ربما ستظنُّ وأنت تقرأ هذه السطور أنَّ مجنونا ما في مصح نفسيٍّ قد كتبها، أو أنها تخاريف عابث، لا يا عزيزي ما أقوله لك هو عين الحقيقة، كل ما في الأمر أن الأحداث النادرة تصبح سهلة التكذيب.
لم أك مولعا لا بالنظر إلى المرايا، ولا الحديث إليها حتى وقت قريب، لكن صدفة حدثت غيرت فجأة كل قناعاتي.
أتى ساعي البريد يحمل صندوقا كبيرا، تحقق من الاسم المكتوب:
-هذا الطرد لك أستاذ سامي، توقيعك أسفل ويمين الورقة إن سمحت.
انتبهت إلى عدم شرائي أي شيء على الشبكة، ولكن اسم المرسل إليه، كان يشير إليَّ دون لبس ومعه النسبة والعنوان، الغرابة في اسم المرسل: نرجس للمرايا.
لم آبه بالموضوع كثيرا، سندت الطرد إلى الحائط ونسيت الموضوع برمته مدة.
مساء الجمعة الماضي، خطر ببالي أن أنزع الورق المقوى عن الإرسالية، كانت المرآة عادية المظهر ولا تختلف عن غيرها.
ثبتُّها على حائط غرفة النوم مقابل سريري، بادرتني بالحديث:
-سنقضي أوقاتا ممتعة معا يا سامي.

تمهيد: ذات صباح، إتجهّت صوب شاطئ البحر، والسماء إن غطّتها الغيوم، فأشعة الشمس لا تخذلها وهي لا تكذب عندما تشرق. جئت حزينا وقلقي مورّد كالشفق الأحمر يصارع زرقة آفاق البحر الفصيح، الرحب، الطليق. ولكن بعد سويعات هنيئا للسماء بالصفاء. هنيئا للبحر بموجه الجديد يلطم موجا قديما. وأنا التائه والشريد، أشته أن يخلصني نور من بقايا ليلتي الكئيبة وعبق الندى في دمي. وحلمي يغازل المدى لم أقدر أن أحدق في شعاع الشمس وهي آتية تخترق ضباب هواجسي كما أني لم أقدر أن أحدّق في جثّة نورس جميل كالزهرة البرية لم تواره بعد الرمال.
،،،
وحينما جئت أتمشى على شاطئ البحر لم يحتو حزني ولا الصخور الجلمودية. فصمدت أمام رغبتي في الامتلاء بالوجود الفياض فتخَيّلتُ النورس مجسدا رمزيا في هيئة تحليق دائم ففي التخييل فنّ يقاوم العدم وكانت الريح تجمع الألوان في ريشة العقل المتعب بالجنون لتراقصني على هذه الأرض التي تتسع للجميع وشاطئها الذي يستقبل الغرباء في كل وقت وحين.
،،،
ذات نهار
سقطوا من علياء المقت الى الموت غرقا
تمزّق الأفق الرحب في وجهوهم
وحدثني البحر عن عود الأطيار والنوارس
وعن أسماك تبحر وتعود

عيناها لا تكفان عن ذرف الدموع. كنت أجلس قبالتها مباشرة، أصغي إلى وجيب قلبها فيتردد صداه في تلك الردهة الفسيحة في هذه البناية الصماء التي لا تستقبل إلا المواجع والآلام. تضيق وتتسع حسب انفعالات زائريها أو مغادريها، فتضج حتى لتخالها الآزفة قد أزفت، ثم تهدأ وتستكين وتصمت صمتا أشبه ما يكون بصمت المقابر وسكون القبور فيها.
وقع الأحذية فوق البلاط اللماع ذي الرائحة المقرفة الممزوجة بطعم الوجع والخوف والموت تقطع مساحات الصمت الذي يخيم بين الفينة والأخرى على هؤلاء القابعين المنتظرين في تهيب وتردد، فكل أزة باب قد تحمل خلفها وجعا، وكل صرخة مدوية تخترق الجدران قد تنبئ عن فجيعة.
في عينيها مساحة ممتدة من الحزن والألم اللذين يعتصران قلبها ويفتتان ما رُتق من بقايا روحها. حدقت في عينيها فإذا هما مثقلتان بهموم الدنيا، لم يكحلهما النعاس منذ دهر. وحيدة كانت تجلس رغم كثرة الجالسين يمينا وشمالا. تملأ رئتيها بين الفينة والأخرى هواء تسحبه بعمق وتنفثه آهات عنيفة. لم يكن يؤنسها سوى هاتفها الذي كانت تضاء شاشته لتقرأ رسالة أو تتفقد الوقت الذي أمعن في تعذيبها. هذا الزمن الذي يكاد يتوقف، تُشل حركته فيمعن في تعذيبنا ونمعن في تذكره وتتبع حركات عقارب ساعته الرتيبة.

قيل فى الآثر : " يظل الرجل الرجل حتى يقابل المرآة المرآة ويحبها .. "
ويحكى أن عنترة اصطدم يوما بحائط اليأس من وصل عبلة، فأخذ سيفه وفرسه وحزنه وأسرع فى الصحراء، لم يُعدّ النُهُر التى ظهر فى نهايتها القمر، ولا الليالى التى غابت فى بدايتها الشمس.. لكنه فجأة استشعر الجوع والعطش لجسد عبلة وقلبها، فنزل عن فرسه وألقى بسيفه على الأرض وبكى كما لم يبكِ يوما رجل، أو كما لم يبكِ يوما فارس، حتى توقف مطر قلبه وجفت عيونه، فصحب حزنه وعاد إلى خيام القبيلة فارسا من جديد.
لكن التاريخ يحفظ لنا – فى قلب الصحراء ورمالها- ذكرى ذاك اليوم البعيد.. عين ماء صافية رائقة كأنها عين من عيون الجنة.. كلما نزل عليها مسافر - أو مر بالقرب منها - اشتاق وحن حتى يتشقق قلبه ولو لم يكن محبا أو صاحب طريق.

طقس
ساعة العصر تزحف بطيئة، وآلة الحصاد تواصل دورانها بنفس الصخب تحت شمس حارقة. أما نوار الشمس المشرئبُّ من الحقل، ذاك، خلف الوادي، فقد كَلَّ من ليِّ عُنقه متابعا دورة الشمس، ولو علِمَ أنها ثابتة لاستراح ورفع رأسه أو ترَكَه يتدلّى.
لم ييأس الجُعل (بوجعران) من دفع كُرته التي اعتادَ تكويرها من روث البغل، ودسّ بيوضه فيها. يُبدع في دفعها بستة أرجل تتناوب فوق أرض غير مستوية نحو بيته الذي يُخفيه كما يُخفي جناحيه، ولا يشهرهما إلا للضرورة والبحث عن قوت إضافي.
عاد الْحَيْمر الراعي يروي على مسامعي أن ساعة هجرته قريبة، حتى وإنْ مات في البحر فليس له ما يخسره، عاش راعيا وقد تجاوز الثلاثين من عمره، وأقسم إنْ عَبَرَ حيّا سيعود بعد خمس سنوات في سيارة أوتوماتيك وزوجة نصرانية شقراء. يكره نساء البلد لأنه يعلم ما يجري في الدوار من أسرار عصية على الحكي. ثم يلتفتُ إلى هاتفه المذياع وقد حوّل الموجة إلى قناة شدى إف إم في برنامج " برلمان الشعب" مع مقدمه الإعلامي الحسين شهب الذي ينفحه حماسة وهو شارد.

لا يجرؤ الحبر أحيانا على الانطلاق، تتشتت الأفكار وتصطدم مع بعضها، تبحث لها عن منفذ تنسل منه هاربة من جحيم سجنها؛ فتعود لتسقط في دائرة اليأس. أنفض غبار التشاؤم عني، أحاول التكيف مع الانكسارات، أراوغ طموحاتي وآمالي، أكبت كل توجهاتي المتمردة؛ فلا يبرح القلم غمده. أخط حروفا مغتصبة، أرغمها على الوجود، أحاول لملمة شتاتها لعلها تسمو إلى كلمات تلامس ما يخالجني؛ فإذا بها مجرد أشباح تتراقص فوق ورقتي البيضاء.
أعود إلى صرة ذاتي، أبحث، وأكتشف، وأقلب ركام ذلك المخزون المنسي من ذاكرتي، لعلني ألتقي فرحة تائهة تنير حيرتي وتلجم هواجسي، أو حتى دمعة تزلزل كياني وتعيد نظم حبل تطلعاتي.

لم تكن حبيبة، بل حلما لم يرغب بهجرانه، حلَّق وعلا به، فارتطم بسقوف الوحدة.
ذاك الصمت الجليل، الكلام يدنسه، والتصريح يقتله، نوع من تعاطي العذاب، والإدمان على الفناء المقنِّع بألوان صاخبة.
عيناها لوز وسكر، رموشها حراس ليليون، مستعصية على الحب، مسلسة لفرح مزيف عادي، خالٍ من عصف الدهشة، وفارغٍ من أي شغف.
امرأة سكنت ظل البدرعلى وجه الزرقة الحائرة، رثت عيون الغسق في محاريب العزاء، وتنشقت قُبلَ الموت الساكن.
رانيا كانت شلالا من فتنة، وكان هو ناجيا من هاجرة خانقة، فلا هي توقفت عن التدفق العاصف، ولا هو قدر على مجاراتها، فاستكان مع حمرة الشفق الأخير.
عاندتِ الحياة، كمن قتلت ابنها، وبكته عمرا كاملا، عاقبت روحها باحتراق ذاتها، وتطهرت بالندم من جريمة شبه مكتملة الأركان.

بعض الصدف كالشرارة، لا تخلف إلا الحرائق التي لا يقدر أحد على إخمادها. وتلك المكالمة التائهة ألهبت في هشيمه نارا لا قدرة له على إيقاف تقدمها. كانت أرضه هشيما مصفرا. وكانت كلماتها زيتا سُكب على ذلك الهشيم. عجز عن كبح لجام نفسه، وأطلق لها العنان تَصَحَّر به من بيداء إلى بيداء. لم يتوقف عن مهاتفتها يوما. ما إن يبلغ باب المؤسسة التي يشتغل فيه حتى يسارع إلى وضع الشريحة الثانية في هاتفه ويتصل بها، ويعطر صباحها بعذب كلامه وينثر حولها عبيره ويتركها بين حلم ويقظة. كثيرة هي المرات التي أيقظها من نومها باتصاله. داما على تلك الحال حينا من الدهر. أدمن كل منهما صوت الآخر. تحولت المكالمات إلى لقاءات افتراضية عبر الفايسبوك. أعجبتهما اللعبة واتفقا دون تصريح على مواصلتها. تبادلا أعذب الكلمات. روى لها النكت المتنوعة. اخترع قصة لحياته وحكاها لها. صدقته في كل ما قال. شهران متواصلان ظل يحدثها وتحدثه. وظل يصدقها وتصدقه إلى أن أدمن كل منهما الآخر.
كتب لها يوما وهو يعانق صفحتها على الفايسبوك حين عثر عليها متصلة:
"نورتني يا خير زائرة أما خشيتِ من الحراس في الطرق"

مفضلات الشهر من القصص القصيرة