحاد، وكثيرة أيضا هي المقاربات المهتمة بها، سواء بقول فلسفي هدفه الرئيسي أشكلة ومساءلة منطق الإلحاد، أو بميزان ديني غرضه الحكم على هذا المنطق، أو انطلاقا من عين سوسيوثقافية فضولها يسعى إلى تفسير هذه الظاهرة عبر التاريخ من جهة، وداخل المجتمع من جهة ثانية، ناهيك عن السيكولوجيا التي لها من التفاسير هي الأخرى حول الفرد انطلاقا من طفولته وما عاشها، تأثير ليس بالهين كذلك على فكرة الإلحاد، دون نسيان البيولوجيا التي يرى بعض المهتمين بها، أن في دماغ الإنسان باحة أطلقوا عليها باحة الإلحاد، إذ في البدء كان الإنسان بمعزل عن كل القوى، وما الإيمان بإله أو آلهة متعددة سوى تأثير تمارسه الثقافة، سنعود للدين بداية حيث سنرى بأنه عدو لدود للإلحاد والملحدين، إذ كلما غاب الدين كثر الإلحاد، وكلما غاب الإلحاد تقوى الدين، هي قاعدة ثابتة منبعها النص الديني حيث لا غبار عليها ولا نقاش فيها، الدين يخاف من فكرة الإلحاد لأنها تجهز على مبدأه وأُسِّهِ، إنه صراع من أجل البقاء لم ينحصر في المستوى النظري المحض فحسب، بل تعداه إلى ماهو مادي صرف، وهو سبب البلاء والحروب التي نزلت في حقب غابرة أتت على الأخضر واليابس، طامسة هوية لصالح أخرى، وهكذا دواليك إلى يومنا هذا.
المحاكاة في فكر نيتشه الشاب : مولد التراجيديا الإغريقية نموذجا ـ نادية عبد الجواد
" لقد ولَت كلَ الأنساق الفلسفيَة و هاهم الإغريق يضيئون دربنا و خاصَة منهم إغريق ما قبل سقراط"
لئن وضعت الفلسفة المعاصرة موضع السؤال كلَ البديهيات التي قامت عليها الحداثة -كمفهوم الذات الديكارتي أو الروح المطلق الهيجلي و غيرهما من " الأحكام المسبقة" التي قدَمت نفسها ك "حقيقة" ثابتة لا شكَ فيها و كمقولات بعيدة عن الريبة و الظنَ – فإنها ذهبت إلى أبعد من ذلك بأن عادت عودة تسآليَة لمواضيع قديمة ظنَنا أنها قد نسيت و امحت باسم ابتسار أحديَ لا يرى في الفكر سوى تطوَرا مستمَرا راسما خطَا مسترسلا كأنما التاريخ كتلة واحدة لا انقطاع فيها و لا تشققَ.
و تجد هذه العودة ما يشَرع لها فيما قام به الفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه عندما استرجع المسألة التراجيديَة الإغريقية استرجاعا قائما على الجمع بين العمل الفيلولوجي الصارم و التأويل الفلسفي و هو ما عبرَ عنه حول المسألة الهوميريَة سنة 1869 قائلا :
" إن كل نشاط فيلولوجيَ يجب أن يكون موَجها و مؤطَرا ضمن تصَور فلسفيّ للعالم"
التجربة الفلسفية بين النقد والتأسيس ـ د. زهير الخويلدي
مدخل عام
يبدو أن صاحب الظن "الفيلو دوكس" لا يكترث بتحديد قيمة ما يعرفه من حقائق ولا ينتبه إلى ضرورة التفكير في إدراكاته ، فهو يستخدم على الفور كل ما يوفره بادئ الرأي والحس المشترك ويستغرق في استعمال العقل وكيفيات الارتقاء به إلى أعلى مراتب التأمل ودرجات الذكاء دون التفطن إلى مراتب هذا الاستعمال ومنازله ، ودون التمييز بين استعمال خاطئ واستعمال جيد وعدم الاستعمال للعقل، وهو بذلك لا يرى ضرورة للنقد والتأسيس ولا يدعو لذلك فكل ما ينبغي إيجاده هو موجود ويمكن اقتناؤه إما بالتقليد أو بالعادة والبداهة. إن يستعمل العقل استعمالا دغمائيا ويتهرب من النقد لأن هناك ثوابت ومقدسات وأسيجة لا يتقبل النقاش ولا يمكن اخضاعها للفحص المتعمق والدقيق مثل السياسة وخاصة علوية القوانين والدين و بالتحديد وجود الإله و صلوحية النص المنزل ويقف صاحب الظن غير بعيد عن المزيولوجي أو المثقف الهائم الذي لا يكترث هو بدوره بالعالم و ما يحدثه من مراجعات و تقدم وثورات وتحولات على رؤية الإنسان لذاته والآخر وللعالم ويقضي الوقت كله في التفلسف بشكل مجرد ومنعزل وذلك بتشييد الأنساق من استعارات ميتة وأبنية شاحبة تشبه بيوت العنكبوت ، و "للمزيولوجي" سبب معقول لجهله نفسه وهو الباحث عن المعرفة إذ لم يسبق له مرة واحدة أن تساءل عنها فكيف سيمكن له في يوم من الأيام أن يكتشفها ؟
من هذا المنطلق ما كان مشروع النقد والتأسيس لينمو لدى الإنسان إلا تحت ضغط الحاجة إلى تجاوز الخطأ وتدارك الوقوع في أية أزمة معرفية أو حيرة وجودية ولو تسنى للإنسان أن يحيا دون المعنى والفعل والتواصل لأمكنه الاستغناء عن مشروع النقد والتأسيس المرتبط بمصير الفرد وبمستقبل الحضارة والثقافة التي ينتمي إليهما. فإذا كانت أزمة كريزيس المجتمعات هي التي تحمل على نقد العقل بالذات ولنقل إنه يحمل على نقد العقل لذاته أي نقد قواعد الذهن وآلية الفكر ومنطق البحث ومناهج التحقيق. وعندها لا تقتصر المعالجات على نتاجات الفكر بوصفها آراء ومفاهيم أو باعتباره مذاهب ومدارس بل تتعدى ذلك إلى البحث في أصول المعرفة ونظمها وإلى التنقيب عن أسس الثقافة وبناها العميقة.
أضواء حول صدى نيتشه في فكر ميشيل فوكو ـ إسماعيل فائز
"أنا ببساطة نيتشوي أحاول بقدر الإمكان أن أرى بخصوص عدد من النقاط – بمساعدة نصوص نيتشه- ولكن مع ذلك مع أطروحات مضادة لنيتشه (وإن كانت مع ذلك نيتشوية) ماذا يمكن أن نعمل في هذا المجال أو ذاك. لا أبحث عن أي شيء آخر، ولكني أبحث عن هذا بحق" (ميشيل فوكو)
تقديم :
قد لا يختلف اثنان حول قيمة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، وأهميته داخل المسرح الفلسفي ككل. ومكانته الكبيرة تلك، يستمدها من كونه فيلسوفا أبدع مفاهيمه: بتعبير دولوزي؛ ولأنه أيضا فكر بشكل مختلف، بتعبير فوكوي، سواء من حيث الموضوعات والإشكالات التي تناولها، أو من حيث الطريقة التي عالج بها تلك المواضيع.
بدأ فوكو مسيرته الفلسفية، بكتابه الشهير "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي"، الذي قام فيه لأول مرة بتسليط الضوء على موضوع، طالما اعتبر هامشيا، ليردفه بعد ذلك بمؤلفات أخرى مثل: "مولد العيادة"، و"الكلمات والأشياء"، و"المراقبة والعقاب"، و"تاريخ الجنسانية" بأجزائه الثلاثة... انكب في هذه الأعمال على بلورة حفريات للمعرفة، تأخذ على عاتقها التأريخ للفكر والعلوم، من منطلق أشكلة ظهورها ونشوئها.
وإذ نقوم بعرض بعض الخطوط العريضة للمشروع الفوكوي، في الورقات الآتية (ونحن واعون باستحالة رصد كل الفكر الفوكوي الشاسع في هذا البحث)، فلكي نستجلي حضور نيتشه في هذا الفكر. فكيف يمكن الحديث عن تأثير نيتشوي في فكر فوكو؟ وإلى أي حد يمكن القول بحضور نيتشوي داخل البيت (الفكري طبعا) الفوكوي؟ وإلى أي مدى يمكن الحديث عن تقاطعات بينهما؟
"ثورة الأمل. نحو تكنولوجيا مؤنسنة" لإريك فروم ـ د. حميد لشهب
ألف إيريك فروم "ثورة الأمل. نحو تكنولوجيا مؤنسنة" عام 1968، و أعيد طبعة في المجلد الرابع من أعماله الكاملة: "النظرية الإجتماعية"، سنة 1989 بمدينة ميونيخ الألمانية؛ إلى جانب أحد أهم كتبه الأخرى: "سبل الخروج من مجتمع مريض" (1955). و الكتاب هو رد فعل منه على وضع أمريكا عام 1968، اقتناعا منه بأن الإنسانية توجد في مفترق الطرق: الأول يقود إلى مجتمع آلي تقني، يكون فيه الإنسان جزء من آلة و يكون القضاء عليه وارد و واقعي. أما الثاني فيتتوق إلى بعث النزعة الإنسانية والأمل في الحياة، بوعي كون التقنية لابد أن تكون في خدمة رفاهية الإنسان و ليس العكس. و هدف الكتاب هو التنبيه إلى المنعطف الخطير الذي تمشي الإنسانية فيه و ضرورة الفعل في المجتمعات الإنسانية، و بالخصوص المصنعة منها، من أجل إيجاد بدائل تقوم على العقل و حب الحياة، عوض اللاوع و اللامعقول حيث يسبح العالم الحالي، المليئ بالكراهية و الإقصاء و التدمير. و الكتاب موجه لجمهور عريض بغض النظر عن المواقف السياسية المختلفة لهذا الجمهور و انتماءاته العقائدية و الثقافية و الجغرافية، من أجل تحقيق حدا أدنى من الكرامة الإنسانية للجميع و العيش معا في سلام.
"مخارج من مجتمع مريض" لإريك فروم ـ تقديم: د.حميد لشهب
نشر فروم هذا الكتاب، و هو أهم كتاب مبكر له، عام 1955، و أعيد نشره في أعماله الكاملة بميونيخ سنة 1989، المجلد الرابع: "النظرية الإجتماعية" إلى جانب كتابه الشهير الآخر: "ثورة الأمل. من أجل أنسنة التقنية".
يناقش الكتاب مشكلة الإنسان الحديث في مجتمع يُرَكِّزُ كل همه على الإنتاج الإقتصادي و التقني، ولا يهتم بتطوير العلاقات الإنسانية الصحيحة بين أفراد مجتمعه. يؤكد فروم بأن النظامين الرأسمالي و الإشتراكي المادي قد فشلا في قيادة المجتمع في الطريق الصحيح (التضامن، التسامح، وعي المصالح العامة إلخ) و سببا للفرد فقرا وجوديا و خيبة أمل ضمنية أو صريحة في تحقيق مُثُل إنسانية سامية، تجعل من الرفاهية المادية و المعنوية هدفها الأخير. كما أنه يشخص أمراض المجتمع ويعرض ما يراه من نواقص وعيوب. ثم يشرح ما اختاره المرء من حلول للمشاكل التي يعانيها المجتمع، وهي حلول تركز كلها على تطوير النظام الرأسمالي وقيام الحكم ديكتاتوريات مختلفة جراء ذلك و التنبأ بانهيار الشيوعية المادية. و يعتبر فروم كل هذه الحلول دون جدوى، لأنها لا تعالج المشكل في أساسه، بل تعمل على تعقيده. ولا يرى أي حل لهذه الأزمة إلا ببديل "الإشتراكية الإجتماعية". يفصل القول في شرح بديله هذا و يبين ما يقصده به. فهو الذي يضمن في نظره للمجتمع سلامة العقل الجماعي ولا تستغل الفرد لتحقيق أغراض أقلية، سواء أكانت طبقة سياسية أو دينية. أهم شيئ في هذا المجتمع الجديد هو تطوير الجانب الإنساني في الإنسان، و هو جانب قابع فيه لا ينتظر إلا الفرصة لينبثق و يتفتح. و من الضروري في نظره أن يوجه الإقتصاد و السياسة و الثقافة و لحتى الدين في هذا الإتجاه قصد تحقيق هذا الهدف. و يخصص حيزا كبيرا لتحليل هذا الأمر، قبل أن يختم بتقديم اقتراحات عملية في الإصلاح الإجتماعي، الذي يهدف إلى الحد و لربما القضاء على نمط الحياة الآلية التي رُمي المجتمع فيها. و النتيجة هي بناء مجتمع سليم، يكون كل فرد فيه منتج ماديا و معنويا و مسؤولا واعيا عن نفسه و عن الآخرين.
البعد الفلسفي في سؤال الموت ـ هادي معزوز
بين سؤال الموت ولعبة الحياة تفاصيل كثيرة، لكن السر الأساسي الذي تميز بالحضور غيابيا، هو العلاقة التي تربط بين الإثنين، والتي عادة ما يتم تصنيفها ووضعها موضع نقيضين ومتضادين، فنقول من حيث لا ندري بأن الموت نقيض الحياة والعكس صحيح. فَحْوى هذا السر هو أن الحياة لم نكن لنحس بها لولا وجود الموت، إن الحياة هي التي تقتل نفسها كي تتحول لِموتٍ ما، وإلا فلماذا نقتل الآخر كي نحيا نحن على أنقاضه؟ قد يكون هذا القتل رمزيا، مثلما يكون ماديا وهو ما يحصل في الحروب، حيث يصبح المنطق الحاكم هو : أقتل خصمك كي تضمن لنفسك استمرارا في الحياة، وهو ما يؤسس لحياة جديدة ــ كادت أن تكون موتا ــ على حساب موت الآخر، أي أن الموت تنحدر من الحياة دون أن تُناقِضها. لكن ثمة في هذا الأمر خَطبًا آخر غريبا كل الغرابة، حتى يكاد المرء لا يختلف مع نظيره بأن الإنسان كائن مجنون، أو حيوان مريض بلغة نيتشه، فحوى هذه الغرابة هو محاولة زرع الإنسان للحياة مرة أخرى داخل مجال الموت، والحال أن الإسكاتولوجيا تثبت شِقّاً مما ذكرناه الآن، حيث سنأخذ طقوس الدفن على سبيل المثال، إذ بعدما كان الميت يُرمى في البحر، وبعدما أصبح يوضع وراء النهر لأن الأرواح الشريرة لا تستطيع عبور الأنهار، أصبح الإنسان، أو قُل جسد الإنسان، يُحنّطُ بغية إدخاله الحياة، لكن الأمر الأخطر التي تتحدث عنه الإسكاتولوجيا هو أن وضع جثة الإنسان في الأرض، هو بمثابة عملية زرع البذرة كي تنبث مرة أخرى، وهذا ما كان يعتقده الإنسان قديما، إلى أن صُدِمَ أنطولوجيا عندما لم تنجح محاولته هذه في إخراج الحياة من الموت، ومن ثمة فإن موت أحدهم أصبح يعني فقدانه للأبد، لكن وبما أن الإنسان كائن مقاوم للمستحيل، فقد أنشأ لنفسه عوضا عن ذلك شيئا جديدا الغرض منه درءُ النسيان، وإضفاء طابع الخلود عن الغائب، أي حضور الغائب ليس كنسيان، بل كتذكر، وما وضع الميت في الأرض، ووضع علامة أو رمز على لَحدِهِ إلا طريقة لحضوره كغياب.
ما الفلسفة؟ ـ فوزية ضيف الله
إنّ سؤال "ما الفلسفة؟" هو سؤال يطرحه العاميّ كما يطرحه الفيلسوف. إلاّ أنّه سؤال عنيد، متكرّر الطرح، فغياب الإجابة يحيّر العامّي كما يحيّر الفيلسوف. غير أنّ الفلسفة لا تقدر على مواجهة ارتباكها إزاء هذا السؤال أو إزاء مداراته لكأنّ الفلسفة إنّما تنتهي إلى حدّ الصّمت إذا تعلّق الأمر بذاتها[1]. فسؤال "ما الفلسفة؟" هو السؤال الذي لم تقدر الفلسفة لا على دفعه ولا على الاجابة عنه[2]. فما الفلسفة؟ وهل من تعريف لها؟
إنّ هذا السؤال الماهويّ إنّما هو سؤال يبقي على المسافة، بينما الهدف من السؤال الإقامة داخلها[3]، فسؤال ما الفلسفة- ضمن المنظورية الهيدغرية- إنّما يترصّدها ويجعلنا أمام تلمذة لا نهائية لفلاسفة قدامى. فأن نستعيد التعريف الأرسطي للفلسفة، فإنّ ذلك يعني فيما يعني، الإبقاء على أرسطو وصيّا يفكّر عوضا عنّا. فأيّ سؤال يمكن أن يجعلنا داخل الفلسفة؟
إنّ تهافت سؤال "ما الفلسفة؟" يجعلنا نستعيض عنه بسؤال "ما التفلسف؟"[4] فهو سؤال قادر على أن ينفتح على أفق الفلسفة ليجعل للذات إقامة أبدية في ربوع التفكير الفلسفي؟ هل أنّ سؤال "ما التفلسف؟" هو سؤال يدعونا للإقامة لديه أم أنّه يدعونا إلى معاودة التفكير في معنى الإقامة من أجل التفكير(هيدغر)؟
ليس لدينا دلالة واضحة عن التفلسف فلماذا يصمت هيدغر عن سؤال "ما التفلسف؟" رغم أنّه ينبّه إلى أنّ الاهتداء إلى ماهيّة الفلسفة لا يكون إلاّ بمباشرة فعل التفلسف. إنّ صمت هيدغر عن ماهيّة التفلسف هو صمت يعبّر عن تحوّل في دلالة التفلسف إلى موطن للتساؤلات. فما التفلسف؟ وفيم يتمثّل؟
لقد قال يانكليفيتش (Jankélévitch) بأنّ التفلسف يتمثّل في "أن ننظر إلى الكون وكأن لا شيء فيه يسير على ما يرام"[5]. فهل يمكن أن نعتبر هذه الإجابة أو هذا التعريف أفقا ملائما للنهوض بسؤال "ما الفلسفة؟"، أي بالكشف عن ماهيتها؟ كيف يكون النظر إلى الكون من جهة أنّه لا يسير على ما يرام، سبيلا للإقبال على فعل التفلسف؟، أي هل أنّ النظر إلى الكون يضطلع بالشروط التي يتدبّرها الفيلسوف من جهة استعداده لخوض غمار التفلسف؟ بعبارة أخرى، هل أنّ ما يدفع إلى التفلسف يعود إلى بنية العالم أم إلى بنية الذات؟
المراهق والفلسفة .. وبؤس المؤسسة ـ محمد الحوش
لا أحد من المشتغلين بالحقل الفلسفي سواء كان طالبا أو مدرسا أو مفكرا ينكر أن الفسلفة ذات طابع نقدي، وأنها قد تتخلى عن القيام بالشغب والبناء الفكري الذي تأسست من أجل القيام به. هذا الشغب الفكري ينبني على عدم القبول بالجاهز غير الواضح، وعدم قبول ما هو متستر وراء خلفيات وادعاءات تقدم نفسها على أنها فكر ونقد لوضع قائم، في حين أنها في الغالب مجرد أفكار لا ترى إلا نفسها تنطلق منها لتعود إليها في غياب تام للعقل، فهي إذن بمعنى من المعاني ذات صبغة مرضية لا ترى الآخر وفكره. من اجل مواجهة هذا النوع من "التفكير" تأسس الفكر الفلسفي باعتباره ثورة أو على الأقل دعوة إلى الثورة على التسطيح الفكري وعلى عدم الالتزام النقدي اتجاه مختلف القضايا كيفما كانت طبيعتها، فلا يمكن للنقد أن يكون بوجه من الوجوه نقدا انتقائيا، نقدا لليمين دون اليسار أو نقدا للأعلى دون الأسفل ...
في هذ المسألة بالذات - مسألة النقد – تلتقي الفلسفة وتشترك مع المراهق، ذلك أن من أهم سمات هذا الأخير هي الثورة والدعوة إليها، وإن بوسائل أولية تتطبع بخصائص المرحلة التي يعيشها، إلا أن هذه الثورة تتخذ طابعا عاطفيا أو إن ما يحركها يكون عاطفيا في حين أن ثورة الفلسفة تحركها مبادئ عقلية.
إذن المراهق والفسلفة يشتركان بطبيعتهما في الدعوة إلى التجديد والنقد وبناء رؤى ونماذج أخرى للواقع تستجيب للمتطلبات العقلية والعاطفية كل حسب هدفه. بهذا المنطق يكون المراهق مستعدا بالطبيعة للانخراط في الفعل الفلسفي عامة والدرس الفلسفي المدرسي على وجه الخصوص، ذلك أن "مبادئ الفلسفة" جزء من مبادئ المراهق المعيشية واليومية ذات الطابع العاطفي. وبذلك يبقى المطلوب أو الواجب الذي يجب أن ينشغل به المدرس هو كيفية تحويل هذا الهم العاطفي الداعي إلى التغيير من طرف المراهق إلى هم عقلي منضبط برؤى نقدية باعتبار هذا الهم الأخير من مشاغل الفكر الفلسفي.