الشارع الطويل ممتد في التواءات طفيفة مثل ثعبان يئن وينوس بالحمل الذي يمشي فوقه، يتضور من هذه الأجساد المتلاطمة على غير هدى، أجساد متناثرة هائمة على وجوهها، تضرب في كل الاتجاهات، لا تدري إلى أين تقودها هذه الدروب المجنونة القاتمة.
ها هو سامح يمشي بين هذه الجموع وفي رأسه تتلاطم الأفكار، موج هادر من الذكريات يخضه، يصفعه، يرجه. وجد نفسه في هذا المدى الممتد من الهائمين فهام معهم، سار غير مكترث بهذا الكم الهائل من البشر. ها هو يمشي مترنحا وأمام عينيه صورة حارس السجن وهو يدفعه ليزج به في هذه المتاهة الفسيحة بعد أن قضى أسبوعين ذاق خلالهما ألوانا من العذاب، أسبوعان قضاهما لا هو بالبريء ولا هو بالمجرم، شبهة لم تثبت عليه...آه يا بلدي الجريح، مجرد تشابه في الأسماء يقودني إلى هذا العذاب.

كانت زينة تبهج الغرفة بلعبها وحركاتها التي لا تنتهي. ترمي دميتها الى أعلى حتى تكاد تلامس سقف الغرفة وتعود تسقط فوق رأسها وهي في غاية الفرح والسعادة. كان أخوها الصغير يشاركها في اللعب. يرفع بدوره لعبا أخرى ويرميها أيضا الى أعلى ولما تسقط بسرعة يختبئ وراء أخته خوفا منها. فجأة سمع انفجار غير بعيد من البيت، تزعزعت أركان الغرفة الصغيرة ورمى الطفل الصغير بجسمه الطري بين أحضان أخته وهو يصرخ: أنا خائف. أنا خائف.
احتضنته أخته زينة واختبآ تحت السرير، وهمست له:
-لا تخف. ماما تقول لي دائما، لما تسمعي صوت الانفجار، اختبئي تحت السرير ولن يصيبك مكروه.

 

لمح فردة حذاء مقلوبة أمام باب الصالون . منذ كان طفلا ، كلما مر بصندل ، أو بَلْغَة ، أو حذاء مقلوب ، إلا وطلبوا منه تعديله ، وإعادته إلى وضعه الطبيعي . لم يسأل الكبار لماذا يتضايقون من ذلك .
عندما أصبح رجلا بدأ هو الآخر يتضايق من الأحذية المقلوبة ، ويطلب من يمر بجانبها بأن يعيدها إلى وضعها الطبيعي ، دون أن يعلم سبب ذلك .
بعد سنين طويلة ، اكتشف بأن الناس تتذمر من الأحذية المقلوبة ، لأنها تعتقد بأنها تجلب النحس والشؤم والخصومة لأهل البيت ، وتُغضب السماء ، وتمنع البركة من دخول المنازل.
قال لنفسه :
ـ والآن ، بعد أن عرفت السبب ، وزال العجب ، هل ستنهض لتعديل وضع الحذاء ؟

مرت كل هذه السنين وأنا أعتق الحب في قلبي، ظنا منها اني قد سلوت عنها، ولكن هل ينسى القلب من احب، والحقيق به اكثر انه لا ينسى الذين احبوه، قد صُمْتُ عن الحب منتظرا ان يطلع عليَّ هلالها، منتظرا سُقياها كي تبتل عروقي بشراب الحب.
كنا صغيرين والحب يضم قلبينا بخيطه السماوي الصافي كفراشات لطيفة في بستان زاهي، في كل مرة يجمعنا الرصيف أحس بنظراتها تخترقني، آه لو كانت تستطيع ان تقرأ ذلك النقش على اطلال قلبٍ غابت عنه يمامته منذ زمن بعيد، آه لو كانت تستطيع ان تقرأ ذلك الرسم الفرعوني، انه الحب المعتق والعشق المسجى في البردي، النقش الازلي العريق.

هل يمكن للإنسان أن يتأقلم مع الفشل، نعم وهذا هو الصواب، فاعتياده يفتح له باب الصبر والمثابرة، والمحاولة ولو كانت مئة مرة، فطالما هناك ليل هناك نهار، والأسود يليه الأبيض، وبدل أن تصبح سلاحا ذا حدين يتناوب حداه على انتزاع انسانيتك، لتصبح إنساناً عديم الضمير، أو مومياء.
حسنا إني أقبل أن أكون مغناطيس الفشل، لكن هل بهذه النتيجة انطوى كتاب الأقدار، لا وألف لا، ففكرة الفشل تُمررك لفشل آخر، لتصبح لاعباً احتياطياً في نزال غير متكافئ، متى مر الفشل أمامك، ورأى سُحنتك الخائفة استضافك على مائدته، ليهمس لك أن تستعد للفشل المقبل.

استهلال:
هي بعض من رواية، تدور أحداثها في زمن غير الزمن، وفي وطن غير الوطن، وهي تطمح في جمعها أنْ تحرّك في كلّ إنسيّ ما يخْشى من سواكن آلامه وجراحه، تلك التي، قد زعم اندمالها، و هي التي لا تندمل . هي بعض رواية تحاول اقتطاع نسيج، ترديدا لرجْع صدى صوت المرء الخافت، حين يغرق في ظلمة نفسه، عندما تنوء به عزائمه، وتنكسر اشرعته على صخور شرائع واقعه المرّ، مرارة علقم لم يستسغه في كل مرّة حاول فيها، ولكنّه كان يفشل. رواية وليست كذلك، ولكنّها هي ترسم أحداثا لا تقع . وقد تقع حين تنغرس الذّات المنهكة في تربة يأسها وفشلها، حياء الخجل، أو شجاعة الخوف حين ينعدم الأمل في خلاص لا يأتي بقدر ما ننتظره، هي تطمح الى بناء جدار لمداراة وهن يلازمها كثوب تلحّف الجسد حتى صار منه وهو ليس منه، آدمي يطلب إنسيته ولا يدركها وهي منه كالجلد من العظم، نشدانا لممكن يقبل أو لا يأتي، ولكن ربما صوْنا لشرف تليد" لم يرقْ حوله دم"[1]..

هذا الاعتراف ليس خطيرا أبدا، فقط هو يشبه فراشة تراود شمعة، فراشة تراود شعلة نار، من أين تأتي الفراشة اللطيفة بالشجاعة لتراود النار المشتعلة. فالفراشة مليئة بكل أسباب الضعف. إن اللطافة هي الشيء الحاد، هي شجاعة الفراشة وهي تسوق نفسها الى معانقة النار المقدسة.
الحب شيء غريب، الحب هو تلك النار المقدسة التي تروم الفراشة اللطيفة أن تغتسل من ينابيعها. نار تنبع من المحبوبين، كل منهما فراشة ونار، فراشة لذاتهم ونار المحب الفراشة الذي يحاول ان يقترب متوجسا.
من أنتِ كي لا يكون الأمر أشبه برجم الغيب! فلأسمك، والاسم عنوان البيت، عنوان البرقية، كي اتمكن من مخاطبتك، في اللحظة التي أسميك افصلك عن ذاتي كي اراك في غير مرآتي ولتكسري انت مرآتك لتري جمالك الحقيقي فيّ.

كان افتتاح عيادة الدكتور صفوان النَّفسيَّة حدثا هامَّا، وضرورة مُلحَّة، فالحرب أكلتِ الأخضر واليابس.
أدمى الحزن قلوب المساكين، كثر المُتسوِّلون، شاعتِ السَّرقة، وتسيَّد الفاسدون.
انتشرتِ أدواء الرُّوح بشكل رهيب، عمَّ القلقُ القلوب، وسكن الخوفُ النُّفوس.
توتَّر الشَّعب، انفصم البعض، وتغلَّب الفرح المفرط على آخرين، دون سبب وجيه.
تجاوزتِ السَّاعةُ التَّاسعة صباحا بقليل، استقبل الطبيب مريضَه الأوَّل، استلقى على أريكة الفحص، وعرض معاناته:
- تصوَّر يا طبيب، أنا أعمل طالب مساعدة، مُرخَّص لي بالعمل من البلديَّة.
أجني يوميا عشرة آلاف ليرة تقريبا، أدفع منها ألف ليرة ضريبة، بينما يحصل المُتسوِّل غير المُرخَّص على ضعفي دخلي، ولا يدفع قرشا واحدا للخزينة .