أنفاسكانت البارحة أمي هنا، كانت تجود لكل منا بما يشتهى، وكان ما تمنحه عسلا مصفى؛ لوجهها كانت تتفتح أزهار اللوز،والتفاح ، والورد والأقحوان . ولأجل عينيها كانت تتنافس جميعا فتبدع في تشكيل الهيئات والألوان.
وداهمتنا أحذية كثيرة غليظة، شديدة الوقع، قاسية؛ تتقاطع، تتوالى أصوات وقعها في الخارج، كانت تدوس الأزهار التي لم تكن تراها.
قفزت أمي من فراشها وأمسكت ساطورها الحاد، واندفعت نحو الباب الخارجي الذي راح يئز تحت ضغط العسكري الذي كان يريد اقتلاعه، سمعنا ضجة ارتطام جسم ضخم بالأرض، وبعد لحظات عادت  أمي وقد صارت شعلة من نشاط وبيدها ساطورها يتقاطر دما ،تمترست خلف باب غرفتنا ، أمام أعيننا ، دوى انفجار تبعه انتشار نور لامع كاشف تسرب من خلال فتحات الباب حتى تصورنا أننا في منتصف نهار مشمس ؛  هدر الرشاش ، وكان الرمي مركزا على الباب الذي كانت تقف وراءه أمي متحفزة ، تمسك ساطورها الحاد القاطع بيدها  وقد اتخذت وضع الانقضاض ،تنتظر ولوج الجندي  الذي رماها من فوق القرميد فأخطأها وقفز إلى ساحة الحوش ، وكانت تتوقع أن يندفع خلفها  فتعيد معه العملية التي قامت بها في الباب الخارجي مع زميله.
هدر الرشاش المصوب على بابنا للحظات  ثم سكت ، بينما واصل رشاش آخر هديره في  الخارج لكن في اتجاه  ثان، وعلا الصراخ  ، وتوالى انفجار القنابل الكاشفة  فزحزح الليل عن مكانه  ؛ ودارت حرب انتقم الظلام فيها متحديا  الجميع  فابتلع في جوفه كثيرا من أسرارها .

أنفاس1 - ما أتمنى وإن كان بدون فائدة ترجى، أن أحوزه بالنهار، أو على الأقل أن أحتفظ بترقرق ظلاله الفردوسية خلال اليقظة تحديدا، هو تلك اللحظات المجنحة التي تتاخم غفوتي، حيث الليل يفرد على جسدي المحدود برنوسا سحريا أحلق به في ضجة التوليف بين المتخالفات. ضجة غرائبية تتموقع بين الحقيقة والوهم ، بين الواقع والمحتمل، بين الحياة  والموت . لا أعرف بالضبط كيف أسميها ، لكني أحس عميقا أنها لحظات عصية وندية لو أستطيع استعادتها في اليقظة لحكيت لكم أشياء مدهشة ومزدحمة.
2 - أقرر أن أكتب أوبخ نفسي وعندما أكتب أخاف.
3 - ما هذه الخطابات اليومية المدثرة بالتبريرات لمخلفات هزيمة غير متوقعة؟ أتساءل فعلا. متى نتمكن من إنتاج خطاب لا تسلل إليه المسوغات الخرقات ونعلنه بشجاعة؟ ثم كيف نسعى إلى تبطين اقوالنا وأفعالنا بشتى الأعذار في سياقات الجد، ونتخلى عن الأعذار ، إياها في سياقات الهزل؟
4 - لشد ما يفور عطشي إلى الثرثرة عندما يحدث أن أجالس أولئك المعلقين في ربطات أعناقهم، المعتقدين أن دليل الحكمة هو الصمت. آنذاك أشعر أنني استفز تواطؤهم وأحاصر سيولتهم الطبقية الممجوجة.
5 - ألا يجوز أن نفتح قوسا لديكتاتورية الوضوح بعد أن صرنا نفقد أدنى حقائقنا حتى في أبسط أشكال التواصل الاجتماعي؟ أتساءل وأنا قاب قوسين أو أدنى من الاقتناع بأن ديمقراطية الوضوح لم تنجب إلا اللعنة أو تهمة الوقاحة والجلافة.

أنفاسلا أحد في المقهى غيرهما، الجو دافئ والسماء مزهوة بصفائها.
لم تسأله عن شيء، اكتفت بالنظر إلى عينيه الصافيتين...وهي تضع قطع السكر في الفنجان...
 خرج من صمته وقال بما يتناغم مع الجو الدافئ والسماء المزهوة بصفائها:
أحبك.
لم تجبه، إذ في نفس اللحظة التي رفعت فيها بصرها إليه، انحدر من الزقاق عشرة زعران مدججين بالرشاشات وطفقوا يرشقون المقهى بالرصاص مكسرين الزجاج والصمت و...
وماذا بعد؟
 أمامها،  كان الرصاص قد هشم جمجمته ونز خيط دم فوق الطاولة و...
وماذا بعد؟
حركت قطع السكر في الفنجان، رشفت حسوة وهي تسحب نفسا من سيجارة أشعلتها بهدوء وهي ترنو إليه و...

أنفاسغادرت البيت مستعجلة. لم أكحل عينيّ، ولم أغط هالات التعب بماكياج متقن كعادتي.. كان يوما ممطرا، باردا.. ارتديت ملابس دافئة سوداء لكنني تعمدت وضع منديل زهري على كتفي ليكسر كآبة الطقس..
كان قريبا مني.. لسبب ما شعرت به. أحسست به يتربص بي في الشارع. لذا لم أعبر مباشرة. . اقتربت من نهاية الرصيف .... لست ادري.. لم يعد هناك مجال للتقدم أكثر، عبرت... وحينها واجهته، اختطفني ...
                                  ***********************
مددتُ أصابعي أمامي، أعدها، أتأكد من سلامتها..  فتشتُ عن باقي أعضائي.. وجدتني سليمة، سالمة.. أكثر من الضروري .. عندها اكتشفت أني اثنتين ؟
... تحركتُ باحثة عن أطرافي، بقيت من تشبهني على الأرض. وقفتُ، ولم تفعل. انحنيتُ فوقها، حاولت أن أحركها، لكنها بقيت جامدة كحجر، لامستُ جبينها.. شعرها كان مسحوبا للخلف تحت جذع شجرة وتحت رأسها امتدت بقعة دم حمراء!
                            ******************************
جلستُ مرتعبة. لم أشعر ببرودة الأرض ولا بالبلل. الريح بدورها لم تبعثر شعري كعادتها. نظرتُ إليّ مرة أخرى.. لم أبدُ بشعة.
كأنني مستسلمة للحظة تعب على الإسفلت. يدي اليمنى ممتدة على الطريق بينما انحسرت الأخرى في وضعية غير مريحة تحت ظهري، حاولت أن أفلتها دون جدوى.

أنفاسفي مدينتي النائمة بحضن الضفة اليمنى لنهر '' سبو '' ، تبني اللقالق أعشاشها فوق أعمدة النور المعطلة ، لهجرتها موسم معلوم بين الشتاء والصيف ، نتهامس ، تؤذن بربيع محتمل في هذا العام الأغبر !! أراها فتكبر بداخلي رغبة الصعود إليها ، أما السواد المحيط بالرقاب ، فسرعان ما يتلاشى خلف بياض ناصع يتماوج أمام عيون تعبت من بسط السراب على إسفلت داكن .
في الطريق إلى المدرسة، لم أنشغل سوى بردة فعل صديقي المتدين، كعادته سيرعد ويزبد، بعد العلم بخروجي عن جماعته ممن أضربوا أمس.
في حالات روقانه، يحلو لي أن أذكره بتمييزه الجميل باستمرار، بين إضراب المؤمنين وإضراب الكفار، قاصدا بالطبع ما تعرفه الساحة النقابية من اختلاف في المواقع على أساس الاعتقاد الديني، بعدما كان الأصل في التفريق على أساس إيديولوجي بين يمين ويسار، الله يرحم أيام زمان، أصارحه بانكشاف اللعبة التي بدأ يجربها حزبه؟ لكنه يبقى لطيفا وديعا في الحوار.
ربما أجدد له التذكير بيأسي المطلق من كل المسرحيات غير المتقنة الإخراج ، لم يخفف من تهيبي من مواجهته ، غير انشغاله ربما ، ببيان الحكومة حول تفكيك شبكة من إياهم، كنت موقنا أننا في النهاية سنضحك على الحدث، كما سخرنا ذات يوم، من تفاهة باشا المدينة، حين أقدم على تعليق مؤذن الجامع، بدعوى وجود سلاح في البئر الذي تقوم عليه الصومعة، ضحكنا لأن البناء المقام، كان قد شيد قبل ولادة المؤذن، روى من حضر الواقعة، أن التهمة الحقيقية ، إنما هي تبكير الرجل في المناداة على الناس لصلاة العصر، أخطأت عيناه التمييز بين العقارب المتحركة، توهم أن ظله في الأرض استوفى حجم جسده، فقام مناديا في الناس وزاد هذه المرة نغمة جديدة تعكس حال الطمأنينة في النفس .

أنفاسكان علي أن أنحنى قليلا,رغم قصر قامتي,لألج بهو المسجد العتيق...
استقبلتني كعادتها,منذ سنين خلت,نضارة..صلابة...ورائحة فريدة...
شجرة التين هذه,خلسة ونحن نمحو ألواحنا تحت ظلها,كنا نقطف ما تدلى منها ـ غالبا ما تكون ثمارا لم تنضج بعد ـ لتتشقق شفاهنا بعد يوم واحد كدليل على تلبسنا.فكان العقاب ...لا خروج لمحو الألواح.
كل قطرة ماء سقطت,في بهو المسجد العتيق,كانت تسقي شجرة التين تلك.ماء ألواح...ماء مطر...ماء وضوء...ماء...
شجرة التين هاته لم يمل الفقيه من تشبيه رؤوس الشياطين بفروعها الضخمة...وحدثنا أكثر من مرة,خصوصا كلما حل مريد جديد,عن سر تلك الأقمشة التي تعلو أغصانها...حدث أن تسلقها طفل في سنكم ...علق بها منذ ذلك الزمن... تحول إلى طائر ابيض يحرس الشجرة ليلا...
اقتربت من صبي يصارع لإخفاء حرف القاف من على لوحته ـ كانت الكلمة اقرأ ـ
استهوتنى رائحة الصلصال ولزوجته...ربت على رأسه الصغير...سألته ـ فقط لكي أعرف هل لا يزال هناك وجود لخرافة الفقيه ـ لمن هذه البقايا من الأقمشة؟
رفع عينين يشع منهما الذكاء وأجاب:

أنفاسانت شامخة، فارعة الطول، عريضة الهيئة، جميلة تتمايل مع كل نسمة ريح راقصة وحالمة تقبل أشعة الشمس كل صباح. تعطي الحنان وتحضن كل محروم كأم تحضن طفلها فظلها يسع كل شيء إنسان ونبات و حيوان، لونها البهي لون الفردوس يكسوها في فصل الربيع ولون الشمس يكسوها في فصل الخريف، كريمة سخية، تطعم الكل بحنان وحنو مختلف.
تتوسط الحديقة كعروس في ليلة زفافها تتحدى الزمان والمكان، و تقول أبدا لن أموت ولن أذبل، أنا دوما أبدية عشت وعايشت و تألمت وفرحت، لن يهزني البرد ولا الحر أنا صامدة صمود الجبال و شموخها باقية أبدية سرمدية.
كانت تستقبل الضيوف ببهاء ورونق كشجرة نابتة جذعها في الأرض وغصنها في السماء تبهج الطفل والشاب والشيخ فالطفل يلهو والشاب يحلم والشيخ يرتاح. آه ما أجملك يا شجرة الجوز ما أحنك و ما أكرمك ، ما أعظمك و ما أطولك ، علقت فيك آمالي و تخيلت فيك أحلامي كم تسلقت أغصانك و علوت ثم علوت حتى قمتكن و تأملت الوجود من فوقك فسبحت في دنياك . تشابك و تعانق التفاف و اختراق التحام وافتراق، آه منك ومن دنياك.
كنت شاهدة على زارعك، شاهدة على ميلادك وعن فنائك، حملت أسراره و أسراري من بعده، لم تشتكي  أبدا من شيء تحضنين الألم  و الحب، الحزن والسرور، كنت أجد فيك ملاذي و أنيسي و ملهمتي بل أني يوما سمعت صوتا يناديني و أنا بين أغصانك لعلك أنت التي ناديتني فرحة بي باحتضاني فقد كان الوقت غروبا و خطرت لي فكرة تسلقك ربما لأهرب من بقايا يوم عنيف   و أتنفس بين أغصانك نسمة خفيفة توارت هي الأخرى من لهيب يوم صيف حار.

(وجــــــــــــــــع )
 عيناك .. ليلة حب خرافية ..
شفتاك التقاء قرص الشمس بخد الأرض
لحظة غروب..
امتدت يده تقطف عنقود الفرح المحظور..
حملّقت , صرخت بصمت مكبوت :
" ما أشد وجع نزف العين بوخز
إبرة جراح بلا إنسانية " ..

(وجبــــة سريعــــــة )
اضاف الملح , رشة بهار