أنفاسوسط مجموعة من الأوساخ المتراكمة قرب البيوت التي تنطق بالرفاهية و النعيم،كان أحمد يفتش بيديه و رجليه عما  يصلح له أو لأحد أفراد عائلته الفقيرة.كان يتنقل بخفة متناهية و يبحث بسرعة شديدة ،خوفا من عيون متلصصة عليه من هنا أو هناك.التفت لصديقه الذي توحد مع الأزبال من كثرة البحث و صاح:
- مصطفى، انظر ماذا وجدت؟ محفظة سآخذها لنبيل.و كانت الفرحة تستوطن كل وجهه كأنه حصل على كنز.
  انهمك للتو في البحث و يده الأخرى لا تفارق المحفظة.غير مبال بالذباب الذي يتطاير من  حوله و يعلن عن غضبه من هجوم أحمد عليه و مشاركته وليمته الخاصة.
استحال لباسه إلى لون قاتم من كثرة تراكم الأوساخ عليه.برجليه حذاء أصابه الوهن، تظهر منه أصابع بيضاء شاخت منذ أن بدأت تتعلم المشي و الركض. لم يكن صديقه مصطفى أحسن حالا منه.راح بدوره يجوس حول بركة من الأزبال اكتشفها فجأة وطاراليها يخب في ثيابه المتسخة.تابع أحمد تنقيبه الدقيق بوجه حاد، تعلوه إمارات القسوة المبكرة رغم طفولته الجميلة التي تشرئب بعنقها عندما يبتسم.
رجعا يفتخران بما أنجزاه اليوم من انتصار على أزبال الميسورين، لقد حصلا على غنائم كثيرة لأفواه تنتظرهم هناك في الطرف الآخر من المدينة.أحمد و مصطفى، اثنين من آلف الأطفال الذين يقطنون هذه المدينة أو خارجها.قوضا الحصار المفروض عليهم، متسللين كل يوم إلى المدينة المضيئة للاستيلاء على بقايا الميسورين، متسابقين مع الذباب و القطط و الكلاب.

أنفاسالحصار محكمة حلقاته ، الفقر ، الفقر ينتشر فتجف العقول . الحصار ، في الحصار يقف وسط السوق أمام صناديق الطماطم الممنوعة ، يجأر بأعلى صوته .. وفي الحصار يزداد الفقر قبحا ، وفي الفقر تفرغ الجيوب فتتصلب الأعصاب .
الرياح شديدة باردة تقرص الوجوه الإنسية في الصباح وتحرقها ، وتتخضب أطراف الأنوف بحمرة قاسية تجبرها على السيلان ، ويشعر المرء أن أذنيه قد تجمدتا ، وهي مناطق حساسة يطيب ويحلو للبرد لسعها أكثر من غيرها .. ليس هذا ما يضايق الشاب مصطفى ، الذي تعود على البرد وتعود البرد عليه منذ نعومة أظافره ، أظافره التي انكمشت و صارت كمخالب النسر مع مرور السنين المليئة بالهموم .. ومع هذا فقد وقف وسط السوق مرتديا سترته الباهتة ذات السحّاب الخربان ، ممسكا دفتيها بكف ، والكف الآخر مدسوس في جيب بنطلونه الفضفاض الذي اشتراه من سنين ، أيام مودة البنطلونات الواسعة .. ويخطر في بالك حين تنظر إلى ملابسه أنها من مخلفات العثمانيين ، وربما تظن أنه سرقها من متحف للآثار ، وقد يدفعك تهورك لأن تحلف أغلظ الأيمان على أنها لم تغسل في يوم ما .. وقبل أن يبدأ بصف وترتيب صناديق الطماطم غطى رأسه بكوفيته الفلسطينية ولفها حول رقبته وترك طرفها يتدلى على قفاه .. فصار رأسه المحمول على جسده الرفيع الطويل يظهر من بعيد مثل الهمزة فوق حرف الألف .
لمّا فرغ مصطفى من صف الصناديق وأصبحت كالبنيان المرصوص أخذ ينادي بأعلى صوته ليبيعها ، وهو يجأر بصوت قبيح لكنه عميق وقوي يلفت انتباه الناس إليه من أول الشارع إلى آخره ، ويحاول أحيانا أن يلحن الكلام وينغمه فيمط حرف الميم متلذذا مرة ويشده في أخرى ..
- طماطم .. دمعة يا طماطم .. أحلا طماطم في الدنيا.

أنفاسحديثٌ مع ربَّة الشفاء
-------------------
مثلَ خيوطِ بَكرة الخياطةِ
تنفرطُ الأعصاب في النهارْ
ويقضمُ الظلامُ زهرةَ الجُلَّنار !
-------------
ما خطبُك اليوم أيها العليل والحائر أبداً ! ؟ سألتْ الربة .
قلتُ وانا أستقبل ضوءها وعبيرها من نافذة الصباح :
اليوم عطلة وهذا يعني أنَّ الأطباء أقلُّ او في الحقيقة لا يتولّى شؤونَ هذا القِسم في أيام العُطل إلاّ طبيب واحد يأتي ظهراً , ولا أتحدث عن حاجتي له ولكن هذا القسم يحوي مرضى من طبقات وألوان مختلفة بدءاً من الغني صاحب المؤسسة الى الفقير المُشرد ومن الأستاذ الى الطالب ومن مدمن الخمر الى مدمن المخدِّر ومن إبن البلد الى الأجنبي وهذا بقدر ما هو مثير بقدر ما هو مُتعِب أحياناً فهذه الفتاة التي وصلتْ البارحة ملأت  أدمغة النزلاء صراخاً : لقد اغتصبَني , الخنزير ! ...

أنفاستلك أول مرة.. فهي منذ زواجها الذي امتد عشر سنوات، لم تفكر في ذلك اليوم كعيد حقيقي، ولم يسبق أن تذكرته إلا حين تسمع الآخرين، وترى بعضهم يتبادلون الورود الحمر. 
كانت في أعماقها تسخر من تحديد يوم للحب " ما معنى ذلك " ؟ وحين جاءها زوجها بوردة حمراء في السنة الأولى تقبلتها ببرود، وطلبت منه ألا يتصرف مرة أخرى كالمراهقين، فلم يكرر التجربة.
لكنها أخيرا قررت أن تفعل ذلك. ألحت عليها إحدى زميلاتها.قالت لها إنها لن تخسر شيئا، وإن زوجها ربما سيحب التجربة.. سيكون تغييرا على الأقل، وهوتغيير ليس ضارا بأي حال، ثم أخبرتها أنها سوف تتصل بها بعد ساعتين.
قبل أن تعبر الى محل بيع الزهور، فكرت في زوجها.. كيف سينظر إلى الأمر؟ وكيف سيتقبل وردتها بعد ما جرى من قبل؟.. ربما نسي الحادثة.. وحتى لو لم ينس، فإنه سيأخذ عامل الزمن في الاعتبار، وسيفرح لهذه المبادرة حتى وإن جاءت متأخرة، وربما يخرج في الحال ويشتري لها باقة كاملة، وربما يضع الوردة بين دفتي كتاب كي تجف وتبقى شاهدا على الحب.. ألم تر وردة حمراء جافة في كتاب استعاره من صديقه كما أخبرها ذات يوم؟

أنفاسليلة السبت ياسمينة في درب الأسبوع المقفر وهذه ضحكة آخر النهار تنحسر، فتنشفها العيون الحسيرة  بما تبقى من لهفة التجلي، أجساد متداعية ترتجل الخطو نحو صناديق الضجيج والسمر الجائع.. تمر بمحاذاة المستشفى المنبوذ وراء البوابة الحديدية ذات اللون البرتقالي ، وهي تشاكس الجدران المشرئبة بذؤاباتها الحمراء لتودع ايقونة النهار الشتوي الراحل، أفواه يابسة تتبادل التحايا رخوة ناصلة، تبتسم قليلا ثم تنكمش كثيرا. والطريق الرمادية غارقة في صمتها السري، تبتلع الخطوات دونما توقف.
-سأسهر الليلة حتى تجحظ عيناي وتندلقا من محجريهما. سأنتشي بالنسيان الدبق لأطرد عني شياطين القنوط في هذه المناسبة على الأقل.
هذه المرة ذرع إدريس غرفته الضيقة في اتجاه الشرفة. أطل فوقفت عيناه – كالعادة- على بواب المستشفى وهو منشغل هذه المرة . نظر يمنة فبدت له المقهى فاترة، شاغرة المقاعد الخارجية. شعر بأن دماغه مرهقة فعاد إلى الكرسي. استلقى فوقه وأمسك رأسه بين كفيه:
-الليلة أدهش السماء بخفتي اللبلابية. وحين يخلو الدرب، سأردد بصوت مرتفع تلك اللازمة الأمازيغية الأسيانة "توقف عن النواح أيها الباكي. إنك تذكرني بمن تعلق القلب آه، كما طال انتظاري إياك أيتها الليلة الحرامية..
فتح إدريس الكتاب: "حاء، زاي، نون. تتعقبك آلاف الشجون ..." أغلقه بتشنج:
-أي طالع سوء هذا؟

أنفاسأقبلت الاستغاثة ليلاً إلى دمشق النائمة طفلة مقطوعة الرأس واليدين، وتراباً يحترق، وطيوراً تودع أجنحتها السماء والأشجار، غير أن أهل دمشق كانوا نياماً، فلم يسمع الاستغاثة سوى تمثال من نحاس لرجل يشهر سيفاً، ويقف فوق قاعدة من حجر مطلاً شامخ الرأس على حديقة مبنى.‏
واجتاحت الاستغاثة تمثال النحاس مرة ضارعة، ففقد صلابته شيئاً فشيئاً، ثم تحول إلى رجل يمشي ويتكلم ويغضب ويصرخ.‏
ولقد مشى ذلك الرجل في الشوارع الخاوية المتروكة لظلمة الليل، ولكنه كف عن السير لما اعترض طريقه حارس ليلي، وقال له بصرامة: "قف.. ماذا تحمل؟".‏
قال الرجل: "احمل سيفاً".‏
"-ولمن السيف؟".‏
"-السيف سيفي".‏
"-وهل السيف تفاحة أو برتقالة؟ ألا تعلم أن السيف سلاح؟".‏
"-أعلم طبعاً".‏

أنفاسمسبحة من الذهب الخالص تدور حبة حبة  بين أصابعه المرتعشة  ، وفي الرسغ ساعة يمشي بها الوقت على إيقاع أحجار الألماس .. الجسد تمثالٌ فرعوني خرج للتو من مشرحة الآثار
 والوجه مشدود بعمليات قص وشد  لا تحصى ولا تُعد .. تعلقُ البسمة على شفتيه ، تتعثر في النطق الكلمة ، فتضيع بين همهمة وغمغمة  .. جفناه يحتاجان مشابك غسيل لرفعها وتركيز نظرات العينين ..
يفوح منه عطر البترول ، ويرتدي بذلة فاخرة بلون النفط  ..!!
سفير فوق العادة مع نخبة أصدقاء يجلس في مطعم الملهى الفخم على رأس طاولة عشاء عمل ، تزينها  (وردة جورية ) وحيدة تحمل سحر الشرق ..!
أطرحُ جدوى بنود مشروعٍِ استثماري  ، طرتُ من أجله نصف نهار .. يجيبُ بكلمة مبتورة وبغثيانٍِ ،كأن الأمر لا يعنيه ، ويتابع نائبه الحوار..
يعلن مقدم السهرة وصلة الغناء والرقص ، فيرفع سعادته يده ببط ء ٍ ليوقف العمل ، ويبدأ السهر ..!
يميل صديقي على أذني :

أنفاسكانت وحيدته، حنون وطيب لا يبخل عليها بشيء الأهم أن تدرس و تنجح و أن تتخرج حينما تكبر لتحقق أحلامه.
هي طفلة صغيرة ذكية بشوشة  وطيبة محبوبة ، فخورة بأبيها هو صديقها وحبيبها كان يرد عنها الظلم والأذى خاصة من طرف أمها التي كانت تحب أخاها أكثر منها فكانت الأسرة الصغيرة عبارة عن صراع دائم بين فريقين كل يحاول من جهته أن يفرض ذاته ووجوده فكانت هي مدللة والدها و كان أخوها مدلل أمها وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
فكل ما كان ينقصها من حنان الأم يعوض في الأب فارتبطت بأبيها ارتباطا قويا كان يناديها بعصفورته طالما خبأها بين ثنايا سلهامه فكانت تحس بدفء الحضن فتستسلم لنعاس عميق.
ففي يوم من أيام الدراسة قرر أستاذ الفرنسية أن يكون موضوع درس الغد هو تحضير وجبة بالبيض والثوم و المقدونس، لا أعرف أي بيداغوجيا هذه التي يعمل بها هذا الأستاذ الذي كلف التلاميذ بإحضار البيض وكل لوازم الوجبة .
خرجت الطفلة  من المدرسة و تركت وجبة الأستاذ والدرس خلفها حتى صباح الغد حين اقترب موعد الذهاب إلى المدرسة فتذكرت الطفلة درس الأستاذ فطلبت من والدتها نقودا لشراء بيضة لكن الأم لا تملك فلسا فذهبت المسكينة تجتر أذيال الخيبة و تتخيل كل أنواع العقاب من الأستاذ و الاحتقار من التلاميذ .