يُطل صاحب في "شرعية الاختلاف" أو "مفكك ابن خلدون" كما يشاع في دوائر النخبة، بتأليف غاية في التعقيد، مُنحل من كل التصنيفات الإبداعية، فلا هو بسيرة ذاتية، ولا هو برحلة، ولا هو بسرد درامي محض، يستقرأ من خلاله شظايا ذاكرة تاريخية سادرة نحو النسيان، وواقع أصلد يعتصر ألما على زمان هادر، عابرا بسرديته نحو فضاءات وأمكنة متغايرة، تنتحب فيها ذاكرة الماضي، ويتداخل فيها الميتولوجي بالتاريخي، الرمزي بالواقعي، المتخيل بالمعاش، في سرد إبداعي جميل، يمزج بين أسلوب الجملة المقتضبة، ويُكسر بنية السرد بين ضمير يتكلم وسارد مُفترض، بين سلاسة تُضمر عمقا مكنونا في خبايا لغة مُذوَّتة تنطق بلسان الجماعة، علَّها تجد تشفيعا لذاكرة الأحفاد بعد مذلة الأجداد.(ص 79).
نافدة "مرايا الذاكرة" للمفكر المغربي علي أومليل، الصادرة عن منشورات المركز الثقافي العربي، سنة 2016م، أشبه بمتحف في ذاكرة الجسد العربي والاسلامي، تستغور رحلة الإنسان في الزمان والمجال، تكتب عن الآل والمآل، عن أمة تملَّكت ناصية الزمان، وصارت في مداره ومركزه، قبل أن تطرد منه، وتعيش على هامشه، حينما دارت عليها دوائر التاريخ ( ص66)، وانكفأت محاصرة في جغرافيا تصدها من الشمال والغرب، ومن الجنوب في الصحراء، قبل أن تحاصر شرقا من طرف غزاة عثمانيين( ص112 )، فهل هي لعنة الجغرافيا؟ التي جعلته كما يقول المثَل الأمازيغي "كقنفُذ انكفأ عليه غربال، يرى النور من الخارج يتسرب من ثقوب الغربال ولا يجد طريقا للخروج".
لكل أمة روايتها للزمان، الحدث الذي دشن تاريخ بدايتها، الأسلاف القدوة، الأحداث الحاسمة، وما الرواية التاريخية سوى انتقاء لأحداث دون أخرى، اختزال لوجود معقد، وتبسيط يحمل فهما (ص 28)، والمؤرخ لا يدرس كل الماضي، بل ما يعرفه عن الماضي، يروي ما رواه المؤرخون، أما ما لم يُدونه أحد، أو من لم يبق منه أثر على الأرض، فلا نعلم منه شيئا، والرواية تركيب شريط الأحداث، يسلسلها، ليربط لاحقا بسابق. التاريخ ذاكرة تصارع النسيان، وتركيب يُسقط من روايته، ما لم يترك الزمن له أثر على الأرض في الكتب. ( ص111 ).
مدينة سبتة " متحف متخيل للذاكرة"، زمان الذاكرة سيمتد ما امتدت قراءة مضان التاريخ، وتحقق الوعي بالذات، بالوجود والكينونة، في لحظة تحول صعب، بتغير يسير بإيقاع مريب، يموج بمخاضات حبلى، في عالم التقنية، في حركة المال، في الموضة والرفاه، في الانتاج الثقافي... لا سبيل إلى تهدئة ايقاع زمن متسارع، لا يترك فرصة حتى لالتقاط الأنفاس، ولنعيم بلحظة للخلود. ( ص 69).
ابتكر الغرب المتاحف وعلم التّحافة، حين تغير وعيه بالزمان، فأصبح مركزا للتاريخ، وأضحى المستقبل وليس الماضي هو الجاذب لوعي الغرب بالزمان ، أنشأ الغرب متاحف لثقافات الشعوب الأخرى، ليتفرج عليها بعد أن أخرج هذه الشعوب من مدار الزمان المتحرك نحو المستقبل، وأنشأ متاحفا لماضيه ليرى نفسه رأي العيان كم تقدم حاضره عن ماضيه.
صَوَّب ثُوار ثورة 1830م طلقاتهم صوب الساعات الكبرى، وكأنهم بذاك يُحطمون زمان السلطة الدينية والسياسية الرسمي، وأرادوا أن يفرضوا ايقاع زمن الثورة، وتحطيم زمان السلطة، لأن من يحكم يفرض توقيته للزمان. تحطيم الساعات العمومية إرادة فك الارتباط زمان المجتمع والسياسة بزمان السلطة القائمة، وقطع لصلة بين زمان السياسة الانساني المتغير، وزمان السماء الأبدي ( ص 70).
الزمان السياسي زمان متحرك ومتغير، بينما الزمان العربي طال ركوده، ثم تحول بسرعة فائقة إلى أيام الربيع العربي وعمر الربيع قصير في بلاد العرب، تواجه زمننان: زمان الشباب العربي، وزمان الملوحين بالأعلام السوداء يغلقون المستقبل ويخنقون الحياة، فهل من سبيل إلى تغيير تجاه القاطرة، لتمضي على سكة زمان العقل والحياة؟ أم أن زمان الرايات السود سيبتلع الجميع، كما تُبتلع الثقوب السوداء في الكون كل ما يقترب منها ليغور في ظلام لانهائي. (ص71-70).
يعيش الرفاق اليساريون علمانيين في الحياة، ويموتون بطقوس اسلامية ، انصرفوا بعدما يئسوا من الثورة إلى شؤونهم الخاصة، الإعداد لثورة بقيت رهن الأماني، والعمر يمضي، والرؤوس تشتعل شيبا، ولا ثورة شعبية في الأفق، أرادوا ادخال الدين في المتحف، فخرج لهم من صناديق الاقتراع، ومن ساحات القتل والتدمير والأحزمة الناسفة (ص 109).
من يوقف هذا الانحدار؟ سؤال يسكن أروقة مرايا الذاكرة.
الإنسان كائن وحيد يدفن موتاه، كائن اخترع المقبرة، الإنسان يدفن الإنسان، حتى لا يرى نفسه يتفسخ في العراء، في بيئة أنبتت الأولياء، كما تنبث الأرض البَقُّول، فهذا واحد من علماء وأولياء بلاد سوس" محمد لحبيب" حرَّم على نفسه أرضا داستها أقدام الكفار، فهل هو انتحار؟ أم انسحاب هادئ من مدار الحياة؟ (ص 39).
ما أروع حنان الحمام الطوبي على إخوته، البنادق تضرب السرب، والسرب يستمر يحوم في صمت واصرار، فوق رفيقته الساقطة على الأرض، إلى أن ينفذ الرصاص، أو ينفد الحمام الطوبي، ها هو جيلك يتساقط ؟ يقتنصه الموت الواحد تلو الاخر، كالحمام الطوبي، اشتعلت الرؤوس شيبا، وتقلت الحركة، واتزنت العبارة، واشتغل الأصحاب بمشاكل الجسم العليل شاخ جيل الأصحاب، ها هم يختفون الواحد بعد الآخر (ص 45).
الميت لا زمان له، خرج من زمان الأحياء، ليدخل الزمان الطبيعي" زمان التفسخ" (ص 53).
مدينة أزمور، مدينة الأهوال، غزاها البرتقيز، وحولوا عُمرانها إلى مدينة يسكنها البُوم، لجأ المغاربة في لحظة انكسار إلى الأولياء، ليصنعوا لهم الخوارق، ويسخروا الجن ليحارب معهم الغزاة، في وقت تجوب فيه سفن الكرافيلا العالم الجديد، ويُدون رأس البقرة "la Cabessa de Baca" ، مذكرات عن رحلة العالم الجديد، عن مأساة الهنود، عن واقع التنكيل والقتل، عن اغتصاب الأرض الخصبة وعبودية الأفراد.( ص 58).
وأنت يا مصطفى أو "Estéban" لم تكتب شيئا، لم تذكر للناس أنك أول افريقي وطأت قدمك العالم الجديد، ما زال زنوج أمريكا يحتفلون بذكراك يا "مصطفى" وأقاموا لذلك تمثالا، وصنعوا لذلك دمية مباركة، وفي بلدك أصبح لأزمور مهرجان يحتفى بك. ( ص 58).
ألم يكن وراء اكتشاف العالم الجديد أسطورة، قالها كتاب مقدس " جنة عَدْن توجد في شرق الأرض"، أوصلت بئيسا يدعى " كولومب" إلى جزر الباهاماس، وإلى مخازن الذهب، أنفقته اسبانيا في البذخ، وتزيين الكنائس والقصور، ولم تستثمره في نهضة اقتصادية، فهي التي لم تعرف حركة اصلاح ديني، ولا فكر سياسي حديث، ولا تقدم علمي وتكنولوجي، ولا طبقة بورجوازية حديثة ، ولم تدخل الحداثة الديموقراطية إلا بعد سقوط ديكتاتورية فرانكو. (ص61).
الجغرافيا علم من أجل الحرب، علم العرب والمسلمين في خدمة سادة العالم الجدد، استفاد منه كرستوف كولومب، بحثا عن "مدينة الذهب الأسطورية سيبولا"، ورغبة في تأسيس "القدس الجديدة" في ربوع العالم الجديد، على خطيئة الغصب والإبادة والاستعباد ، في لحظة موسومة بالقمع الديني، فكولومبس حمل معه عدد من السكان الأصليين، وعرضهم للفرجة في البلاط الملكي، وجلب معه الطائر الذي يحاكي الكلام " الببغاء" وكذلك جلب التبغ هناك، وهو الذي حينما دخل التبغ إلى المغرب، تجادل الفقهاء حوله، حَلَّله فقيه مغربي تائر ضد الدولة، وحَرَّمه شيخ مصري. (ص 67-65).
مضى الزمان الذي كانت فيه هذه الأرض، تنبت الأولياء كما ينبت الصبار حول أضرحتهم ، زمن الذي كان فيه الولي الصالح "سيدي بوغابة" صائما عن الكلام صيام الدهر، متقفيا لحركة الطيور المهاجرة، والشيخ ابن عاشر الشيخ الأندلسي، يمارس تصوفه الباطني، ويستعدي فقهاء الدولة. (ص 46).
الكون يحركه العشق والشوق، كل موجود اشتاق إلى اكتماله بالشوق والرغبة، الكون كائنات تتبادل العشق، عاشقة ومعشوقة، لا شيء سوى العشق والشوق، يتحد العاشق والمعشوق فتنتفي المسافة والعبارة (ص 57).
يعقوب المنصور الموحدي مات، وهو نادم على شيئين: على استقدام أعراب بني هلال، لأنهم عاثوا في الأرض فسادا، وعلى بناء مدينة الرباط، لأنها بقيت صعيدا لم تعمر، أحجار من غير سكان (ص 74)، لم تصبح الرباط مدينة إلا بعد أن هاجر إليها المورسكيون " شعب غريب بين غُربتين"، عاش حياة مزدوجة، فهو في الشارع اسباني مسيحي، وفي عقر داره مسلم. تشبت بالإسلام حتى الموت، خاض صراعات وهو قيد الأسْر داخل السجون مع الكاتوليك الاسبان، يموت المورسكي فيكفنه أهله، ويصلون عليه سرا في البيت قبل الذهاب به إلى الكنيسة، وإلى المقبرة الاسبانية المسيحية (ص 76).
إلى أغمات، رحلة لزيارة شاعرها الأندلسي" المعتمد بن عباد"، وزوجته العاشقة للشعر، "اعتماد الرمكية"، في لحظة تصادم بين الشعر والسياسة، عليك يا ابن الخطيب وأنت تنافح عن صديقك في الشعر، أن تختار بين ملك صحراوي" يوسف ين تاشفين" بعيد عن الحضارة، يصد زحفا اسبانيا، أو حضارة أندلسية أنيقة، منخورة في اللهو، سادرة نحو الانهيار؟.
التصوف لذَّة لذات اللذة، عشق موضوعه ذاته، عشق عاشق لا يرى معشوقه، الغائب دوما عن العيان، نعش ابن رشد يُشيع الفلسفة في بلاد الاسلام ، مؤلفاته لا تساوي سوى جثة ميت، فمشى تصوف الخرافات على جثة الفلسفة. كيف اجتمع النقيضان في شخص ابن رشد، الفقه والفلسفة؟ ابن رشد الشارح الأكبر لأرسطو كما سماه اللاتين (ص 80- 82)
وماذا عن لقائه بعرّاب التصوف الباطني " محي الدين ابن عربي"؟ ألم يقل يوما الفيلسوف الأندلسي ابن باجه "لو شاع التصوف لنتج عنه خراب العمران، لأن المتصوف انسان غير نافع وغير منتج، عاطل بإرادته يعيش على كسب الآخرين، ويحض على العطالة والبطالة ، وها هي فلسفة دار الإسلام تُشيع إلى مثواها الأخير، ألم يقل كذلك جلال الدين الرومي لمريديه " دوروا دوران الكواكب في أفلاكها السرمدية، دوروا كالأفلاك في دوائر تامة لا بداية ولا نهاية، دوروا حتى نسيان الموت والنهاية، دوروا حتى تولج الحياة في الموت، ويولج الموت في الحياة، فلا بداية ولا نهاية" (ص 84).
ترى في ماذا يفكرون؟ في لا شيء" قالها سارتر وهو يناجي صاحبته سيمون في ذات لقاء بتطوان، لقد قال الفلاسفة إن الانسان هو الحيوان الوحيد الذي يعرف أنه سيموت، وعصر الصبا يبدو وكأنه من غابر العصور، كما الربيع في هذه البلاد عمره قصير (ص 90 ).
أو لم تدري يا ستيف جوبز أنك أبدعت ابتكارات في العالم الافتراضي، ستفجر من ورائها ثورات، ستصل حتى إلى بلاد أجدادك "سوريا"، وأنت الذي عشت في المهجر، منفصلا عن محضنك، وتنطعت عن أصلك (ص 92).
الموضة نتاج الزمان الغربي، الموضة ابتكارات تلهت وراء زمان يسارع فيه تغير الأذواق، بدوره زمان الميديا متسارع متغير، يجر الجميع في ركابه، أصبحت الميديا معيار القيمة الثقافية وخالقتها. خَلقت وسائل الاتصال عند غيرنا مجتمع المعرفة، ويستعملها الأصوليين عندنا لتجييش جماعات الجهل والقتل (ص 96).
بين الفقيه والفيلسوف بوْن شاسع، كل واحد يتعامل مع الحياة والموت على طريقته، الفقيه يضع الحياة في خدمة الموت، وفيلسوف اللذة يواجه الموت ويتحداه، غايته الإقبال على الحياة، لماذا لم تنشأ عندنا فلسفة اللذة؟ بجواب بسيط، لأن الدنيوي لم يستقل عن الديني؟ بينما أدباؤنا وشعراؤنا أبدعوا في أدب اللذة، وكتبوا عنه.
شبح المجاعات يخيم على الصينين، استيقظت الصين، انتفضت كحيوان اسطوري، أو لم تتناسخ الكونفشيوسية مع الماوية؟ وتحدث ترابطا بين قداسة السلطة وقداسة المعرفة. دخلت الصين عصر العولمة، ولم يتزحزح الحزب الشيوعي عن مكانه، قائد البشر والدولة (ص 105).
حتى المقابر في مملكة الأولياء طبقية، تشهد عن تمايز مجتمعي، للشهداء مقابر، وللآخرين مقابر، وماذا عن قبر ابن خلدون وابن رشد، هل يعرف مكانهما، لماذا نحقد على علمائنا؟
الحركة الوطنية بمغرب الحماية بمثابة محامي، تقف بين وافد جديد وشعب مقهور، التاريخ في خدمة الحركة الوطنية، يقال أن المقاومة لا تحتاج إلى مثقفين بل شجعان، عارض الخطابي الاستقلال، الاستقلال عنده يمر من فوهة بندقية (ص 118 ).
البدوي نقيض الدولة، ليس هناك مثال صارخ لاستبداد نشأ من فراغ، وعمَّم الفراغ، وحينما سقط كان البديل صعود البنيات القبلية وظهور الجماعات الدينية بلاد صوت افريقيا الحرة "لبيبا" (ص 146).
"آن الاوان لأحزم حقائبي" قالها سارتر وهي يسرُّ لصاحبته ما حدث له من استهجان في ثورة شباب فرنسا 1968، هل يقدر على جمع شتات الذات من قضى عمره والرأس مملوءة بأفكار شتات؟ ومتى بدأ كشف الحساب؟ هل حين يبدأ العمر في الانحدار؟ أم حين تأتي لحظة يتراخى فيها حبل المعنى؟ (ص 153).
الهوة أكثر اتساعا بين ما في الفكر وبين ما عليه الواقع، الدعوة إلى تبني الفلسفة، لتجاوز واقع أصلد، نحتفل بأعياد الميلاد، هل هو احتفاء صاخب بعام جديد؟ أم إمساك يائس برمق الحياة؟ فحين يتعلم الإنسان فن الحياة، يكون الآوان قد فات، كما صدح بذلك شاعر فرنسي (ص 165).
الشيخوخة تذكار، كن عاقلا يا كوكبنا الأرض، والزم مسارك المعلوم، وحذار من أن يستبد بك الطيش (ص 25).
والحاصل، يدخل هذا التأليف، ضمن حلقة التراكم المعرفي الذي أنشأه علي أومليل من خلال عدة مباحث، نلتقي بأصداء منها ضمن كتبه" ابن خلدون، الإصلاحية ومسألة الدولة ،و"المورسكيون: سلطة الثقافة وسلطة السلطان"، و"رحلة الأفكار". ويقف قارئ هذا النص " مرايا الذاكرة" عند انهجاس السارد بالذات والهوية والزمان، زمان الذاكرة، وانجراحاتها في الوجود، من خلال رغبتها في تقاسم البوح مع القراء، في الحديث عن قضايا تاريخية هادئة وصاخبة، وحمايتها من لعبة النسيان.
"مرايا الذاكرة" استعادة حية لمسار تجربة ذاتية، تستنطق الحاضر عبر مرآة الزمان، تسترجع شذرات من تجربة مسافة التفكير في مآلات الجماعات والأمكنة والأزمنة، بما فيها انخراط زمان الإنسان داخل زمان الطبيعة، وتكتب عن تعارض الأزمنة، بين زمان المجتمعات التقليدية، وزمان المجتمعات المتطورة.
مولاي عبد الحكيم الزاوي : أستاذ باحث من مراكش