استهلال:
هي بعض من رواية، تدور أحداثها في زمن غير الزمن، وفي وطن غير الوطن، وهي تطمح في جمعها أنْ تحرّك في كلّ إنسيّ ما يخْشى من سواكن آلامه وجراحه، تلك التي، قد زعم اندمالها، و هي التي لا تندمل . هي بعض رواية تحاول اقتطاع نسيج، ترديدا لرجْع صدى صوت المرء الخافت، حين يغرق في ظلمة نفسه، عندما تنوء به عزائمه، وتنكسر اشرعته على صخور شرائع واقعه المرّ، مرارة علقم لم يستسغه في كل مرّة حاول فيها، ولكنّه كان يفشل. رواية وليست كذلك، ولكنّها هي ترسم أحداثا لا تقع . وقد تقع حين تنغرس الذّات المنهكة في تربة يأسها وفشلها، حياء الخجل، أو شجاعة الخوف حين ينعدم الأمل في خلاص لا يأتي بقدر ما ننتظره، هي تطمح الى بناء جدار لمداراة وهن يلازمها كثوب تلحّف الجسد حتى صار منه وهو ليس منه، آدمي يطلب إنسيته ولا يدركها وهي منه كالجلد من العظم، نشدانا لممكن يقبل أو لا يأتي، ولكن ربما صوْنا لشرف تليد" لم يرقْ حوله دم"[1]..
يا غزالة الفؤاد كيف أحبك – نص: عبد الحفيظ ايت ناصر
هذا الاعتراف ليس خطيرا أبدا، فقط هو يشبه فراشة تراود شمعة، فراشة تراود شعلة نار، من أين تأتي الفراشة اللطيفة بالشجاعة لتراود النار المشتعلة. فالفراشة مليئة بكل أسباب الضعف. إن اللطافة هي الشيء الحاد، هي شجاعة الفراشة وهي تسوق نفسها الى معانقة النار المقدسة.
الحب شيء غريب، الحب هو تلك النار المقدسة التي تروم الفراشة اللطيفة أن تغتسل من ينابيعها. نار تنبع من المحبوبين، كل منهما فراشة ونار، فراشة لذاتهم ونار المحب الفراشة الذي يحاول ان يقترب متوجسا.
من أنتِ كي لا يكون الأمر أشبه برجم الغيب! فلأسمك، والاسم عنوان البيت، عنوان البرقية، كي اتمكن من مخاطبتك، في اللحظة التي أسميك افصلك عن ذاتي كي اراك في غير مرآتي ولتكسري انت مرآتك لتري جمالك الحقيقي فيّ.
الرجل الذي صفع المدينة – قصة: فراس ميهوب
كان افتتاح عيادة الدكتور صفوان النَّفسيَّة حدثا هامَّا، وضرورة مُلحَّة، فالحرب أكلتِ الأخضر واليابس.
أدمى الحزن قلوب المساكين، كثر المُتسوِّلون، شاعتِ السَّرقة، وتسيَّد الفاسدون.
انتشرتِ أدواء الرُّوح بشكل رهيب، عمَّ القلقُ القلوب، وسكن الخوفُ النُّفوس.
توتَّر الشَّعب، انفصم البعض، وتغلَّب الفرح المفرط على آخرين، دون سبب وجيه.
تجاوزتِ السَّاعةُ التَّاسعة صباحا بقليل، استقبل الطبيب مريضَه الأوَّل، استلقى على أريكة الفحص، وعرض معاناته:
- تصوَّر يا طبيب، أنا أعمل طالب مساعدة، مُرخَّص لي بالعمل من البلديَّة.
أجني يوميا عشرة آلاف ليرة تقريبا، أدفع منها ألف ليرة ضريبة، بينما يحصل المُتسوِّل غير المُرخَّص على ضعفي دخلي، ولا يدفع قرشا واحدا للخزينة .
موت القوّاد – نص: قاسم فنجان
لم يكن تواجدي في ذلك المساء البعيد صدفة عابرة،كنت عازماً على تشييعه ومصراً عليه،لذلك لم أعدل عن قراري ولم أخضع لرغبات الصحب بالعدول بعد أن آلمني كثيراً مشهد تشييعه اليتيم الى مثواه الأخير،أربعة رجال يحملون على كواهلهم الضعيفة نعشا خشبيا بلا سقف،جوانبه البالية تلطخها خربشات باهتة وكتابات قديمة لم تفلح عيناي في قراءة محتواها الغامض،يمضون به مسرعين عبر شارع خاوٍ من الناس،يتسابقون للوصول الى مقبرة ليس على مشارفها الجرداء أي أثر لقبر أو لشاهدة قبر،ليس سوى حفرة تفغر فمها الأسود في وجه السماء،يتوقف المشيعون عندها ويطرحون التابوت على الأرض،تمتد كفا الحفار الغليظتان الى الجوف الخشبي المفتوح،حيث رأس الميت المقطوع ينام مستسلماً في بركة الدم المتخثرة،تنتزعانه من لزوجتها فيتصاعد بخار الدم الأرجواني،مخلفاً وراءه جسداً نحيفاً تستره أسمال قديمة بالية،يراقب الرجال الرأس المقطوع ويحزنهم إنكسار الوجه المستسلم بوداعة بين يديّ الحفار القبيح،تعتريهم الشفقة عليه وتسري عدوى الأنكسار الى إفئدتهم القاسية،تتراخى مشاعرهم الصلبة وتتندى عواطفهم اليابسة،حتى يعيدها الى ما كانت عليه صوت الحفار المشروخ :
محاكمة الساموراي – نص: عبداللطيف الحسيني
كانَ الوقتُ ظهيرةَ يوم تموزيّ تُحرقُ شمسُه الصفيحَ والحديد خرجتُ لأستظلّ بشجرة توتٍ عملاقة وُجدت خطأً في صحراء بلادي,وبلادي كلُّها صحراء لا ماءَ ولاخضرةَ ولا وجهَ حسن,زوّادتي التمرُ واللبن والخمرُ.
آنَ وضعتُ خطوتي الأولى على عتبة الصحراء اختفت الأفاعي و النمورُ والضباع,كأنّي خارجٌ من صفحات التاريخ ....شبيهُ كلكامش وعُطيل أو الشنفرى,كأني رجلٌ من المطّاط:لا الماءُ يبلّله ولا الأرضُ تتحمّلُ قفزتَه وصلتُ إلى بلاد تحطُّ النوارسُ فوقَ يساره والحمائمُ فوقَ يمينه,أتنفّسُ مع الأشجار وأتموّجُ مع الأنهار,أتيتُ زحّافاً من بلاد كنتُ أراقصُ الأفاعي فيها أضعُ يدي في أفواهها ملتقطاً السمومَ والأحجارَ المتوهّجة....تلسعني,فتموتُ هي,أجعلُ أجسادَها حطباً لمدفأتي الحديد يجتمعُ حولَها الأولادُ والأحفادُ الهاربون من زمهرير الشمال, وأنتم لا تعرفون شيئاً عن الشمال و زمهريره,إن حدّثتكم عنه صيفاً لبحثتم عن الجحور والكهوف التجاءً من صفعات الهواء وألواح الثلج التي ترتطم بالوجوه.
رحيل أحمد – قصة: أمينة شرادي
رحل الى المدينة التي طالما حلم بها. ترك أهله وقريته يبكون رحيله. رفض أن يلتفت الى الوراء حتى لا يحن الى دموع أمه المريضة ووهن والده.
عند كل ليلة، لما كانوا يتحلقون حول مائدة العشاء، التي لا تعرف من العشاء سوى بعض الزيتون الأسود وكسرة خبز يبست من كثرة الانتظار وصينية شاي. كان عند كل رشفة، يظل مطأطئ الرأس كأنه يحمل مشاكل الدنيا على كتفيه ويطلق آهات متتالية تفر من سجن صدره.
تسأله امه التي اقعدها المرض منذ مدة:
-مالك؟ قل بسم الله وكل. ستفرج ان شاء الله.
رفع اليها بصره وكله حزن وشفقة وحسرة. تنهد وهمس كأنه يخاف أن يسمعه أحد:
-الحل الوحيد هو الرحيل الى المدينة.
أجراس العرس المستحيل - د.الحبيب النهدي
سُئِلُ مرّة كيف ينحت كيانه؟ أجاب: بالاعتدال في نزعة التملّك..
***
شعر بسعادة لا تُوصف بنقلته إلى قريّة ريفيّة تميّزت بهدوئها وبمناظرها الطبيعيّة الفاتنة، وما ترجاه وجده: ذلك أن هذا المكان مدعاة للتأمّل والتركيز ومساعد لإنجاز بحثه الجامعيّ بكلّ عزم وثبات. والأهم أنّه وجد نفسه يقيم علاقات مع أهلّها الذين حافظوا على قيمهم البدوية الصافية فأفاضوا عليه بكرم الضيافة واستطاع بالسكينة والاطمئنان اللتين هما أهم خصاله أن يترف كناسك زاهد متفرغ للكتابة بأحاسيس مرهفة فينساب قلمه معبرا عن افكاره بانتظام حيث أنّه في كل أسبوع يخيط حبكة الخواطر الذاتية.
وأحيانا كان فيما يكتب وصف دقيق لتفاصيل الحياة اليوميّة وما يصادفه من مواقف أو أحداث في هذه القرية ولم يكن ليترك الفرصة تمرّ دون تدوينها ولهذا التزم بينه وبين نفسه أن يستمر في التأليف ولا يكتفي بذلك بل قرر ان يبعث ما يكتبه من خواطر وتأملاّت شاردة تملّ شتات ذكرياته إلى ركن ثقافي ليتم نشرها في كل أسبوع. وكانت الغاية كما صرح لي بذلك ذات يوم أنّها طريقة من خلالها لا يقطع صلته بأناس عرفهم قبل نقلته وتمتنت علاقته بهم وحدثني عن صدى اقبال البعض منهم بشراء الجريدة للإطلاع على ما يكتب حتى لا تنقطع اخباره عنهم.
الدّق بلا قرطاس – نص: شعيب حليفي
انتهت المذبحة وتحولت ساحات آسفي إلى مشهد من مشاهد الحروب الكبرى، جثث للفرسان والنساء والأطفال والخيول، وفوقها طيور جارحة كانت في الانتظار. صمت لا تجرحه سوى رياح خريفية متأخرة وبكاء خفي يتلوه نواح بعيد.
صاح البرّاح باسم القائد عيسى بن عمر العبدي، وهو يعْبُرُ الساحة ودروبها، ان أهل الفتنة والسيبة من أولاد زيد قد نالوا العقاب الذي يستحقونه.
دخل القصبة مُنتشيا وغاضبا، رمى سلهامه الأبيض الملطخ بالدم في المدخل، فأسرع تابعه يلتقطه من الأرض. توقف فجأة أمام مدخل القبة ملتفتا لا ينظر إلى أحد وصاح، كأنما استفاق من غفلة ضائعة: حويدّه الغدّارة .. حَضْروها ليا دابا.