- كان ذلك قبل عشرين عاما، عندما كانت تأتي لباب الموتى، يتأهب الناس لصلاة الجنازة.
استعاد أنفاسه و زفر متأوها، فتحرك ضوء الشمعدان و تحركت معه ظلال الحاضرين. بلل الطبيب منديل القطن في طست الماء، ثم وضعه على جبهة الوزير، تمتم بصوت مترهل، لا تجهد نفسك يا سيدي، حاول أن تنام قليلا. كالأصم، تجاهل صوت الطبيب و تطلع في خادمه الواقف عند رأسه مبتسما،
- هل تتذكرها، لقد كانت كثيرة الوقوف بأبواب الجامع الكبير، جلبابها الأخضر و لثامها الأبيض، لا تغيرهما و لا يتسخان. لطالما وجدتها تحدق في بيتي العامر بمكناسة، وأنفت أن أكلم مجذوبة و أنا الوجيه ابن عثمان. صمت للحظة كمن يريد أن يوفر ما تبقى له من الكلمات. بإشارة من سبابته، طلب من طبيبه أن يزيح الغطاء عن صدره. بدت الدمامل على ضوء الشموع متقرحة و بشعة، و بدا الألم مشوبا بالحيرة على ملامح الخادم الحزين، و هو يرى رفيقه ينازع سكرات الموت. كيف تصيب العدوى وزير السلطان و تترك خادمه، صاحبه الذي لا يفارقه. تبدد السكون البارد الكئيب، على بحة سعال قبيح، أفلته المكناسي، كأنه يخرج من بين الأشواك، أما حكايته، فلا تصدر إلا عن شجن، في سلاسة و عذوبة.
- في ذلك اليوم، اعترضت طريقي أمام دكان في حومة قبة السوق، رفعت يدها كأنها ستحلف يمينا، و بصوت شديد اللين قالت، أنا أريد كبش العيد، وأنت تريد أن تكون ذو شأن عند السلطان، أعطني ما أريد يعطيك الله ما تريد. كتمت ضحكة كادت تكشف سخريتي. قلت لها، لكنك لا تصلين يا منانة و رآك الناس تأكلين و تشربين في نهار رمضان، و أنت امرأة في الستين. خلت للحظة أن عيناها تتسعان و تمتلئان شبابا و نضارة. صعقني جوابها الواثق، قالت، منانة تعرف ربها و رب منانة يعرفها. شيء ما أخرس لساني فلم أقدر على رد حجتها. دعوتها لداري لتختار كبشا من بين اثنين كنت اشتريتهما ليوم عرفة و عيد الأضحى. أزالت لثامها و كشفت عن وجهها، صبوح و مشرق برغم تلك التجاعيد. أمسكت بيدي و تفرست في عيني و قالت، أمامك سفر طويل، ستصبح سفيرا ثم وزيرا ثم...اكفهرت إشراقتها، و غرقت ابتسامتها في عبرة طارئة، صمتت قليلا و أردفت، ستدفن في أرض نخيل، تموت من الوباء. لم أستطع هذه المرة أن أخفي تأثري، و لا أعرف لماذا صدقتها.
- سيدي، حاول أن تنام قليلا، مر من الليل ثلثيه، و أنت لا تفتأ تذكر هذه المرأة حتى يشتد وجعك، إنها مجرد مجذوبة ساقطة التكليف. ربما لا يقصد الخادم تجريحا مما يقول، و ما حمله على هذا غير حبه لصاحبه الذي ما أحس يوما أنه سيده و مالك صك حريته، بقي نصرانيا على ملة قومه من القشتال، و لم يحدثه ابن عثمان يوما عن دينه و لا عن الصليب المعلق على رقبته. حرك الوزير رأسه يمنة و يسرة علامة الرفض، و تململ و استغفر الله و استدرك.
- علمت أن ما تطلبه تتصدق به، حتى الكبش الذي أعطيتها لم يبت في بيتها، منحته لامرأة توفي زوجها في ذلك الأسبوع. استدار نحو خادمه، و نظر إليه بعتاب و إشفاق و أكمل كلامه، لعل إيمانها يعلو فوق ديني و دينك.
تغيرت لهجته في الكلام و بدا و كأنه يقاوم رغبة في البكاء. كل تلك السنوات و ما فيها من أسفار و سفارات و حروب و مكائد و صراعات، تتزاحم أحداثها في ذاكرته، و تنحبس عنها العبارات و الكلمات، إلا منانة ، تقفز ذكراها إلى لسانه دون جهد أو عناء.
- بعد عام من ذلك اليوم، عدت من سفارتي إلى إسبانيا لافتداء الأسرى، وصلت مكناسة، وجدت حشودا من النساء و الرجال حول المسجد الأعظم ، بحثت عن منانة أمام باب الموتى و لم أجدها، عندما سألت عنها، أخبروني أن صلاة الجنازة ستقام عليها عصرا، كنت أود أن أخبرها أنني أصبحت سفيرا ذو شأن عند السلطان، لكنها رحلت. مرت سنوات أخريات، و جئت إلى شباك مدفنها في روضة الشريفة العلمية الموجود في حومتي، دعوت لها بالرحمة و ناجيت القبر، لقد أصبحت وزيرا يا منانة، إن الله لا يخذلك.
لقد حان الوقت، ذلك مغزى ما فهمه الطبيب من النظرات الموجهة إليه، من رجل على فراش الموت، كان ينتظر منذ سنوات، تحقق نبوءة امرأة لها مع الله علاقة خفية. تعلقت عيناه بخادمه في نظرة وداع حانية، نبست شفتيه بالحروف الباقية من الحكاية، أدفن بمراكش أرض النخيل، أموت من وباء الطاعون. طلب الطبيب من الخادم أن يخبر قصر السلطان، أن السفير الوزير ابن عثمان المكناسي قد أسلم الروح.