نزع بعض الكتاب العرب إلى تحديث الرواية العربية وتجديدها بتكسير القواعد الفنية والتأسيس لصيغ مبتكرة تقوم على هدم بنية الحكاية وتفتيت معناها، وذلك من خلال تدمير المبنى التقليدي للمحكي وتحريره من قيود الكلاسيكية القديمة، حيث صار "العجائبي بؤرة الخيال الخلاق الذي يجمع مخترقا حدود المعقول والمنطقي والتاريخي والواقعي، ومخضعا كل ما في الوجود من الطبيعي إلى الماورائي لقوة واحدة فقط، هي قوة الخيال المبدع المبتكر"[1] الذي يحول الوجود بإحساس مطلق بالحرية فيشكل العالم كما يشاء ويصوغ ما يشاء غير خاضع لشهواته ومتطلبانه".
حين نعود إلى القواميس العربية لتحديد مفهوم الرواية، نجد أن اللفظة تدل على نقل الماء وأخذه، كما تدل على نقل الخبر واستظهار، فقد ورد في لسان العرب: روي من الماء بالكسر، ومن اللبن يروي ريا، والرواية أيضا البعير أو البغل أو الحمار، يسقى عليه الماء، والرجل المستقي أيضا رواية. ويقال" روى فلان فلانا شعرا، إذ رواه له متى حفظه للرواية عنه".[2] فالمدلولات المشتركة للرواية تفيد في مجموعها عملية الانتقال والجريان والارتواء المادي أو الروحي...
غير أن دلالة كلمة الرواية على هذه المعاني لا يكاد يفيدنا، لأننا بصدد الحديث عن جنس أدبي حديث. فقد رأى ميخائيل باختين:"أن تعريف الرواية لم يجد جوابا بعد بسبب تطورها الدائم" [3]. فإن هذا اللون من الأدب كما يضيف غولدمان يعيد النظر في كل الأشكال التي استقر فيها . وبالرغم من صعوبة تحديد مفهوم الرواية، إلا أننا سنحاول التصدي لتعريفها باستعراض بعض المحاولات التي أوردها بعض الباحثين، ومما جاء في ذلك نذكر رأي المفكر المغربي عبد الله العروي، حيث قال : ” هي رواية شاملة موضوعية أو ذاتية، تستعير معمارها من بنية المجتمع، وتفسح مكانا لتتعايش فيه الأنواع والأساليب، كما يتضمن المجتمع الجماعات والطبقات المتعارضة"[4].
إن تميز حجم الرواية بالطول حدا بالباحث المغربي الدكتور حميد لحميداني إلى القول: " الميزة الوحيدة التي تشترك فيها جميع أنواع الروايات هي كونها قصصا طويلة، وقد لاحظنا أن ما يعتبره أغلب النقاد في العالم العربي ككل، رواية لا يقل عدد صفحاته عن ثمانين صفحة من القطع المتوسط"[5]. وبذلك فإن الرواية أقرب في جوهرها إلى القصة، إلا أن "هناك جملة من الفروق التي تشترط جملة من الخصائص للرواية، والتي لا تتوفر إلا في هذا الجنس الأدبي"[6].
فقد جعل هذا الجنس الأدبي الروائي المعاصر ذات متحولة، تشبه الباحث في التراث الإنساني، من خلال تحطيم الحدود والمسافات الفاصلة بين الأجناس الأدبية، بالانفتاح على أشكال تعبيرية مختلفة والنهل من القصص الإنسانية والأساطير الضاربة في القدم، الشيء الذي جعل الرواية المعاصرة عند البعض تتميز برؤية عميقة للوجود وإثارة مجموعة من الأسئلة والأفكار الكبرى بلغة شعرية، والانفتاح على التاريخي والفلسفي ومحاورته بأسلوب جديد ومن منظور حداثي محض. "وقد حتم الزخم الروائي على الأدب العربي إنزال الشعر من على صهوته، لتتربع عليه الرواية، التي غدت قاطرة الكتابة الإبداعية لدى العرب بامتياز"،[7] إذًا، ما علاقة الرواية بالواقع؟ وكيف تنقل أحداثه الشائكة؟ وما علاقة الغرائبية والعجائبية بالكتابة الروائية العربية المعاصرة؟ وما هي تجليات البعد الغرائبي في السرد العربي قديما وحديثا؟ وهل يمكن اعتبار هذا النمط الجديد من الكتابة في الثقافة العربية أسلوبا له مقموماته الجمالية؟ أن مجرد تقليد غرضه الإبهار والتنميق؟ تلكم الأسئلة التي سنحاول كشف القناع عنها في هذا المقال.
الرواية العربية والواقع:
على الرغم من حداثة الرواية في الثقافة العربية، إلا أنها استطاعت أن تكسب ود القارئ العربي تدريجيا منذ أن فجرت عينها مع ما خطه الرادة الأوائل، و"صدور بواكير الرواية العربية مع رواية (حسن العواقب) لزينب فواز سنة 1898، وما كتبه سليم البستاني المتوفى سنة 1884، وروايات جرجي زيدان، ورواية (زينب) لحسنين هيكل سنة 1914... وغيرها من الأعمال"[8] .
وقد قطعت الرواية العربية العديد من المراحل قبل أن تبدأ في التأسيس لنفسها متأثرة باتجاهات تحاكي الاتجاهات العالمية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، من الرومانسية إلى الواقعية في محاولة للتبلور والتأصيل، فركوب مسارات التحديث والتجريب صعب معه متابعة ومواكبة التطور المضطرد للرواية العربية كلها دراسة ونقدا.
هذه الصعوبة جعلت من هذا الجنس الأدبي صعب المنال على مستوى النقد والتحليل، ما يدل على "الطابع الزئبقي المنفلت والمتحول الذي يتسم به مقارنة مع أجناس أدبية أخرى (شعر، قصة، مسرحية... )
أما النتيجة التي يمكن الخلوص إليها؛ هي أن هذا الجنس الأدبي عصي على الجمع، ومتحول في الزمان والمكان، ومفتوح الأمداء على آفاق جمالية متعددة، إنه بالأحرى ذلك الجنس الأدبي الذي لم يستكمل بعد بناءه الفني".[9]
فالأشكال التعبيرية برمتها لها ارتباط وثيق بالواقع المعيش، ولا بد من التأكيد على أن الرواية- باعتبارها إحدى هذه الأشكال- لعبت دورا دورا رياديا في تصوير واقع الإنسان العربي المعاصر، فقد اتسم العالم العربي بتعدد الأقطار، وكل قطر من هذه الأقطار ناضل كي يستقل بذاته، وعلى الرغم من وجود قواسم مشتركة بين بلدان العالم العربي كاللغة والدين والتاريخ، وهي مكونات من شأنها الحفاظ على الهوية القومية - على حد تعبير محمد عابد الجابري- إلا أن هناك اختلافا ثقافيا وفكريا سحيقا يميز كل قطر عن آخر، مما أدى إلى اتساع دائرة الرواية العربية في تصويرها لمختلف أنماط العيش المرتبط بالإنسان العربي، بين الريف والمدينة، ومن الفرد في الأسرة الواحدة إلى الفرد المغترب...
إذاً، كانت الرواية ومازالت كائنا حيا، تطور في نموه متفاعلا مع كل تلك الأحداث قبل أن يصل إلى المستوى الذي هو عليه الآن، وقد تمكنت في الفترة الراهنة من اتخاذ أشكال فيها من التعقيد والخصوصية ما يساير واقعا معقدا، متواترة أحداثه، يعيش أزمة قيم بعدما هيمنت قيم الفردانية، والدغمائية، التي جاء بها وحش الرأسمالية، " فكان طبيعيا أن تنكمش القضايا القومية بعد أن أضحى لكل دولة قضاياها، بل لكل روائي انشغالاته وهمومه" [10].
الغرائبي والعجائبي وتجلياتهما في السرد العربي:
يقصد بالغريب والعجيب في اللغة، "كل شيء غامض وغير مألوف، فالغريب الغامض من الكلام "[11]، فالتفريق بين السرد الغرائبي والعجائبي يبنى أساسا على التردد الذي يحسه القارئ حيال تصديق نص حدث ما، فإن قرر أن قوانين تظل سليمة وتسمح بتفسير الظواهر الموصوفة، فهو بلا شك دخل في السرد الغرائبي، أما إذا قرر أنه ينبغي قبول قوانين جديدة يكون قد دخل في السرد العجائبي، حيث" تؤدي الخلفية الثقافية والتراثية دورا في تحديد الغرائبي والعجائبي، بمعنى أن وجود بساط طائر في حكايات ألف ليلة وليلة يعتبر حدثا عجائبيا لدى الكثيرين".[12]
ويلاحظ محمد برادة أن مصطلح "الفانطاستيك" بالنسبة للأدب والنقد العربيين أصبح متداولا ورائجا خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي ، كما صار يشكل محورا بارزا في استراتيجية الكتابة القصصية والروائية، ولاسيما بعد ترجمة كتاب تودوروف" مدخل إلى الأدب العجائبي" وتلخيصه والتعريف به من قبل الدارسين والباحثين في الأدب الفرنسي والأدب العربي. وقد يفسر هذا الاهتمام بالنزوع إلى تكسير قالب الواقعية الضيقة والبحث عن طرائق الترميز وتمرير الانتقادات الاجتماعية والسياسية والدينية،"[13] بحيث صار الغريب "هو كل أمر عجيب قليل الوقوع، مخالف للعادات المعهودة والمشاهدات المألوفة"[14]، و" تحقيقه في النص الروائي يترك أثرا خاصا في القارئ خوفا أو هولا، الشيء الذي لا تقدر الأجناس الأخرى على توليده، فالعجائبي يخدم السرد ويحتفظ بالتوتر، إذا لحضور العناصر العجائبية يتيح تنظيما للحبكة، مكثفا بصورة خاصة" [15].
ومن الأجناس الأدبية التي وظفت السرد العجائبي والغرائبي، نجد جنس الرواية إلى جانب جنس القصة،
ففي أدبنا العربي، عرف السرد العربي القديم محاولات إبداعية عديدة تنهل من معين الخيال العجائبي مثل: كتاب ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة والسير الشعبية كسيرة فارس اليمن ملك سيف بن ذي يزن وقصة الأمير حمزة البهلوان وسيرة الأميرة ذات الهمة وسيرة بني هلال الكبرى وسيرة الزير سالم وسيرة عنترة بن شداد. وقد أصبح هذا التوظيف في الأدب الحديث من أوضح البنى السردية تواجدا وحضورا وإدهاشا، فعلى الصعيد العالمي بات هذا النوع من السرد يستقطب الأدباء، ويستهوي الجمهور والعطاءات، ما نتج عنه مجموعة من الإبداعات العالمية المختلفة، نذكر منها على سبيل المثال: مائة عام من العزلة لغارسيا ماركيز، ورواية المسخ لفرانز كافكا، وأليس في بلاد العجائب للويس كارول، وغيرها من الإنتاجات الروائية المعروفة.
أما العالم العربي فقد اشتهر العديد من الأدباء بهذا النوع من السرد، نذكر منهم: رواية(السلحفاة تطير) ليحيى حقي، و(الزمن الآخر) لإدوارد الخراط، (الضلع والجزيرة) الميلودي شغموم، (بيضة الديك) لمحمد زفزاف، (الجنازة) لأحمد المديني، وغيرها...
وقد "كانت الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي اجتاحت العالم وأروبا خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، من أهم العوامل التي أبرزت هذه البنى السردية إلى الوجود، حيث الغرائبية والعجائبية الطريقة المثلى لتكسير القوالب الواقعية الضيقة، والبحث عن طرائق الترميز بهدف تمرير الانتقادات والمواقف السياسية والاجتماعية والدينية"[16].
وقد تعددت البنية السردية في الخطاب "الفانتاستيكي، والتي تتحقق في أربعة أنماط تعرضها في الآتي:
- السرد اللاحق: رواية أحداث ماضية.
- السرد المتقدم: يملأ الحيز الروائي بأحداث تقع في المستقبل
- السرد المتزامن: إيهام المتلقي بتزامن الحدث وفعل السرد.
- السرد المدرج: يخصب الحكي ويعطي لتطور الحدث وضوحا وجلاء".[17]
الغرائبية في الرواية العربية المعاصرة:
ذهب غاستون باشلار إلى القوال: " إن العجائبية تعيد المرء حسن الدهشة الذي يكتشف به الطفل الحقائق لأول مرة". كما قال تودوروف في العجائبية :" أنها تردد كائن لا يعرف سوى القوانين الطبيعية أمام حادث له صبغة فوق الطبيعة ". فيما يرى بيسيير أن " الأدب الغرائبي يضطلع يمزج لا واقعية بواقعية ثانية ".
والعجائبية بهذا المعنى شديدة الارتباط بالحكايات الإنسانية الأولى (الأسطورة، الخرافة) كما ترتبط بنية العجائبي في الرواية العربية بالذات والتاريخ واللاشعور. وتحتل اللغة موقعا بؤريا في بناء العجيب وتوجيهه انطلاقا من نسق الحوار أو المنولوج الاستيهامي، عبرهما يتنامى العجائبي ويحدد موقع الواقعي. فهو بناء لغوي ولقاء بين المألوف واللامألوف ، بين أدوات طبيعية وأخرى فوق طبيعية غيبية لإيجاد حالة من الزج بالواقعي، بكل وضوحه الكاذب وأوهامه المغلقة، في المأزق إذاً، يستمد العجائبي وجوده الفني في الرواية العربية من التراث العربي والإسلامي في جانبه السردي من حكايات وتصوف وأخبار... ومن الملل والنحل والمعتقدات الشعبية، ومن عنف الواقع وإكراهاته، فضلا عن تأثيرات المثاقفة، وهضم كل هذه المعطيات في رؤية فنية حداثية وبنية انتقادية للظواهر الاجتماعية والفكرية والعربية، ذلك أن الرواية باعتبارها جنسا أدبيا لها ارتباط بتاريخ الملحمة، والحكايات الشعبية الشفوية وغيرها من الأجناس السردية التي تدور في فلك الغرائبي والعجائبي، مما يعطيها قوة خارقة تسم أحداث العمل السردي بسمات غريبة .
"اليوم وما يعيشه العالم العربي من انهيار للقيم، وفوضى عصية على الفهم، وتطاحنات وصراعات لا يعرف العرب سببها، قد يكون مسار العجائبية أنسب طرق التعبير الجديدة في الثقافة العربية، لوصف هذه الفوضى( غير الخلاقة) بعد أن ساره عدد من الروائيين المعاصرين".[18]
غرائبية الواقع في رواية فرانكشتاين في بغداد:
إن الروايات التي توظف العجائبي باعتبارها تيمة أساسية ومهيمنة شكلا ومضمونا ووظيفة قليلة، كما هو الشأن عند بنسالم حميش وسليم بركات ومحمد الهرادي ويحيى بزغود...بخلاف الروايات التي توظفه باعتباره خطابا تناصيا وجزئيا فهي كثيرة إلى حد ما؛ مما يجعلنا نقول مع الباحث المغربي الدكتور شعيب حليفي"يمكن اعتبار العجائبي خصيصة تمييزية في الرواية العربية، لم يتم استثمارها بشكل موسع وكامل، وأيضا لم يتم تطويرها حتى تصبح علامة مرجعية، وذلك نظرا لغياب كم روائي في هذا الاتجاه، بالإضافة إلى غياب نقاش نقدي يضع العجائبي ضمن الأسئلة المطروحة على الإبداع العربي.
وعليه، فإن توظيف الخطاب العجائبي القائم على الغرابة والتردد بين الواقع والخيال المموه والصور المجازية المفارقة من أهم مظاهر تجديد الرواية العربية الجديدة ومن أهم تجليات تأصيلها . حيث ساهم فوز رواية (فرانكشتاين في بغداد)"[19] للروائي العراقي أحمد سعداوي بجائزة البوكر لسنة 2014, في لفت أنظار القارئ العربي إلى توجه جديد في الرواية العربية المعاصرة، بعدما تفوقت على رواية( طائر أزرق يحلق معي) للروائي المغربي يوسف فاضل. إن رواية فرانكشتاين في بغداد تميزت بقدرتها على رصد بعض قضايا الواقع العربي الراهن، وبقدرتها على الإنسان لإيقاع العصر، ورصد تفاعلاته ودبيب حركاته، وهو ما عجزت عليه غريماتها، كرواية (تغريبة العبدي) لعبد الرحيم الحبيبي التي غاصت في التاريخ وأغرقت في المحلية والتحقيق.
” الرواية صدرت طبعتها الأولى عن دار الجمل في 252 صفحة، تحكي حكاية (هادي العتاك) بائع المتلاشيات في أحد أحياء العاصمة العراقية، وعقب سقوط نظام صدام حسين ودخول الأمريكان إلى العراق، تبدأ أحداث الرواية في ربيع 2005، واستغل (العتاك) أحداث التفجيرات وتناثر أشلاء الضحايا، فلصق أعضاء بعضها ببعض، وقد كانت فرحته كبيرة عندما عثر على آخر عضو (الأنف) وتشكيل جثة كاملة لا روح فيها"[20] . فكانت المفاجأة الكبرى؛ لما حلت فيها روح لا جسد لها، فتشكلت شخصية ( الشسمة) التي تعني باللهجة العراقية ( لا اسم له)، لينطلق هذا الكائن الغريب في عملية انتقام من كل الذين ساهموا في قتل أصحاب الأعضاء التي شكلته، فكلما انتقم لمقتل شخص سقط العضو الذي انتقم له، فوجد نفسه مضطرا إلى تعويض العضو الذي سقط، ليدخل غفي دوامة لا متناهية من القتل.
إن الغرائبية في رواية فرانكشتاين في بغداد لها تجليات كثيرة، ورغم كل تلك التجليات تبقى الرواية تعالج قضية واقعية، تتمثل في ما يعيشه العراق والعالم العربي من تشظ، وفرقة واقتتال يعسر فيه معرفة من المخطئ ومن المصيب.
فتكون الرواية تعبيرا عن " واقع متعدد المشوه والستارات المركبة من الزيف والوهم والحقائق المدمرة، وعن عالم انسحبت فيه نفسية الكائن حتى باتت مشوهة تفرز أمراضا متعددة، بالإضافة إلى مصادرة كل ما هو إيجابي وسط حروب وفقر وتخلف وجعل".[21]
غرائبية المتخيل في رواية ضريح أبي :
إن الخطابات الروائية العجائبية نصوص تخييلية تتراوح بين العجيب والغريب، وبين الوهم والواقع، وبين المنطق واللامعقول، وبين الانسجام وللانسجام، وتعتمد أحداثا غريبة ومدهشة تحدث التردد الذي" يطال الشخصية الرئيسة و أي شخصية أخرى من شخصياتها. كما يشمل القارىء الذي يقف حائرا أمام غموض الأحداث وغرابتها ويحاول أن يجد لها تفسيرا طبيعيا أو غير طبيعي، وهذا التفسير هو الذي ينهي ظاهرة الغرابة ويخرج النص من الفانتاستيك، وهذا ما نجده في رواية (ضريح أبي) لأحد الروائيين الشباب بمصر، وهو طارق إمام، حيث نقترب من غرائبية أخرى، فهي رواية صادرة عن دار العين سنة 2013 في 191 صفحة، وتحكي الرواية عن ولي صالح له بركاته، مات منذ مئات السنين ويحيا داخل ضريحه، مات ميتات كثيرة وعاش حيوات متعددة، ودفن له في كل مدينة ضريح، وقد ورد في آخر الرواية: " ولأنه جرب الموت في أماكن كثيرة لم يعد يخشاه، بل تمناه في وطنه، لأنه يشعر بالخجل أن يموت في كل البقاع عدا سريرها" [22].
و"ليست هذه بغرائبية في الرواية، بل هي غرائبية في الواقع والمتخيل، بالرواية تصوير الواقع الذي نعيشه، والذي غدا أحوج ما يكون لنبي جديد يغسل الدين والسياسة والأخلاق، ويحمي الإنسان العربي من طموحه الجامح في الانتقام من الذات". [23]
ختاما نؤكد على أن الرواية العربية المعاصرة جعلت من الغريب والعجيب أسلوبين سرديين مختلفين، يؤثثان المتن الحكائي ويجعلانه أكثر قابلية للتأويل والنقد، وكذا التنقيب عن خصوصيات الخطاب الروائي العجائبي والقضايا التي يعالجها بعيدا عن التصريح والمباشرة.
[1] أبو ديب كمال، الأدب العجائبي والعالم الغرائبي في كتاب العظمة وفن السرد، دار الساقي، بيروت، ط1، 2007، ص: 8.
[2] ابن منظور، قاموس لسان العرب، إنتاج المستقبل للنشر الإلكتروني، بيروت، دار صادر، 1995
[3] باختين ميخائيل، الملحمة والرواية، ترجمة وتقديم جمال شحيذ، كتاب الفكر العربي3 ، بيروت 1982، ص:66.
[4] العروي عبد الله، الأيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة عيتاني محمد، دار الحقيقة بيروت، 1970، ص: 275.
[5] لحميداني حميد، الرواية المغربية ورؤية الواقع الاجتماعي (دراسة بنيوية تكوينية) ، دار الثقافة، الرباط، ط1، 1985، ص:80.
[6] مفقودة صالح، أبحاث في الرواية العربية، منشورات مخبر أبحاث في اللغة والأدب الجزائري، الجزائر، ط1، ص: 7.
[7] الداديسي الكبير، مسارات الرواية العربية المعاصرة، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت، لبنان، ط1، 2018، ص: 13.
[8] المرجع السابق، ص: 11.
[9] أشهبون عبد المالك، الرواية العربية (من التأسيس إلى آفاق النص المفتوح) مطبعة آنفو برانت، الليدو، فاس، ط1، 2007، ص:7.
[10] الداديسي الكبير، مسارات الرواية العربية المعاصرة، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت، لبنان، ط1، 2018، ص:13.
[11] الخليل بن أحمد الفراهيدي، معجم العين، الجزء 4، ص: 411.
[12] شعلان سناء، السرد الغرائبي والعجائبي، نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي، 2002، ص:11
[13] محمد برادة: (تقديم)، مدخل إلى الأدب العجائبي لتزتيفان تودوروف، ص:5؛
[14] الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص: 322.
[15] تزفيتان تودوروف، مدخل إلى الأدب العجائبي، ص: 95.
[16] شعلان سناء، السرد الغرائبي والعجائبي، نادي الجسرة الثقافي والاجتماعي، 2002، ص: 34.
[17] حليفي شعيب، مكونات السرد الفانتاستيكي، فصول، مجموعة 12, ع 1، القاهرة 1993، ص: 67
[18] الداديسي الكبير، مسارات الرواية العربية المعاصرة، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت لبنان، ط1، 2018، ص: 62
[19] سعداوي أحمد، رواية فرانكشتاين في بغداد، منشورات الجمل، ط1، 2013.
[20] المرجع السابق، ص: 63.
[21] حليفي شعيب، شعرية الرواية الفانتيستيكية، الدار العربية للعلوم ناشرون، دار الأمان، منشورات الاختلاف، ط1، 2019، ص 33.
[22] إمام طارق،رواية ضريح أبي، دار العين للنشر، ط1، 2013، ص: 180.
[23] داديسي الكبير، مسارات الرواية العربية المعاصرة، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت لبنان، ط1، 2018، ص: 78.