إلى اللقااااااااء...».
صاحت الأفواه الصغيرة متلاحقة تنفذ واجبها اليومي المقدس، فجاءت العبارة شاردة، متعثرة وساحرة. لفظتها شفاه صغيرة مازالت تتحدى رخاوتها لترويض الأبجدية.
تلك عادتهم حين يخرجون من الروض كل مساء.. أطفال بطراوة الخيزران، يتسابقون ويتدافعون، وبمجرد ما يتجاوزون الباب يطلقون من حناجرهم المنهكة بالأناشيد وعد اللقاء، وينطلقون منتشين بالانعتاق من طاولاتهم الخشبية الصغيرة. فتسبح العبارة في الفضاء كغمزات النوارس. وينتشرون في الأزقة متوجهين إلى بيوتهم كفراشات ملونة.
غدا خروجهم مألوفا لدى المارة والجيران. وأضحت وشوشاتهم وهتافاتهم لازمة يومية، تنبه الخاملين في غفوة المساء، وتذكر النسوة العجائز بموعدهن اليومي، فيأتين إلى متربة الروض، بعد فراغها، ليكملن النهار بالثرثرة ومشاطرة الأخبار والأسرار "العجوزة".
لكن الأطفال هذه المرة كانوا على غير عادتهم، يخرجون فرادى مبطئين الخطوات وعيونهم إلى الخلف.. كأنهم مشدودون برغبة البقاء. بدا انشغالهم كبيرا لدرجة أنست البعض منهم إطلاق وعد اللقاء. وتكدسوا جميعا أمام الباب مشدوهين؛ عيونهم مفتوحة أكثر من حجمها، ونظراتهم متوثبة نحو الداخل، وعلى محياهم ملامح استفهام وحيرة. كان أحد زملائهم قد تم النداء عليه قبيل انتهاء الحصة من طرف إدارة الروض.. رأوه أثناء خروجهم جالسا على الكرسي الأسود الوثير، متكئا على المكتب البني العريض، فتحرك في خاطرهم ما يشبه الحسد الصغير..
تأخر قليلا.. كانوا ينتظرون، محافظهم على ظهورهم، وفي أيديهم أكياس بلاستيكية صغيرة يحملون فيها رغيف الاستراحة، ويعودون بها فارغة لتملأ من جديد.. وجوههم المدورة ملطخة بالطباشير، وملابسهم التي أحاطتها الأمهات بعناية التنضيد مهملة كعادتها عند الخروج. طال الانتظار، والسؤال الصغير في الصدور صار أكبر. أصروا على البقاء حتى يخرج ذلك المختال على الكرسي الكبير. تبادلوا نظرات الحيرة وهم في شرود، وظلوا مستسلمين لسطوة الانتظار.
أخيرا رأوه يخرج جاريا، في يده ورقة، وعلى وجهه صفرة اعتزاز.. ما كاد يتجاوز الباب حتى صاح
"هِييييي!!!". اقترب منه زملاؤه وأحاطوه كسرب من النحل.. أخذ يريهم الورقة بحركة من يده أشبه بالتوعد. تفاقم ذهولهم لما لمحوا في طرفها الأسفل دائرة حمراء تتوسطها لخبطة بالأزرق. وغمرهم إحساس بالغيرة.. ودوا لو أخذوا مثلها ليعززوا بها مدخراتهم من الوريقات وصور الحلويات.
كان الطفل صاحب الوريقة بادي الغبطة والحماسة، يحدثهم بشفتين تتموجان من ثقل الكلمات وهم ينصتون في ذهول متحسر. بدا وجهه مشرق القسمات رغم أن رموشه كانت ملتصقة بأثر الدموع، فقد تلكأ أثناء الدرس في كتابة حرف الميم وتباطأ في رفع سبورته فجاءت إليه المعلمة حازمة؛ سألته عن سبب تهاونه، لكنه لم يجد ردا، أصرت على السؤال وأصر على الصمت. ضربته على كتفيه بغصن زيتون لادغ، فبكى دون أن يصدر صوتا، وتكومت الدموع في مقلتيه كحبات البرَد. عاودت لدغه وعاود الضغط على بكيته وهو يدخل عنقه بين كتفيه كسلحفاة صغيرة. وضربته أكثر حتى أجهش وفاضت عيناه. لكن الورقة أنسته كل شيء. وها هو يسترجع كبرياءه الصغير ويتعاظم أمام أترابه الذين تفرجوا عليه حين لم يستطع كبح الدموع.
لم يطل معهم الوقوف.. أشفى غليله وتركهم يجترون خيبتهم. انطلق جاريا يجر حذاءا أثقل من رجليه؛ يكاد ينفلت من قدميه مع كل خطوة حتى يظهر سواد الأخمصين، ثم يعود إلى مكانه. ود لو يتخلص من الحذاء اللعين الذي يبطئ ركضه، لكنه تابع الجري محتملا رداءته كرها. لم يتوقف عند باب الدكان ليتفرج على الحلوى كما يفعل دائما.. كان سحر الورقة يجره بثبات نحو البيت. تعثر وسقط، لكنه لم يبك، ربما لم يتألم.. لا وقت للألم.. عاود النهوض وغالب الكبوة بانطلاقة أخرى أشد رغم ثقل الحذاء. تعثر مرة أخرى وسقط على بطنه كمن يتعلم السباحة أول مرة. فتناثرت محتويات محفظته المفتوحة باستمرار؛ سبورة صغيرة، وأقلام ملونة عبثت بها المنجرة حتى أضحت بطول أصابعه. وانطلق كيس الرغيف الفارغ تدفعه الريح. استبدت به رغبة البكاء، وظهرت بوادرها على أرنبة أنفه، لكنه لم يرض.. طمس معالمها بضحكة حمراء مشبعة بالأنين، وتجرع الألم إلى الداخل. وحدها الوريقة ظلت في يده محروسة بإصبعين؛ فهي انتصاره الوحيد والكبير.. لم ير من أدواته المهدورة على الأرض إلا السبورة الباهتة السواد.. تأبطها وواصل الجري باسطا يده التي تحمل الورقة كي يراها كل العابرين.
وصل إلى البيت. كانت جوارحه تخفق من فرط الركض وثقل الحذاء. شرع يطرق بيده وحذائه غير محتمل أي تباطؤ في فتح الباب. خرجت أمه مفزوعة وفي يدها أحد نعليها. دخل مندفعا فضربته على مؤخرته وهي تلعن. لم يعبأ.. أخذ يريها الورقة ثم يخفيها خلف ظهره بحركات أقرب إلى الرقص. حين أدرك أنها غير مبالية سلمها إياها. نظرت إلى خاتمها الأحمر ولم تفهم مضمونها، فأرجعتها إليه ببرود تحسس الطفل جفافه، وقالت: « سلمها لوالدك حين يعود..».
تأخر الأب، واشتدت لهفة الصبي في أن يطلعه على ورقته المميزة ويفرح وجهه المتجهم باستمرار. مر الوقت وئيدا على فؤاده الصغير. انشغل مرة بلعب "الغميضة" مع الوسادات، وحين مل جلس مع أمه في المطبخ يرقبها وهي تعد أكلته الفضلى؛ أرز مطبوخ في الماء ومحلى بالسكر. ولما أتعبه الجلوس راح يرسم حرف الميم بالطبشور على الحيطان.. كتبه في وضع تصدر الكلمة، ثم كتبه في وضع التوسط، وحين شرع يكتبه في وضع انتهاء الكلمة سمع قفل الباب يدور. ألقى بقطعة الطبشور وقفز نحو أبيه.. أسلمه الوريقة وظل ينتظر. لكن الرجل نظر إليها بطرف عينه.. فهم أنها تذكير بضرورة أداء الواجب الشهري، فجعدها بين أصابعه وألقى بها على الطفل قائلا: « هل ستأتي بشيء أفضل من وجهك؟؟».
نزلت الورقة باردة على جسمه الصغير، فجمع يديه إلى بطنه وأخذ يعبث بأصابعه، ثم جثا على ركبتيه يلملم فرحته الكسيرة.. أدرك أن الورقة لم تفرح أحدا غيره. لكنه ظل مشدودا إلى دائرتها الحمراء التي تشبه النقش. دسها في جيب سرواله، وانضم إلى المائدة. كانت أمه قد وضعت الأرز المحلى. جلس يأكل ببطء شديد؛ يضع حمولة الملعقة في فمه ويمتص حلاوتها، ثم يظل يلوك الأرز حتى يتمكن من ابتلاعه. وحين انتهى من الأكل ثبّت نظرته الخجولة في والده وسأل: « ماذا تقول الورقة يا أبي؟».
لاذ الأب بالصمت لحظات ثم قال: « تقول إنك مصيبة أخرى». كان الطفل ما زال ينظر إليه، وفهم من تعابير وجهه أن المصيبة شيء سيء، فأطرق ينظر إلى ركبتيه متحاشيا من نظرات أبيه.
حين اطمأن إلى أن العيون لم تعد ترقبه توجه إلى غرفة النوم.. رفع طرف البساط ووضع الوريقة في حفرة صغيرة يخبئ فيها أوراقه الحميمة. ثم حمل خيبته الكبيرة إلى مرقده الصغير.. دس رأسه تحت الوسادة، ووضع كفيه بين ركبتيه، ونام مفتوح الفم.. يحلم بصباح جديد...
تأخر قليلا.. كانوا ينتظرون، محافظهم على ظهورهم، وفي أيديهم أكياس بلاستيكية صغيرة يحملون فيها رغيف الاستراحة، ويعودون بها فارغة لتملأ من جديد.. وجوههم المدورة ملطخة بالطباشير، وملابسهم التي أحاطتها الأمهات بعناية التنضيد مهملة كعادتها عند الخروج. طال الانتظار، والسؤال الصغير في الصدور صار أكبر. أصروا على البقاء حتى يخرج ذلك المختال على الكرسي الكبير. تبادلوا نظرات الحيرة وهم في شرود، وظلوا مستسلمين لسطوة الانتظار.
أخيرا رأوه يخرج جاريا، في يده ورقة، وعلى وجهه صفرة اعتزاز.. ما كاد يتجاوز الباب حتى صاح
"هِييييي!!!". اقترب منه زملاؤه وأحاطوه كسرب من النحل.. أخذ يريهم الورقة بحركة من يده أشبه بالتوعد. تفاقم ذهولهم لما لمحوا في طرفها الأسفل دائرة حمراء تتوسطها لخبطة بالأزرق. وغمرهم إحساس بالغيرة.. ودوا لو أخذوا مثلها ليعززوا بها مدخراتهم من الوريقات وصور الحلويات.
كان الطفل صاحب الوريقة بادي الغبطة والحماسة، يحدثهم بشفتين تتموجان من ثقل الكلمات وهم ينصتون في ذهول متحسر. بدا وجهه مشرق القسمات رغم أن رموشه كانت ملتصقة بأثر الدموع، فقد تلكأ أثناء الدرس في كتابة حرف الميم وتباطأ في رفع سبورته فجاءت إليه المعلمة حازمة؛ سألته عن سبب تهاونه، لكنه لم يجد ردا، أصرت على السؤال وأصر على الصمت. ضربته على كتفيه بغصن زيتون لادغ، فبكى دون أن يصدر صوتا، وتكومت الدموع في مقلتيه كحبات البرَد. عاودت لدغه وعاود الضغط على بكيته وهو يدخل عنقه بين كتفيه كسلحفاة صغيرة. وضربته أكثر حتى أجهش وفاضت عيناه. لكن الورقة أنسته كل شيء. وها هو يسترجع كبرياءه الصغير ويتعاظم أمام أترابه الذين تفرجوا عليه حين لم يستطع كبح الدموع.
لم يطل معهم الوقوف.. أشفى غليله وتركهم يجترون خيبتهم. انطلق جاريا يجر حذاءا أثقل من رجليه؛ يكاد ينفلت من قدميه مع كل خطوة حتى يظهر سواد الأخمصين، ثم يعود إلى مكانه. ود لو يتخلص من الحذاء اللعين الذي يبطئ ركضه، لكنه تابع الجري محتملا رداءته كرها. لم يتوقف عند باب الدكان ليتفرج على الحلوى كما يفعل دائما.. كان سحر الورقة يجره بثبات نحو البيت. تعثر وسقط، لكنه لم يبك، ربما لم يتألم.. لا وقت للألم.. عاود النهوض وغالب الكبوة بانطلاقة أخرى أشد رغم ثقل الحذاء. تعثر مرة أخرى وسقط على بطنه كمن يتعلم السباحة أول مرة. فتناثرت محتويات محفظته المفتوحة باستمرار؛ سبورة صغيرة، وأقلام ملونة عبثت بها المنجرة حتى أضحت بطول أصابعه. وانطلق كيس الرغيف الفارغ تدفعه الريح. استبدت به رغبة البكاء، وظهرت بوادرها على أرنبة أنفه، لكنه لم يرض.. طمس معالمها بضحكة حمراء مشبعة بالأنين، وتجرع الألم إلى الداخل. وحدها الوريقة ظلت في يده محروسة بإصبعين؛ فهي انتصاره الوحيد والكبير.. لم ير من أدواته المهدورة على الأرض إلا السبورة الباهتة السواد.. تأبطها وواصل الجري باسطا يده التي تحمل الورقة كي يراها كل العابرين.
وصل إلى البيت. كانت جوارحه تخفق من فرط الركض وثقل الحذاء. شرع يطرق بيده وحذائه غير محتمل أي تباطؤ في فتح الباب. خرجت أمه مفزوعة وفي يدها أحد نعليها. دخل مندفعا فضربته على مؤخرته وهي تلعن. لم يعبأ.. أخذ يريها الورقة ثم يخفيها خلف ظهره بحركات أقرب إلى الرقص. حين أدرك أنها غير مبالية سلمها إياها. نظرت إلى خاتمها الأحمر ولم تفهم مضمونها، فأرجعتها إليه ببرود تحسس الطفل جفافه، وقالت: « سلمها لوالدك حين يعود..».
تأخر الأب، واشتدت لهفة الصبي في أن يطلعه على ورقته المميزة ويفرح وجهه المتجهم باستمرار. مر الوقت وئيدا على فؤاده الصغير. انشغل مرة بلعب "الغميضة" مع الوسادات، وحين مل جلس مع أمه في المطبخ يرقبها وهي تعد أكلته الفضلى؛ أرز مطبوخ في الماء ومحلى بالسكر. ولما أتعبه الجلوس راح يرسم حرف الميم بالطبشور على الحيطان.. كتبه في وضع تصدر الكلمة، ثم كتبه في وضع التوسط، وحين شرع يكتبه في وضع انتهاء الكلمة سمع قفل الباب يدور. ألقى بقطعة الطبشور وقفز نحو أبيه.. أسلمه الوريقة وظل ينتظر. لكن الرجل نظر إليها بطرف عينه.. فهم أنها تذكير بضرورة أداء الواجب الشهري، فجعدها بين أصابعه وألقى بها على الطفل قائلا: « هل ستأتي بشيء أفضل من وجهك؟؟».
نزلت الورقة باردة على جسمه الصغير، فجمع يديه إلى بطنه وأخذ يعبث بأصابعه، ثم جثا على ركبتيه يلملم فرحته الكسيرة.. أدرك أن الورقة لم تفرح أحدا غيره. لكنه ظل مشدودا إلى دائرتها الحمراء التي تشبه النقش. دسها في جيب سرواله، وانضم إلى المائدة. كانت أمه قد وضعت الأرز المحلى. جلس يأكل ببطء شديد؛ يضع حمولة الملعقة في فمه ويمتص حلاوتها، ثم يظل يلوك الأرز حتى يتمكن من ابتلاعه. وحين انتهى من الأكل ثبّت نظرته الخجولة في والده وسأل: « ماذا تقول الورقة يا أبي؟».
لاذ الأب بالصمت لحظات ثم قال: « تقول إنك مصيبة أخرى». كان الطفل ما زال ينظر إليه، وفهم من تعابير وجهه أن المصيبة شيء سيء، فأطرق ينظر إلى ركبتيه متحاشيا من نظرات أبيه.
حين اطمأن إلى أن العيون لم تعد ترقبه توجه إلى غرفة النوم.. رفع طرف البساط ووضع الوريقة في حفرة صغيرة يخبئ فيها أوراقه الحميمة. ثم حمل خيبته الكبيرة إلى مرقده الصغير.. دس رأسه تحت الوسادة، ووضع كفيه بين ركبتيه، ونام مفتوح الفم.. يحلم بصباح جديد...