" معظم حياتنا مصادفات، ترتبط بأحداث لا علم لنا بوقائعها، وإن كُنّا نسعى لِتدبّر أَمرها بترتيب سياقاتها، هي الحَياة هكذا فَهْمها عَصِي على المرء مهما ادّعى القدرة على حل شفرتها وتفكيك مخرجاتها، وأنا طيلة سنوات عمري الماضية عشت فصولا مترابطة ألهتُ وراء وَهْمِ الإحَاطة بِشَواردها وأَلجِمَتها، لكنني فجأة وفي لحظة سَهْو غريبة وجدتني أزيغُ عن جادة الصواب وأفقد البوصلة، فبعد أن كنت " رأسا" صرت "قدمين".
أنا علال بن مثقال المفوض القضائي الذي كان يطرق أبواب الناس حاملا لهم استدعاءات المحاكم، وأُوافِيهم برسائل التَّبليغ والإشهار، ويتهافت المتنازعون على طلب خدماته، أفقد على حين غرَّة هذه الصفة، وأنقلب إلى مشبوه متورط في قضية تَزوير مُلفّقة انتهت بي إلى العزل، بعد الصَّدمة جاءت الصَّحوة، وإذا بِي دون مورد عيْش، وقَلبتْ لي الأيام ظَهر المجن، وانفضّ من حولي المتهافتون، وطلبت عَقيلتي الطَّلاق وهي غير نَادمة، وعندما ناقشتها في الأمر صَمَّتِ الأذان، فكأنها الحَجر الصَّلد، لا جواب ولا تجاوب، إلا الخذلان وخيبة الأمل، قتلتني بدم بارد ولم تَرْع عشرة ولا تذكّرت ما فات بيننا من محبّة ومودة، فارقتها وآلتْ إليها حضانة ابنتينا، ومضيت إلى حال سبيلي أبحث عن مخرجات لوضعي المتأزم علّني أعثر على ما يعيد لنفسي نقاء وبساطة الأمس ويضمن لي فرصا جيدة تُجنبني براثن الانهيار"
كانت الظروف أقوى من علال بن مثقال، ولم ترحم ضعفه، واضطرته للنزول درجة ثم درجات، وحتى يستطيع أن يضمن لنفسه سيرورة مأمونة، رضِي بالعمل حارس أمنٍ خاص لضيعة واحد من علية القوم، معروف بأنه رجل أعمال وسياسة، استقل بمسكن ملاصق لمدخل الضيعة يحرس بابها، ويراقب الداخلين والخارجين، ويقدم يوميا تقريرا سرّيا لمُسيِّر الضَّيعة وهو كهل ضخم الجثة يتعامل بصرامة وحزم مع كل المشتغلين تحت إمرته ، ولا يتردد في معاقبة كل من يخرج عن السطر من منظوره، كان شعاره الدائم:" شوف واسكت، واللي تكلم يرعف"، كان على علال القبول بهذا الوضع والرضى بهذا المستجدّ، فهو صامت يرى ويسمع ولا يتدخل في أمر، البندقية الخماسية على ظهره وحزام الذخيرة يُمنْطِقُ وسطه، وهو أشبه بمقاتل يذرع المكان يحفظ الأمن و يحمي الدِيَّار، وينفذ التَّعليمات الصَّادرة إليه من مشغليه الذين أطعموه من جوع وأمنوه من خوف في زمن تنكر فيه له الجميع.