الحمام حول نافورة المدينة الكبرى بين طائر بجناحيه أو ماش على رجلين، أن واقف على كف طفل، ينقر بعض حبات القمح... إلا واحدة رأيتها لا تتحرك. تنقرها حمامة متحركة، في محاولة يائسة لإشراكها في هذا العرس المتواصل، حيث يمرح الكبار والصغار من الناس والحمام...يتجرأ عليها ذكر الحمام، فينقر هامتها نقرا مؤذيا، فتحني رأسها المسكينة، غير قادرة على الرد.. اقتربت منها، ظلت في مكانها، كان جفناها منغلقين تماما؛ ربما أصابها مرض جعلها عمياء لا تبصر... بدا عليها الهزال، فربما لم تأكل شيئا ولم تشرب الماء منذ فترة. حملتها بباطن كفي، أجلستها أمامي، فتحت منقارها، وصببت في جوفها قطرات من الماء، ابتلعت القطرات رغم أن قلبها كان يخفق بسرعة من شدة الخوف. أتبعت الماء قطعا صغيرة من فتات الخبز، كانت المسكينة تبتلعها بصعوبة، وختمت الإسعاف بقطرات ماء إضافية، أحست الحمامة ببعض الانتعاش، لكنها كانت بحاجة إلى عينيها كي تعيش...فكرت أن آخذها إلى طبيب بيطري، لكن الأمر قد يحتاج إلى رخصة من مجلس المدينة، فالحمام حمامه، والنافورة نافورته، والساحة ساحته... تذكرت أن أمي رحمة الله عليها كانت قد عالجت إحدى دجاجاتها التي أصيبت بالعمى إثر انغلاق جفنيها، ففعلت مثلها: فتحت جفنيها بإبهاميّ الإثنين، ورششت عينها الأولى بالماء، وكذلك فعلت بالعين الثانية، بدت عينا الحمامة سليمتين من الداخل، فالمشكلة كانت في الداء الذي أصاب جفنيها. كانت إحدى الزائرات ترقب ما فعلت، طلبت منها أن تناولني مرطبا إن كان لديها في محفظتها، غسلت جفني الحمامة بالمرطب، وأضفت إليه مرهما أصفر كان بمحفظة الزائرة، فبدأ جفنا الحمامة يرفان، وشيئا فشيئا، أحسست كأنها تراني، وضعتها على كفي، لكنها لم تحاول الطيران، فقد أخذ منها الوهن مأخذه... بعد لحظات، وضعتها على الأرض، فتحركت قليلا. فرحت كثيرا حين نقرت بعض الحبيبات، ثم طارت باتجاه السرب المشاكس...هممت بمغادرة المكان، فإذا برجل ادعى أنه من الأمن، طلب مني بطاقة تعريفي، ثم قال لي وهو يهرول: اتبعني إلى المخفر!

حافلة بيضاء متوسطة الحجم، تتجاوز سور المدرسة وتتوقف، فتيات تترجلن، وبعدهن رجل، وواصلت طريقها.
الساعة تقترب من الثامنة صباحا.
إحداهن ينتظرها طفل في العاشرة تقريبا، يحمل حقيبة مدرسية. علامات الفرح بادية عليه.
الثانية، تتقدم شمالا في نفس اتجاه الحافلة، رفقة الرجل، يختفيان في زقاق داخلي.
* * *
الثالثة تتجه يمينا، نحو ساحة الحي.
البقال يسرع للجلوس أمام متجره، يفتحه باكرا لبيع خبز الصباح للموظفين وذوي المهن والعمال والعاملات الذين يغادرون بكثافة إلى وجهاتهم، والمتسكعين أيضا.
تطل من زاوية الزقاق.. أنفاسه مضطربة من جلوسه العاجل. تمر أمامه عابسة ومستعجلة، يتردد في إلقاء التحية عليها:
- صباح الخير.
(-... لا مجيب....)

Villa Ayech – السّوايسيّة
الخامسة مساء بتوقيت غرينيتش
في زاوية مضادّة للحياة، حيث تنتشر محاضن تربية البيرانا البشريّة تحت قبّة اللّيل وعلى سطح النهار المتواطئ، كان كومبا الفولانيّ منفيّا إلى ظلمته الغطشاء في قبو فيلّا عيّاش منذ سنة عاتية، محاصرا بالغابة والعزلة والحقن، منزوع الهويّة، سُخرة لألين وأتباعها من القتلة المولعين بالأعمال الخيريّة، بعد أن وشى به أحد التّجار الأفارقة الذي استعان به في محاولته الهرب من تونس عائدا إلى بلده مالي عبر الجزائر.
تهدّم كومبا على الأرضيّة اليابسة كشجرةَ باوْباب ملقاة جانب جذورها، وقد فرغ جوفها من كلّ سكّان ذاكرتها الطّيّبين وحكاياهم وغزتها قوافل النّمل الأحمر..
كان يشعر بهياج الدّبيب في رأسه، بإيقاع القرض المستمرّ ينخر عجُزه، بحوافّ المُدى تقشّر لحاءه الباطنيّ وتلقيه شرائح لحم للدّود..
كان ينتهي بسرعة مقعدة وبهجة ممسوسة. أتمّ توضيبَ رحيله. لم يبق غير أن تأتي السّاعة في موعدها من اكتمال دورة اليأس.
يلاعب في حنوّ أوتار قيتارته، يعدّلها، يقرّبها إلى قلبه، يدسّ سمعه في تجاويف خشبها المفعم بأسرار الأدغال الإفريقيّة العميقة، يمرّر أصابعه خشنة مسودّة الأظفار على الأوتار، يدندن لحنا جريحا يؤرّخ لكلّ الفرار الذي اشتعل في بطانة قدميه هاربا من الدّقع، والجفاف، والمجاعة، والحروب الأهلية، وذباب تْسِي تْسِي.. من مالي إلى الجزائر فالحدود الغربيّة للبلاد التونسيّة أين أطبقت عليه جمعيّة "ألينا الخيريّة" القبضة النّاعمة، فأعدّت له وثائق هويّة بصفة طالب إفريقيّ، وصار من أعضائها النّشطين..
عقدان وهم يستثمرون في فقره العريق، ولونه القاتم، ووجوده غير القانونيّ بتونس، ويستغلّونه في ترويج شتّى الممنوعات ممنوعا من الحياة خارج ما يسمحون به..
ثمّ لم يغفروا له نيّة الفرار إلى بلاده.

جلست، نظراتها تائهة، وابتسامتها غائبة. تتمايل يمينا ويسارا، لا تشعر بالراحة. أصابعها متوترة تعبث بركبتيها عن قصد أو غير قصد. تهرب من نظراته المتوجهة اليها كأنها صاروخ سينطلق في أي وقت.
حاولت أن تدفع من فمها كلاما، ترددت، وخافت من عينيه اللتين تحملان انتظارا. همست دون أن تحدث ضجيجا" ما هذه الورطة. لم أدرك أن الأمر بهذه الصعوبة".
وضع يده على خده في انتظار حكايتها التي وعدته بأنها ستحيكها له. نظراته ممزوجة بالحزن والقلق والسؤال. تعود أن يسمع حكاياتها لكن هذه المرة هناك شيء غامض يستوطن سلوكها وتعابير وجهها.
حمزة، صديق قديم لليلى، تفتح له مغاليق قلبها. كان دائما يحضر ويختفي. لم تسأله يوما عن حياته الخاصة. تفرح لما تلتقي به، كلقاء طفلة بأبيها الغائب. تحكي له عن يومها أو أيامها، ان طال الغياب بينهما. وهو دائما ينتظر وينظر اليها ويسمع حتى الآخر. ترتاح اليه كثيرا.
استيقظت هذا الصباح وهي تشعر بصداع شديد برأسها. فتذكرت بكاءها بالأمس بعدما أنهت مكالمة ليلية. لم تنم ولم تحلم. تاهت وسط ضجيج المدينة محاولة نسيان تلك المكالمة التي جعلت فؤادها يتألم.
تشجعت وطردت السجان الذي كبل لسانها وقالت له دون أن تنظر اليه:
-لست أدري هل يجب عليك أن تسمع هذا الكلام أم لا.
حاولت أن ترفع نظرها اليه وتلتهم تلك النظرات التي كانت تجيبها قبل أن تحكي. تابعت:
-أرجو أن تسمع الى الآخر وبعدها قل ما شئت.

كان أول لقاء في باحة نضرة مزهرة، متأبطة كتاب "اللامنتمي" كولن ويلسون...
انتظرتُها هناك لغرض يَهُمها ويهمني...لا فرق.
أثرنا انشغالات كثيرة: هواجس العمل، الدين، السياسة، العلاقات الإنسانية...
أثارَني صوتُها الرخيم: نظراتها التائهة، حزنها الدفين المهيمن على عينيها النائمتين السوداوين الجميلتين...
امتد الوصال والتواصل؛ كشفنا واكتشفنا كثيرا من طباعنا وخبايانا...سافرنا إلى العاصمة، قضينا فترة ممتعة بمذاق المراهقة، في المكتبة العامة، على شاطئ المحيط، في سينما الفن السابع...تبادلنا الاعترافات وحب شعر السياب، والموسيقى الأندلسية...
قرأت لها "ضجة العاصمة"، وبعض قصصي/همومي، اندمجت بشكل لافت يَنْضَح حرارة ونضجا وعشقا للفن الجميل...وقرأتْ لي بعض إبداعاتها ومذكراتها؛ رسخت في ذهني: مذكرة " أواني الطبخ"...
تلونت الدنيا، احمر الشفق، ورقص المحيط...

تشابكت الأيدي ملساء جوفاء، لم تستقر في مكانها، أحست بالفراغ مترصّدٌ أعزل، هل الغريب الذي يسكننا نطق، أم أن جوع الأيدي قطع وصل التواصل وأعاد الحجارة إلى مكانها. جرح اليوم انضم إلى الأمس والغريب أصبح صديقا، وتنتهي الحكاية. لا، لم نقف  بعد على النهاية؛ وتستمر الحكاية، تحاصرنا الأيادي في كل التفاتة ورق، نمررها نبسطها وكلها ارتعاشة، خوفا من الغريب الذي يوجهها؛ هل يقبلها أم يدسها تحت التراب، كنت غريبا فقبلت غربتك، ثم صديقا تقاسمني أفكار الخبز والجياع، وزمن الاضطهاد والاستغلال، لتصبح حبيبا وتنتهي الحكاية المؤجلة.

  هل الحب وصمة عار، أم أن زماننا المادي خلع عنا ثوبنا المقدس و ألبسنا ثوب المصالح، مصلحتي فيك يا وطني حبي الأعزل، ضاعت صلواتنا، قداستنا في حب المادة والسلطة، يا غريبي حبك ثوب ممزق لا يصلح للخياطة، مملوء برقع المال و المظهر والجاه، وهل يصلح الحب رقع الخبائث، يا وطني غريبي فيك كان غريبا و سيعود غريبا، فهل طوبى للغرباء، أم لا مجال للغرباء في أرض الكلأ و الماء، فالغريب سلام حار وبعد نظر وحفلة تنكرية، حضورها لا اسم و لا عنوان ولا صورة واضحة، حفلة حضورها غائب، و الحاضر فيها قلب ممزق، يحمل صورة شمسية يمررها بين الهياكل، ينادي غريب، يروي غريب، يا وطني أنت سلواي وجوعي الذي لم يرتو بعد، وأملي القادم.

في حكايات جدتي قالت: "من يحبك سيحب فيك وطنا سيزرعه ويحصده شيبا وشبابا، غريبك سيمر عليك يوما ما إما طاهر البدن، أو وحشا في شكل نعجة، أو خيلا بريا ، فارقبي نظرة العيون وما تخفيه من أسرار؛ وتعلمي فَّك طلاسم الغجر، ولا يغرنك المظهر الخداع، فكل شيء في هذا الكون زائل.

فى حادث غامض مات البطل، لم ينتبه المؤلف فى البداية إلى حالة الوفاة، فقط أمام بطء الأحداث وتوقف زمن القص والسكون التام الذى سيطر على القصة،  راجع المؤلف ما كتبه، فاصطدم أثناء المراجعة فجأة بجثة ملقاة على الأرض، لم تكن مغطاة أو مدفونة مما يؤكد أن الجانى لا يريد إخفاء جريمته، ولم يكن سلاح الجريمة ظاهرا أو موجودا مما ينفى فرضية الانتحار من البداية.. الدماء التى تركت الجثة كانت تغطى مساحة ليست بالصغيرة من القصة، حتى أن يد المؤلف كانت تقطر دما حين رفعها عن الورقة.

وقف المؤلف مذهولا فى بداية الأمر، لكنه وكمؤلف ملتزم بكل خصائص السرد الواقعى وقواعده، اضطر إلى استعمال التليفون والاتصال بالشرطة للإبلاغ عن الجريمة والجثة، سارعت الشرطة بالحضور، وأيضا كشرطة تعرف دورها وتعمل على حفظ الأمن ومنع الجريمة حتى داخل قصة قصيرة، بدأت فحص القصة من بدايتها.. كان العنوان مريبا لكن الأحداث تبدو عادية من الوهلة الأولى.. موظف صغير متزوج من سيدة لا تعمل، لم يهتم المؤلف بها فلم يرسم لها صورة أو يظهرها فى قصته حتى ولو ككمبارس صامت، يسكن شقة من حجرتين وصالة، ترك الزمن بصماته القاتمة على كل ما بها.. جدران، سقف، أثاث.. حتى بلاط الأرضية لم يسلم من ضربات الزمن التى حطمت بعضه وتركت على ما بقى منه علامات سوداء..

ليالي الشتاء جافة وقاسية، وهذه المدينة البائسة القابعة تحت جناح الضباب الكثيف تحولت فجأة إلى مدينة للأشباح. ما إن يحل الليل وتتدحرج الشمس وراء الجبال حتى تصبح صحراء ممتدة من السكون والفراغ. يهجم الظلام بعنف على الشوارع والأنهج والأزقة. تُوصد الأبواب وتُسدل الستائر على النوافذ بعد إحكام غلقها. تختفي كل مظاهر الحياة إلا من بعض الأضواء التي تنوس من الفتحات الصغيرة عبر ثقوب الأبواب والنوافذ أو من بقايا الفوانيس التي لم تقتنصها حجارة الصبية العابثين أثناء النهار.
ليل هذه المدينة موحش لا يخترقه سوى صوت ناقوس الكنيسة العتيقة التي تتوسط الشارع الرئيسي الطويل الممتد في استقامة كطريق يعبر الصحراء بلا تعرجات أو التواءات. لا أحد من السكان ينبئك متى أُنشئت تلك الكنيسة أو من أنشأها. ألفها الناس وألفتهم. ألفوا دقات ناقوسها الرتيبة المكرورة. ألفوا ألوانها البسيطة الجذابة. ألفوا أنوارها الساطعة. ألفوا أناشيد الآحاد يرددها المصلون في خشوع وانسجام. يشعرون بالفقد كلما صمت الناقوس أو أُطفِئت الأضواء.
يحاذي الكنيسة من الجهة الشرقية مسجد قديم بصومعته السامقة. يرتفع من أعلاه صوت المؤذّن عند كل صلاة، فترى الناس يهرعون إليه يلجون عبر أبوابه الكثيرة وقد غُلّفت أرواحهم بهالات قدسية سرعان ما ينزعونها بعد الفراغ من الصلاة، يُعلّقونها على المشاجب ثم يخرجون لاستقبال الحياة بما فيها من خبث وعنف وقسوة.