مدخل :
تتحدد العلاقة بين الكاتب والقارئ عادة وفق المسافة التي ينشؤها الكاتب مع الواقع ويقدم نصه من خلالها، عارضا مواقفه وأحكامه السياسية والاجتماعية والفكرية، ومختزلا المفاهيم والرؤى التي يقوم عليها الفعل القرائي الذي يتحمل الكاتب مسؤولية تبليغه للقناعات التي يرتكز عليها، وذلك بالتفسير والتحليل، وتحريك الوعي، وتسليط الضوء على القضايا المصيرية التي يلعب فيها عنصرا العرض والتخييل دور الوسيط المحفز لاستقبال العلامات المؤثرة في البنية الثقافية لأي مجتمع من المجتمعات .
من هذا المنطلق تتأسس الكتابة الروائية عند الكاتبة الجزائرية (ليلى بيران) التي تميل إلى معايشة فنية للواقع الجزائري عبر مجموعة من الروايات تعرض فيها أحوال المجتمع الجزائري من نواحي عديدة ومختلفة.
قراءة في رواية (بصمات):
تتسلّم الكاتبة في رواية (بصمات) زمام الفعل السردي مستخدمة ضمير (الأنا)، ومعلنة حالة من الحضور الإنساني الذي يتفاعل مع الظاهرة الاجتماعية والثقافية الجزائرية من خلال تدفق حيّ لمجموعة من الصور الحياتية المكثفة الدلالة والرؤى، فتبدو مصرّة على مناجاة التاريخ البشري بأشكال تناصية شتى لا تقف عندها لمجرد العرض أو الإخبار، بقدر ما تجعل منها محمولات تراثية إنسانية لحاضر الفكر والثقافة والمجتمع الجزائري الجديد والتغيرات التي طرأت وتطرأ على واقعه المتنامي باستمرار.
تميل رواية (بصمات) إلى ما يصطلح على تسميته بالرواية السياحية في بعض فقراتها التي اهتمت فيها الكاتبة بعرض تفاصيل المكان الذي تنتمي الشخصيات إليه أو تتحرك ضمنه، وهي ميزة وصفية لا تقل أهمية عن بقية البنى السردية التي تأسست عليها الرواية الجزائرية المعاصرة وصنعت تفردها من خلالها (أنا من مدينة قيل عنها رجعية... بسميها البعض بلدة لكنها ليست كذلك...في مدينتنا تخرج المرأة لاقتناء حاجيات البيت... في مدينتنا الجميع يشغل تفكيره وعينيه بالمارة... في مدينتنا يقلدون الجميع في كل شيء... أزقتها الجديدة لا أعرفها فقد ارتفعت فيها الكثير من العمارات لازدحام النازحين إليها، والكثير من الفيلات... مدينة عرفت بالمياه المعدنية... وبيوت غرس فيها الياسمين كعادة موروثة من الأندلسيين الذين سكنوا جبالها الخضراء، بل وحتى عادة إضافة قطرة من ماء الزهر للقهوة وتزيين المائدة بنبتة الحبق...) الرواية ص 13، 14.
وقد اعتمدت الكاتبة على تقنيات متنوعة في تفعيل المقاطع الوصفية وتكثيف دلالاتها ورؤاها السردية والواقعية على حد سواء، منها: تقنية التنظيم والتنسيق؛ وهي تقنية شبيهة بما نجده لدى (مدام بوفاري) في فقرات تصف فيها (القبعة أو العربة أو العشاء) بإسهاب، ونجده لدى (بيران) في مقاطع تصف فيها (الأب أو الأم) أو تتحدث عما يبدو ظاهريا منفصلا عن موضوع الرواية، إلا أنه يتوحّد مع فكرة الحكي توحّدا يجعل منه مرتكزا أصيلا في الرواية يصعب زحزحته من مكانه لأي غرض بنائي أو موضوعي(عندما قرأت عن فنان سلوفاكي قضى خمس سنوات لينحت تمثالا يمنح الأمل والشفاء لنساء أجهضن في السابق ويشعرن بالندم والحزن لما فعلن، قلت في داخلي: ما جدوى ذلك؟ لم لا يعتني الأب والأخ بأخته كي لا يدفعها رغما عنها إلى البحث عن بديل يملأ ذلك المكان الشاغر...) الرواية ص 20.
كما تلعب تقنية التداعي دورا مهما في تقديم الحدث السردي مما يجعل الكاتبة تستغرق زمنا حكائيا معينا قبل الوصول إلى ما تريد ن تقوله فعلا من روايتها؛ وهذا ما يشد القارئ إلى محاولة الإلمام بشتى المظاهر المصورة حتى لا يبتعد عن القصد الذي تنشده الكاتبة من جهة أو ينفصل عن الرواية من جهة ثانية، ولعل هذا يتفق نسبيا مع رأي (ريتشارد مادلي) القائل بأن الاضطرابات الأخرى (يقصد اضطرابات العالم) تعني أن لديك الحق في شدّ القارئ من عنقه.
على هذا تعمد الكاتبة إلى مخاطبة القارئ أحيانا بطريقة مباشرة (يجب أن أعترف أننا قدمنا من مدينة سطيف في السبعينات لكننا لم نحضر معنا عين الفوارة لسبب بسيط أنها لم تكن تعني لنا الكثير، ويجب أن أعترف أن لأمي وشم على جبينها، أمي ذات الجسم الضخم كالروس الذين ملؤوا المدينة في الماضي، طويلة القامة...) الرواية ص 17، 18. وهو لفت انتباه مميز يبين أن الكتابة بالنسبة إليها حالة حوارية تتطلب وجود محاور إيجابي وفاعل لا تنتهي معه الحكاية المسرودة عند نقطة معينة، بل تمتد لتترك الأثر المنشود في ذهنه بعد فعل القراءة، على اعتبار المشاركة الفعلية في القصة التي جعلته الكاتبة يتلاحم معها بكل وعيه وإحساسه، خاصة وأنها تجمع بين السياسي والاجتماعي من خلال تشبيه المرأة المذعنة المغلوبة على أمرها في الرواية بالشعوب العربية المذعنة إذعانا سلبيا لحكامها وتجار السياسة فيها ( لذا ترضى ليكون هناك سلام في البيت، كالسلام الوهمي الذي توحي به الحكومات لشعوبها، فهي تنقاد ليس اقتناعا ولكن كي تبلغ بر الأمان، فالشعوب العربية رضخت لأجل السلام، بل وحرّفت كل نواميس الكون لأجل السلام، حتى الغرب أوهموها بأن هذه الكلمة هي مبتغى الإنسان، فجعلوا للسلام جائزة عالمية؛ نوبل؛ التي قال عنها المسرحي الإرلندي جورج برناردشو: أنّ جائزة نوبل تشبه طوق النجاة الذي يتم إلقاؤه إلى أحد الأشخاص بعد أن يكون هذا الأخير قد وصل إلى الشاطئ؛ مثلما أوهم أبي أمي بأنها حصلت على ما أرادت لأنها تحزّبت معه ولم تطالب بحقي ولا بحقها ) الرواية ص 08.
تتطور الرواية تطورا متناميا من خلال تكثيف اللغة الفنية التي تميل إلى مزيد من الرصانة والعمق كلما توغلت في القراءة، وتستخدم الكاتبة الجمل التفسيرية لعرض المواقف الداخلية للأحداث أو للشخصيات، وهي مواقف تحتكم إلى الروية والعمق اللذين تستعين الكاتبة عليهما باستخدام تقنية الاقتباس والمثاقفة الفكرية (كتوظيف الأشعار أو الأحداث الإنسانية المختلفة أو المعلومات العلمية أو العامة) وهي جميعا عوامل فنية تجذب القارئ وتجعله يتعمق في تحليل الدلالات البعيدة للشخصيات والحدث الروائي (كان الرجل بالنسبة إليهن كشخصية بوغنجة التي رسمها خيالهن فصدّقنها؛ شخصية أسطورية تريدها المرأة وإن علمت أنها غير حقيقية، تريد أن تعيشها بل وتعشقها فيما بعد لشدة إيمانها بها، في بعض الحضارات يكاد الاسم يشبه اسم إله الأمطار والرياح Ganga. فلم تكن بالنسبة لي هذه الشخصية إلا وهما يجلب رياحا عاتية تقضي علينا بدلا من أن تحيينا، في حين بالنسبة إلى باقي النسوة هنا في هذا المجلس وفي كل المجالس فهو بوغنجة الآخر، لا يهم إن كان إلها أو دمية خشبية مزينة بالأقمشة بجانبها ملعقة كبيرة ترمز إلى الوفرة والخير.. يحملها الأطفال معية العجائز، ويجوبون بها أزقة القرية أو المدينة راجين من المولى هطول الأمطار في أقرب وقت، هذا التمثال الخشبي يغنى له: بوغنجة دار العقاش يا ربي قوي الرشراش... الجلبانة عطشانة واسقيها يا مولانا.. والفول نور واصفار واسقيه يا بولنوار... بوغنجة عرى راسو يا ربي شمخ راسو.. هادي سبولة عطشانة وسقيها يا مولانا.. هذي سبولة في لكفان حن اعليها يا رحمان) الرواية ص 33.
كما تتحكم الكاتبة في إدارة الحوار بين الشخصيات إذ تجعله ينتهي عند المعنى الذي تريد أن توصله إلى القارئ أو تريد أن تلمح إليه، ثم تضعه قاصدة في دائرة المسكوت عنه قبل أن تعود إلى عرض آثاره العينية المباشرة منتصرة لرؤيتها الموزعة بين حركة الشخصية الرئيسة والشخصيات المساعدة، وهي تحاول طيلة زمن الرواية أن تتعمق في نفسية المرأة الجزائرية متدرجة عبر سلسلة عمرية لا تعزل فيها فئة من النساء أو تهملها، فهي تحلل نفسية الأم الجزائرية العادية وتحلل نفسية المرأة العاملة والمرأة المثقفة الواعية أو الساذجة البسيطة أو حتى الماكرة المحتالة، لتناقش في الوقت نفسه آثار الظلم الاجتماعي الذي تعانيه المرأة من خلال تسلط العقلية الذكورية على الأسرة والمجتمع الجزائري بطريقة أفقدته توازنه الإنساني، حيث تحول بفعل الممارسات الذكورية العنيفة والتسلط الأعمى على حقوق المرأة وإنسانيتها إلى مجتمع يفتقر إلى التوازن النفسي أو الحب الإنساني الذي تمثله الأسرة الجزائرية العادية التي تنتمي الشخصية البطلة إلى إحداها (ولكننا لم نكن نتفق على هذه النقطة أبدا، فلم يكن حديثنا يقترب من ذلك إلا وثارت وهي ترمي بشعرها إلى الوراء قائلة: - انظري هذه آخر بصمات أخي. وتعيد تصفيف شعرها لتخفي تلك الآثار الزرقاء...) الرواية ص 44.
غير أن الكاتبة لا تتوقف عند حدود التعبير عن الفقر العاطفي للمرأة الجزائرية داخل أسرتها بل تعرض إلى مناقشة الآثار الجسيمة التي تسفر عن هذا الاهتزاز والذي يؤثر بشكل سلبي على حياة المرأة مهما بلغت من النجاح المهني أو المادي؛ وذلك أن الشخصية البطلة تخفق بسبب علاقتها الأسرية المتأزمة في الحفاظ على علاقاتها الإنسانية والعاطفية، إذ يصبح الرجل مجرد حالة تثير الشك والنفور مهما تغيرت ملامحه الفكرية أو ممارساته الاجتماعية ومبادراته الإيجابية، وهي حالة الشخصية البطلة التي تضيّع حبيبا متكاملا بسبب علاقاتها المأزومة بأخيها وبوالدها مما يولد بداخلها شعورا باليأس يستمر أثره بقية حياتها (ينزلق الزمن تحت أقدامنا إلى أن يختفي وتختفي الحياة المفعمة بالحب والبهجة... تحسنين الإصغاء دون أن تتغير ملوحتك... تذكرت كيف أنني أحببت فكره... ماذا لو كان أخي أخ وأبي أب، لماذا كان ذلك مستحيلا؟ لم يكن الترعرع في هكذا وسط ليجعل لي جفنين أغمضهما. ككل الأسماك فأنا السمكة الذهبية البيتوتية أبقيهما مفتوحتين ) الرواية ص 108، 112.
كما أن العلاقات السلبية التي تتخبط فيها الشخصيات الأنثوية المصاحبة لها تنبع جميعا من افتقاد العدالة الأسرية التي تعلي من شأن الذكر وتحط من قيمة الأنثى لتجعل منها مشروعا للفرار والنفاذ بجلدها عند أول فرصة تلوح لها فيها بادرة الحرية (زواج – عمل...)، غير أن تلك الحرية نفسها تتحول إلى قهر جديد وعبء أكبر لأنها ليست حرية شاملة ولا مؤسسة على فلسفة اجتماعية واضحة بقدر ما هي حالة خبط عشواء في مسار الحياة القاتمة التي تضيق بأحلام النساء في المجتمع الجزائري وتهينها (كثير من النساء عشن دون أولاد، ليست نهاية العالم، أو لماذا هذا الوغد لم يفكر في تركها في البيت والزواج بأخرى على أمل أن تتفقان وتساعدها في تربية أولادها، إن سارة اجتماعية جدا وتعاشر المرء كيفما كان... والدتها مريضة وأخوها يزداد ضراوة، رجوعها يضايقه ويضايق زوجته...) الرواية ص 122.
تحمل رواية (بصمات) بهذا الطرح الواعي حشدا مكثفا من الاستنكار الصريح لطبيعة العلاقات الأسرية المعقدة التي تفتقر إلى التفهم والحوار، ولهذا فهي رواية جادة بامتياز لاسيما أنها تتطرق للشقاء الذي يصاحب حياة المرأة ويهين إنسانيتها، في محاولة لمناقشة القيم السلبية التي يقوم عليها البناء الاجتماعي الجزائري من جهة ولفت الانتباه إلى الآثار التي يمكن أن ينتهي إليها مسار الفرد المهمّش في مجتمع مهزوز ومضطرب الوعي والثقافة ومشتت الأداء من جهة ثانية.