كانت عيناه لا تكفان عن ذرف الدموع، كلما رأيته تجذبني إليه مسحة الحزن التي تهب ملامحه طعما موغلا في القتامة والألم. تنزل دموعه الحارقة كالجمر على خديه في صمت من لا يريد البوح بما يعتمر في قلبه من مواجع، لا يريد أن يبدو ضعيفا تراه دائما مكابرا عنيدا، كان كمن يخفي ضعفه وعجزه وخوفه.
كنت ألمحه، منذ حل في هذه المدينة الموحلة، كل يوم في الشوارع الممتدة الفسيحة، وفي الأزقة الملتوية والأنهج الضيقة المعفرة بالأوحال والأحزان والمكائد، كنت ألتقيه أمام المقاهي وفي الأسواق وحذو المدرسة وفي بهو الجامع. لم أجرؤ على التحدث معه، تحاشيته خوفا عليه أو منه. لم يكن يُقبِل على أحد، يرفض ما يعطى له من نقود أو طعام. يزم شفتيه كمن يهم بالبكاء أو الشتم كلما امتدت له يد بحسنة، ثم يمضى متجاهلا الجميع في كبرياء. نبت فجأة في أرجاء مدينتنا ونما بيننا بأسماله البالية وأظافره الطويلة المتسخة وشعره الأشعث الطويل المعفر دوما بالتراب. يدلّك بعض الزغب الذي نما في فوضى أسفل ذقنه على سنواته العشرين. كتلة من الأحزان كان يمشي حين تراه، ولا تملك إلا أن تأسى لحاله أو تبكي لبكائه.
الشك – قصة: إحسان الشرعي
استيقظت على صوت الدش، غمغمة غنائها ممزوجة بريح البخار وعبير الفراولة المنبعث من صابون الاستحمام، الساعة تشير الى السابعة والنصف. استيقظت قبل موعدها بنصف ساعة أو يزيد، عادة تكون خمولة تنهض على مهل كقطة كسولة وبذهن شارد، أما اليوم فلا.
منذ فترة صارت منتعشة ومنتشية دون سبب واضح. تقطع شرودي بخروجها من الحمام، أدعي النوم لأراقبها وأتأملها، تخرج ملتفة بفوطة زهرية منعشة بهالة بخار خافت كقديسة بشعر مبلل. كم تبدو لذيذة هذا الصباح! تضع كريم الفانيليا على كل الجسد، تسرح شعرها المبلول، تضع عطرا شريرا على أسفل رقبتها وخلف أذنيها، ترتدي ثبانا رقيقا أحمر مع صدرية سوداء، لماذا لا تحب التناسق؟ ترتدي فستانا تحت الركبة، كما كانت ترتديه لزيارتي في سنوات خلت، تحمل شنطة صغيرة، ترتدي صندلا صيفيا، وتتسلل الى خارج الشقة، وأنط لأراها عبر النافدة، توقف سيارة أجرة حمراء كحلوى طفولية.
سقوط حلب – قصة: فراس ميهوب
الروم على حدود إمارة حلب.
ظرف المكان: قاعة الاستقبال الكبرى، في قلعة حلب.
ظرف الزمان: عام ألف، أو ألفين، وربما ثلاثة آلاف للميلاد.
أمر الأمير أبو المعالي وزراء حلب، فلاسفتها، علماءها، أصحاب الرأي، وقادة الجيش، بالمثول بين يديه.
حضر شاعر الإمارة الأخير، كفَّ صوته منذ سنوات طويلة، ظنه قد خرس، استدعاه ذرا للرماد في العيون.
عرض عليهم أبو المعالي الحدث الجلل، قام عن عرشه، وخطب فيهم بصوت يصطنع المهابة:
الرحيل – قصة: الحسين لحفاوي
حين غادر آخر المعزين المنزل وقف خالد في الساحة الفسيحة الممتدة يحدق في الآفاق اللامتناهية البعيدة، وأحس بدموعه المنهمرة الحارة، فلم يقدر على منعها. وسرعان ما انتقل ببصره إلى الحقل الممتد مترامي الأطراف. كانت أشجاره الحبلى بحبات الزيتون السوداء صامتة صمتا رهيبا، كما لو كانت تمارس طقوس عبادة مقدسة، وبدت له تلك الأشجار في حالة حزن مقيت لإحساسها بالفقد منذ فارقها راعيها، فخيل إليه أنها تذرف الدمع بلا انقطاع. وارتسمت في ذهن خالد صورة والده وهو يذرع الحقل جيئة وذهابا ويداه لا تكفان عن مداعبة الأغصان اليانعة المتدلية بحباتها اللامعة البراقة تحت أشعة شمس أكتوبر الحارة. ويراه الآن وهو يسير الهوينى بمحاذاة طابية الهندي يراقب سير الجرار البطيء أثناء حراثة الأرض بهديره الصاخب الذي يبلغ أقصى القرية.
اعترافات وبكائيات عاشق متهور – نص: أحمد رباص
حبيبتي، ها أنا أكتب لك لأول مرة في عنان السماء عن لوعتي التي أججت نارها في فؤادي نظراتك بعيون كحيلة آسرة وكلماتك الصادرة من بين شفتين قرمزيتين مشتهاتين..اشتقت الى ذكرياتك الهاربة مع سيول الزمن الماضي مثل زوارق من ورق..لن أنسى ما حييت ذاك اليوم الذي أردت فيه أن أشخص موقفا قمينا برجل بالغ، موقفا كنت قد صادفته أثناء لحظة قراءة واكتشاف ومؤداه أن المرأة تحب أن يكون حبيبها شجاعا ومقداما لا جبانا رعديدا..وهكذا أكثرت من عنترياتي بينما اختلينا على درب العودة مساء من الثانوية..لكن رجاحة عقلك منعتني من المغامرة الطائشة عندما هممت بمواجهة جماعة من الأشرار المسيئين للمارة بأقبح الكلام..
خضُّور – قصة: فراس ميهوب
"من لا يحبُّ خضُّور، ذاك السند الصلب، والصديق الوفي، كم نحن محظوظون، بأن يكون جزءا من حياتنا"؟!
كان مقهى الأطلال القريب من كليَّة الآداب، ملتقى الزملاء الدائم، شباب في مقتبل العمر، يحلمون بتغيير العالم، وبمستقبل أفضل.
لم يكونوا مفرطي الغنى، ولكنهم ميسورو الحال، إلَّا خضُّور، لا أحد يعلم عنه شيئا، ولم يخطر ببالهم يوما أن يسألوا.
كان لا يتكلم إلَّا نادرا، ولضرورة قصوى، فكأنّه يملك عشرين أذنا ولسانا قصيرا، بينما يتحدث رفاقه دون توقف عن طموحاتهم، وخيباتهم العلمية والعملية، وأحزانهم العاطفية والنفسية.
استحقَّ هذا المكان اسمه، فقد شُيِّد في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وشهد أحداثا عظيمة، وحفلات غنائيَّة، وأمسيَّات أدبية وشعرية لكبار ومشاهير.
فقد بريقه بمرور الزمن، ولم يبق من مجده الغابر، إلا ذكريات نادرة، تصدَّعت جدرانه، و غلب عليه القدم.
كان أول الواصلين، وآخر المغادرين، ما أن يطلُّ حتى يبدأ صاحب الأطلال ، بتحضير كأس شاي ضخم أحمر مسوَّد، كما يفضله خضُّور.
حب سريع – قصة: ميمون حرش
فرغ "لارڭــو" من آخر مجموعة له في القصة القصيرة جداً ، ختمها بنص يحبه كثيراً، يلخص ربما تجربته، جاء فيه:
تجمع الحروف، وتلملم الأرقام،
تضع الكل في خلاّط :
هي امرأة أنغام،
هو رجل أرقام،
وفي الكأس التي لن يشربا منها أبداً:
"عصير قيس و ليلى "
الوسادة – نص : عبد الحفيظ ايت ناصر
في العشرين من عمري ، وكل طاقة العقد الثالث، الشغف والطموح ، هذه الأمور التي من الضروري ان تتوفر ومن الطبيعي أن تكون في شخص يعتب اعتاب عقده الثالث. أهدر هذه الطاقة في الأحلام ولا شيء غير الاحلام والأماني ، رغم قدرتي الكبيرة على التنظير في مسألة معينة، لم أكن لأطبق أيًّا من افكاري.
كانت وسادتي تؤلم رقبتي، في كل ليلة افكر في تغييرها، لكني افضل النوم على إهدار طاقتي في استبدال الوسادة، وعلى مبعدة متر او أقل هناك وسادة قطنية رائعة، الا ان كسلي دائما يمنعني من النهوض واستبدال الوسادة.
وأفكر ماذا لو كان الناس كلهم مثلي! ماذا سيحدث لهذا العالم، الأكيد انه سيفسد، فشخص لا يستطيع تغيير الوسادة لن يستطيع العمل، حتى وان كانت لديه القدرة على ذلك.
تجري الايام على نفس النحو والوسادة نفسها نؤلم رقبتي، ولكن يصعب التضحية بالحركة، ان النوم شيء ثمين لا يمكن ان تدع اشياء بسيطة تزعجه، فإذا كانت الاحلام الطبيعية هي حارس الحلم الطبيعي ، فإن أحلام اليقظة هي حارسة نوم اليقظة، لأنه لا يمكن لشيء اسمه "احلام" ان يوجد دون نوم، وأحلام اليقظة تحدث خلال نوم اليقظة.