إلى جذعيّ النوراني بقريتي أصله ثابتا وفرعه في السماء.
استهلال
''أحيانا الجنون قناع يخفي مقدرة معرفيّة، أكثر يقينا'' نيتشه
أحمد وتلحق باسمه غالبا كلمة بذيئة مسيئة يُكَنَّى بها، يُطْلقها الأنذال الذين لا يكتفون بالتنابز بالألقاب بل يتمادون في إلقاء الكلام على عنانه في سبّك حكايات عنه. مثل هؤلاء لا يدركون أو هم يتجاهلون بأن ذلك نميمة ممقوتة. أليس من حقّ أي كائن أن يتمتع بحرمة وكرامة حاضرا كان أم غائبا؟.
عرفته، غريب الأطوار، محملا بالأسرار، أرى على وجهه ترتسم علامات هموم توحي بمعاني أعظم من الفصاحة نفسها وقد تفهم منها حكمة ضائعة عن كدحه. هو لا يفصح عنها لأنّ الوجود أبهته ويراها الساذج كأنها هي أقصى بلاهته.
رأيتُ شعره اشتعل بياضا وثيابه بالية رثة لا يبالي بالمارين ولا بهذه الحركة العقلانية في ظاهرها والتي في باطنها خداع. تتربص لفعل الشرّ. لكنه لا يبالي بحركة صخب الحياة وضجيجها ولم يغيّر من وضعه كأنّما هو وفيّ لمبدأ تحقير الوجود والموجودات. بحيث أنّه لا يتوانى بأنّ يجعل الذين من حواليه يقولون عنه أنّه مختل العقل تنتابه حالات من الهوس فكان يخيل لهم أنّه يتلوى كالأفعى ويراقص السراب. وتضعه المقادير دوما في مأزق.
أمّا بالنسبة إليّ فإنّه كُلما وقف أمامي برهة صامتا أعطيه إن كان بحوزتي ما يكفي لاقتناء سقائره المفضلة، وكم حاولت في كلّ مرّة أن استبدل الصورة التي كونتها من أقوال الناس بالصورة التي أراها فيه.
الأمر ليس هيّنا في مجتمع يتفق على تقليد بعضه في الضلال لهذا كلفت أن أكشف عن خفايا حياته وعن أسرار صمته الدائم وانطوائه، فعلمت ما جهله الناس. عنه
سأحاول أن أُوكّد لكم دون ريب ولا تردّد أنّه لم يكن مجرد كتلة هامدة فارغة من معانى وإنّما هو مثل كلّ شخص مهما صغر فإنّه يحمل ما به يكون، وله ككل كائن قصّة تفسّره .ولكن يحصل كما يحصل لكلّ كائن أن يجنّ لأنه يئس من وجود الحلّ ويرى حينها بأن الحياة لا تستحق إلاّ أن يعيشها بالخيبة والمرارة. وهذا ما اعتقده جازما فما حصل لأحمد كان كمن انتهى فعله واستقال للراحة وأنهى إنجازه لحياته وهو يتأهب للرحيل في صمت ودون ضجّة فكان المطلق فيه أقاصي التعالي.هربا من بغي الناس وجبروتهم. وفي الوضع الذي هو فيه هل يقدر أي إنسان مثله أن يموت مرتين وأن يكون مبدعا مرتين؟ أليس في ذلك إلاّ استحالة الفعل وضمور القول؟