توطئة : ما الكتابة الشعرية وكيف نكتب الشعر ؟؟
الكتابة الشعرية ،هي الفسحة التي ينزوي في ركنها الشاعر متسلحا بشطحات الخيال ،ورحابة التأمل ،وتنوع الثقافة ،بالإضافة إلى الموهبة ،ليتفحص عناصر الكون عنصرا عنصرا بمزيج من الذاتي والغيري والعابر والظرفي والتاريخي والحلمي ، قاطعا كل مسافة بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي في توحد تام ،ليعبّر عما يتختر في قلبه من ألم وجراح ،خلفتها ضربات السهام المقبلة من المحيط ،وبالتالي إعادة ترتيب فوضى الأشياء المتنافرة في وضع لائق وجميل ،موغلا في مناطق المجهول بحثا عن النور ،عما يضيء السراديب المعتمة والأنفاق الغامقة ... الكتابة الشعرية إذا ،هي محاولة إدراك الأسرار المبهمة للحياة والكون لفك أزرارها ... هي أولا وأخيرا محاولة الإجابة عن سؤال أو أسئلة عالقة ..
1ــ ماهو الشعر إذا؟؟
الشعر من أرسخ وأقدم أشكال التعبير الفنية التي عرفها الإنسان ،وهو جنس أدبي مشترك بين جميع الشعوب والأمم، يتميز بمخاطبة الجانب الوجداني والتخييلي والرمزي في الإنسان ،بالتعبير عن المواقف ،والصور والمشاعر ،تعجز اللغة العادية عن القيام به أو التعبير عنه ،الشعر يعكس معاناة الإنسان ،وقلقه إزاء الغموض والغرابة اللذين يكتنفان مظاهر الحياة ،وأسرارها وآفاقها ،الشعر يجسد أسمى وأرقى القيم التي يكافح من أجلها الإنسان لتحقيقها ، كالحرية والحب والحق والخير والتسامح ،والاحتواء وقبول الاختلاف ،والرأي والرأي الآخر،كما يحقق متعة فنية ولذة جمالية تسُر القلوب ، وتنعش الروح .
وبالنسبة لي الشعر هو فرديتي وشخصيتي ،وإنسانيتي ،وأرى في القصيدة الشعرية مملكتي بحراسها وجنودها وعسسها ، أتربع على عرشها لأمارس طقوسي كلما تمردَ علي المساء ،دون أن أحاور وزرائي ،ولا أن أمتثل لرأي مستشاريّ ..الشعر لحظة تأملية في صمت، انطلاقا من وجداني، ومشاعري ، وجهازي العصبي لمكنون الحياة، بحثا عن شيء جميل ، لأستريح عندما أنزل ذاك الثقل الجاثم من على صدري في قالب شعري اسمه القصيد.. فالشعر عملية خلق وبناء الصورة، أو الرؤيا ، وإنتاج الرمز والدلالة، بأسلوب جمالي إيقاعي ورؤيوي ، بإعادة تركيب اللغة البسيطة العادية ،إلى لغة تهتز بين الدوال والمداليل والترميز والانزياح، للقبض في غور المستحيل عن جواب لسؤال منفلت وهارب ،لتحقيق المأمول، لرتق شقوق الروح ،ورأب الأثلام ..فالشعر إذا صرخة كبرى في وجه المواجع التي تؤلم الإنسان ،ضد الشر ،ضد البؤس ،ضد كل الأشكال القبيحة التي تهدده ،ولا ولن تخرس صوته دبابة ولارصاصة ،ولامقصلة ،وحتى أوضح أكثر :
ــ الشعر متعة المبدع والمتلقي معا فهو الخيط والإبرة في نفس الوقت للجمع بينهما بالتجدد والتمدد والاكتمال ..
ــ الشعر حركة تكسر الجمود ،فتحول الكون بكل عناصره وحيثياته إلى مشهد درامي ممتع ..
ــ الشعر ومضة من النور تلامس العمق في صمت ..
ــ الشعر ملاذ فاتن يفر إليه الشاعر من محارق الواقع ، وأعطابه المستفحلة ..
ــ الشعر هو ذاك النبض الذي يأتي كالسهم إلى قلب الشاعر من محيطه، من الأشياء ،من الناس ..
الشعر الحداثي بين القبول والرفض
لقد جاءت الحداثة رافضة المباشرة والتنغيم اللفظي والقرائن التقليدية ،معناه على الشاعر أن يعيد تأمله من جديد ،بإعادة النظر في كل خصائص الشعر :بناء وتركيبا وأسلوبا ،شكلا ومضمونا ،فكان الغموض والإبهام والاضطراب، من أبرز مميزات الشعر الحداثي المهيمنة ؛ حيث خلخلت قصيدة النثر أو القصيدة الحداثية النموذج التقليدي بكل مقاييسه، فقلبته رأسا على عقب ،وطبعا هذه الخلخة لم تأتِ عبثا ،أو من فراغ ،فهي حصيلة تحولات كبرى زمانية ومكانية ومجتمعية وثقافية ، وتطورات عرفتها المراحل السابقة كقواعد اساسية بنيت على أنقاضها، حيث تخلى الشعر عن وظيفته السابقة الإعلامية والثقافية والسياسية ،بما فيها من مدح أو هجاء أو رثاء أو إخبار أو تفاخر ،يعتمد كليا على الصنعة والتكلف ،بغية الإرضاء ،أو الحصول على أجر ، أو للرفع من الشأن ،أو الإطاحة به ؛ وغيرها من الأغراض التي كانت تُعد العمود الفقري..بينما الشعر اليوم نحا منحى آخر ،واتخذ وِجهة أخرى ،وهي مخاطبة الوجدان الإنساني ،وخلخلة دواخله بشكل عفوي مختلف ،وبلغة في حلة أخرى غير متداولة ؛ ترفرف بأجنحة غير مألوفة ، تعيد التجدد والحيوية والحركية عبر مساحات الخيال ،للتوغل في مناطق غير مأهولة. وإعادة التشكيل للمألوف والمعتاد منها بمنطق آخر يضرب موازين الدهشة ،تصبح معه القصيدة الحداثية ثرة ، تفسح مجالها للقراء بأكثر من دلالة ،وبأكثر من موقف ،وبأكثر من تفسيرات آنية ومُستقبلية عن طريق التوالد والتأويل، مما يثريها ويجعلها تتجدد وتحيا ....
الشعرالحداثي والمتلقي
لم يعد الشعر الحداثي ملكا للمبدع وحده ،بل أصبح له شريك في هذا الإبداع ،وهو المتلقي الذي أصبح له دور في إعادة بناء القصيدة من جديد عن طريق التأمل والتداول والمقارنة والتحليل والتركيب ،والارتقاء إلى مستوى الجمال والتخييل والترميز والكشف ،وسبر الغور ،لملامسة الدلالة الخفية والعميقة ،بقراءة مابين السطور وملء الفراغات ،فتصبح للقصيدة الواحدة عدة قراءات من منظور كل قارئ ،كل قراءة لاتشبه الأخرى، لأن كل متلق يقوم بإعادة إنتاج دلالات جديدة للنص من زاويته الخاصة ،وطقوسه المستفرَدة ؛ وهذا لا يأتى للقصيدة لمجرد أنها حداثية وحسب؛ بل من اللغة الشاعرية التى يحرص عليها الشاعر كواحدة من تقنيات إبداعه، قبل أن تكون واحدة من عناصر الطرح الحداثى ذاته.وقبل أن تكون موضوعا للقراءة ..
والمشكل الحاصل أن هذه الحداثة لم تواكبها حداثة في الأذهان والعقول المتلقية بشكل واسع ،لأن الحداثة لم تطَل المجتمع وبنياته المؤسساتية الثقافية والسياسية ،وعليه فالشاعر يعيش وضعا محرجا ومقلقا في نفس الوقت ، حيرة جامحة يتأرجح على خيوطها، لم تمكنه من إيجاد جواب لسؤال ساخن يطرق بابه ،ماذا عليه أن يفعل ؟؟؟
ـــ أينزل عند الجمهور وفق مستواهم لتصل الرسالة ؟؟؟ ..لكن هي عودة إلى التحجر والركود ،والتخلف عن الركب الشعري الحضاري ...
ــ أيواكب الحداثة ويعلو مع السرب لملامسة آفاق الشعر الراقي ،قد تفصله عن الجمهور قمم شاهقة تجعل رسالته عقيمة لادور لها ، فأدت هذه المعضلة إلى العزوف عن قراءة الشعر الحداثي ،والحضور لأمسياته ، وعدم اقتناء دواوينه ،بل ورفضها كليا من قبل بعض المؤسسات التي تطبع بالمجان ،وهي ظاهرة منتشرة في العالم كله ،ويعود ذلك حسب اعتقادي:
ـــ إلى عدم تحقيق الشعر لتطلعات الجمهور ..
ــ تلون الشعر الحداثي باللبس والرمزية مما يعسر فهمه وبلوغ معناه ..
ــ نظرة الجمهور انطلاقا من موقف نفعي ،باعتبار الشعر ترفا ،ونخبويا لطائفة معينة ،لايحقق أي منفعة أو فائدة مادية ...
أراء بعض النقاد في الشعر الحداثي
لقد خلق الشعر الحداثي سجالا واسعا في صفوف بعض النقاد، باعتبار الحداثة والتراث لهما علاقة تاريخية جدلية، لايمكن الانكباب عن التراث القديم تجنبا للسقوط في التردي والضعف ،ولايمكن في نفس الوقت الارتكان إلى الحداثة بقطع الصلات مع التراث ،الشيء الذي يجعل القصيدة غريبة وبلا جذور،أو خارج التاريخ ..، وعليه فالحداثة كما يرى البعض هي تحولات حضارية ،أتت بها سيرورة تاريخية ،ضمن حركة تطور التاريخ والمجتمع ، تنبعث من داخل بنية اجتماعية حضارية ، تتعرض لتحديات وتحولات على كثير من المستويات ،مع الاعتراف بالتأثيرات الحضارية الخارجية بطبيعة الحال ،عبر التثاقف والثقافة المتبادلين بالتأثر والتأثير بين الشعوب والأمم ،إما بواسطة الترجمة أو عن طريق الاحتكاك ،والحداثة لاتعني التنصل كليا من التراث، فلا بد من خيط رفيع يربط بينهما ،فكم من الشعر التراثي ضرب أوجه الحداثة في أسمى تجلياتها،((شعر المتنبي مثلا )). ..وكم من قصيدة ظُنّ بها حداثية، لكن بينها وبين الحداثة قمم شاهقة لاتمس الحداثة في شيء .. إذا فالحداثة لاتعني تمثل الشعر الغربي والسير على منواله بقوالبه وخصائصه ،لأن الظروف الغربية بتربتها/ بمحيطها /بعناصرها ،ليست هي نفسها لدى الواقع العربي :معناه لابد من الاحتكاك وتبادل التأثر والتأثير ،لكن في قالب عربي، ومن تربة عربية ،وإلا يعد في خانة التقليد..كما لاتعني الحداثة التخلص من الوزن والقافية ،فكم من شعر قيس على هذا المنوال ، وضرب جذورالحداثة بامتياز ...
فريق آخر رأى قصيدة النثر شكلا شعريا حداثيا مستقلا عن الأشكال الشعرية الأخرى، ومنقطعا عنها تماما . فهي ليست مجرد تطور أو تجديد في الحركة الشعرية، بتعاقب الحقب الزمنية والعصور ، بل حدثٌ نزل بضربة مقص ،فتفجر بعصا سحرية كثورة جذرية على كل ما سبقها من الأشكال الشعرية ومفاهيمها.وقرائنها التقليدية ،وأسلوبها وحتى لغتها، كأرقى شكل من أشكال الكتابة ،تعتمد الرؤيا والصور الشعرية بترميزها وإيحائها تؤثث للمدلول بلغة مختلفة غير مألوفة ،بعيدة كل البعد عن الرؤية ،والصور العيانية التي نقبض على معناها الأوحد من أول قراءة ،بلغة مباشرة متداولة لدى الجميع .. فالقصيدة الحداثية حررت اللغة الشعرية من طقوسها الكلاسيكية القديمة ، لتنعم بشبابها فضخت دماء جديدة في المعجم الشعري، واخترقت الممنوع من الأماكن، ولامست المجهول من المناطق ..معناه أنه شعر منقطع النضير ..
ونخبة ثالثة ترى أن الشعر الحداثي نوع أدبي مهجن من عدة أجناس بالعديد من السمات والخصائص، كقواسم مشتركة بينه وبين الأنواع الأدبية الأخرى ..فهو يلتقط بعض الملامح من السرد من حيث الأسلوب والصياغة ،واهتزازات سمفونية من الموسيقى ،والحركات الدينامية من المسرح ،والصور بألوانها القزحية من الفن التشكيلي ،وعلى النقاد ألا يتحاشوا قصيدة النثر ،أو تغييبها باستحضار نظرية نقدية والاهتمام بمعاييرها أكثر من حاجيات النص ، على حد قول الدكتور حسن مخافي
((فاعتماد النقد العربي على المناهج والمفاهيم المتصلبة والمتخشبة جعله نقدا معياريا)).. فالآراء مختلفة ومتشعبة ، ولاتستقر على نهج نموذج يمكن الاقتداء به ...
على سبيل الختم
من خلال ماتقدم ،فقصيدة النثر سواء كامتداد للثرات بشكل متطور ،أو كثورة عليه بقطع الصلات معه ،أو كخليط من الأجناس الأدبية الأخرى ،فقد فرضت وجودها بخصائصها ،وقبضت على مكانتها بالعض على النواجذ ، واحتكمت خصوصياتها، وعلى التجارب النقدية أن تبذل ما في وسعها لإنشاء رؤية نقدية خلاقة ،ترتهن بالإبداع الفلسفي والكشف مطعما بالإبستمولوجي والسيميائي ،والنظرية الفكرية في مجال القيم والمعرفة والبحث عن أدوات علمية ناضجة ،لتبلور حركة نقدية مواكبة/ مضيئة للنصوص التجريبية الحداثية، وتقريبها من المتلقي بتوضيح سراديبها ،وإنارة المناطق الغامضة ..ومن الممكن استثمار القراءات العاشقة والانطباعية، والمتابعات للتنظير لقصيدة النثر ، وتحديد خصائصها الشكلية والدلالية بالاستناد على مرجعيات متنوعة ،لايهم إن كانت غربية لكن شريطة ألا تصبح هي الأسمى ،وألا تغيّب النصوص ...