إشكال كبير يمكن أن يطرح في هذا المحور ألا وهو لماذا اختار الجنس الروائي الحديث عن الآخر وجعله موضوعا للكتابة ، وحينما نتحدث عن الآخر هاهنا فنحن لا نقصد به الغريب الغربي وإنما أيضا الآخر في الجنس –ذكر في مقابل أنثى- ولماذا انصب اهتمام الكثير من المبدعين على موضوع الآخر.تفيد ماجدة حمود بقولها:"إن هذا الفن يستطيع عبر إمكانياته السردية والجمالية ،أن يفضح أوهام الذات وانحرافاتها الفكرية والشعورية.خصوصا حين تسجن الآخرين في انتماءات ضيقة (مذهبية أو عرقية إلخ...)مثلما يستطيع التغلغل إلى أعماق الروح الإنسانية، ليبرز قدرتها على تجاوز هذه الانتماءات ، والدخول إلى عوالم رحبة تحرر الإنسان من إكراهات تربى عليها "[1]
جاءت رواية صيف في ستوكهولم تحمل في طياتها حوارا مع الآخر.انفتاحا على تقافته وتقاليده وعاداته.بالرغم من أن كاتب الرواية مغربي الأصل والنشأة إلا أن بطل الرواية وساردها إيطالي الجنسية.فكان الخطيبي حذقا في محاولته لتبني أفكار وديانة الآخر الغربي لكن ألا يخلو هذا التقمص من نفحات شرقية عربية يظهرها لا شعور السارد؟هل فعلا نجح الخطيبي في إيهامنا بأن بطل روايته شخص غربي يمثل الآخر بالنسبة لنا ؟ أم أن نزعة الأنا العربية ظلت حاضرة تجابه الآخر الغربي؟ما الذي يحاول الخطيبي إيصاله من خلال هذا النص الذي اعتمد فيه على شخصية من وسط غربي لتروي أحداث روايته؟ كل هذا سنحاول اكتشافه من خلال الحوارات التي ضمها المتن المدروس.
تفيد ماجدة حمود دائما في هذا الخصوص على أن الاهتمام بالذات يخلف نوعا من التضخم وعدم قبول الآخر مما يترتب عنه من رفض وإقصاء فتدلي بما يلي "إن دراسة هذه الإشكالية ،تتيح لنا فهم خصوصية الأنا التي تتشوه حين تقوم على تعظيم الذات ،وتنطلق من نظرة واحدة إقصائية تحتقر كل ما يختلف معها.مثلما تتيح لنا فهم خصوصية الآخر المختلف الذي يبدو ديموقراطيا في حياته الخاصة وفي إبداعه الروائي .لكنه في ممارسته السياسية يقهر المختلف عنه، خاصة العربي والمسلم ويصبه في قالب واحد(الإرهاب ،الكسل ،القذارة ،اضطهاد المرأة...)[2] .
الخطيبي وكما سلف الذكر اختار لبطل روايته جنسية غربية إيطالية.بكل المقاييس سواء أتعلق الأمر باللغة أو الديانة أو النشأة.من خلال هذا النص أمكن التساؤل عن إمكانية أن الخطيبي قد تمكن من فهم هذا الآخر الغريب المختلف ؟وانطلاقا من ماذا تم له هذا الفهم؟ وعلى أي أساس بني هذا الفهم.نعود للقول بأنه لاشيء مستحيل من داخل الرواية.إذ بها تتحطم كل الحدود وتختزل كل الأعراف في عرف واحد .تختلف التسميات لكن القصد أوحد متفرد.قد يكون الخطيبي لا ينشئ لنفسه غربا متخيلا بعيدا كل البعد عن الغرب الواقعي.والديانة التي اختارها والتي اختزلت في المسيحية .قد تشي بشيء آخر خلافا لما تسمت به، وهكذا نكون أمام رموز تستدعي حلها.إلا أننا لن نبحر كثيرا في هذا الأمر.بل سنركز على الآخر من داخل الرواية.الآخر المخالف في لديانة وفي التفكير وكذا الجنس .
"جيرار نمر"هو الاسم الذي أطلقه الخطيبي على بطل روايته الذي لم يفصح عن نفسه إلا متأخرا وذلك بعد بضع صفحات"قدمت للجمركي جوازي بيد واستعدته بأخرى.نظر إلي لفضول.قد تكون مهنتي أثارت انتباهه .فأنا مترجم وأقوم بالترجمة الفورية .واسمي جيرار نمر "[3] "نحن الإيطاليون فنانوا فرجة"[4].
بالرغم من أن الخطيبي قد حدد جنسية بطل روايته وساردها أيضا، وجعله شخصية غربية إيطالية تؤمن بالتحرر والحرية الانفتاح وقبول الآخر.إلا أن النزعة الذاتية ظلت حاضرة ولو بشكل خفي.إذ لم يتخل عن اندهاشه بالآخر. فحتى الغربي يعتبر من ليس على جنسيته غريبا وآخر يسترعي الاهتمام.ويجعل هويته في موقع يستدعي رعايتها والحفاظ عليها خوفا من الاستلاب والانشداه.ونجد هذا الأمر عند العربي بصفة عامة والمغربي على وجه التخصيص إذ "بدأ سؤال الهوية يؤرق الإنسان العربي نتيجة احتكاكه بالآخر ،الذي سبقه حضاريا ،وبدأ يهدد وجوده،حين زحف إلى الشرق مستعمرا .إذ إن المرء لا يدرك أهمية هويته إلا في لحظة مأزومة، يواجه فيها المختلف.عندئذ يرتد إلى مكوناته الأصلية التي تمنحه الإحساس بوجوده "[5] وهكذا فقد ظلت تعليقات البطل تشي بالافتتان بالآخر وبمكانه فيورد مثلا "خرجت في عجلة وقد شملني الانبهار.ذلك أن الصيف هنا ليس صيفا"[6].وهكذا فالشخص عند ملاقاته للغير قد يصاب بالدهشة والانبهار مما يجعله مؤهلا للاستلاب والانسياق وراء الآخر أو رفضه والنفور منه.وهذا الأمر لا يمكن أن يتوفر لدى العربي دون غيره.بل هو مشترك إنساني فنحن نتشارك في هذه الأمور.بحيث إن "الإنسان الذي عرفناه بكونه يراوح الخطو بين الوعي واللاوعي، يمثل مقامي الشخص والغير.حيث إن كل واحد منا يتقمص هذين النعتين، وإن كان الأول يطلق على الجنس العام والثاني على كل ذات مقابلة للأنا.سواء أكانت قريبة أو بعيدة منها.وإلى جانب ذلك يمثل الحديث عن الشخص والغير امتدادا لحديث خاص عن الإنسان ،من خلال البحث فيما يحدد كل واحد منهما وكذا ما يمنحهما القيمة والاعتبار"[7].
تعد رواية صيف في ستوكهولم من بين كل تلك الروايات التي سهرت على تبني قضية الآخر من الناحية الفنية والإبداعية وذلك نظرا لأن"الرواية تعد من أكثر الفنون قدرة على تجسيد إشكالية الأنا والآخر .إذ تتيح الفرصة لصوت الأنا للتعبير عما يضطرم في الأعماق من مخاوف وآلام وأفكار.فتنطلق في نقد الذات والآخر معا"[8] وعليه فقد حاول الخطيبي أن يشركنا في انفتاحه على الآخر وتقبله سواء أتعلق الأمر باللغة أو الديانة أو المعتقد؛ فهذه الأمور هي التي تحدد تقبلنا للآخر أو رفضه.وقد انصبت دراسات عديدة في هذا الموضوع الفلسفية منها على وجه التحديد وحاولت البحث والتعمق أكثر من غيرها في محاولة منها لفهم العلاقة التي قد تربط الأنا بالآخر بحيث"لم يقف التفكير الفلسفي منذ بداياته عن الخوض في مشكلة العلاقة بين الأنا والآخر؛ذلك أن التجاور إلى جانب وجود اختلافات في اللغة والمعتقدات والثقافات ،قد بعث لدى الطرفين الرغبة في اختراق الآخر ،وهو أمر أسهم أحيانا في خلق تعايش جيد وإيجابي بينهما وفي أحيان أخرى باندلاع حروب وصراعات دامت سنينا طويلة.هكذا يمكن القول بأن التفكير في الآخر نابع من وجود معطى أساسي هو الاختلاف؛ فكل واحد منا يرى ذاته متميزا عن الآخر ؛لكن عدم فهم هذا التمايز قد يقود نحو نزعة مركزية تكون سببا في نشوء رغبة جامحة من أجل تدمير الآخر قبل أن يفكر في القيام بذلك"[9]فكان بذلك الخطيبي واعيا بهذين الحدين الذي كان الانفتاح سببا في نشوئهما فلخص لنا هذه النظرية في موقف واحد "توقف بالقرب مني باحث قمامات متوتر.ألقى بنظرة على حقيبتي ومظلتي الموضوعتين على المقعد .يبدو أن حاجياتي حظيت باهتمامه الكبير.هل خلط بيني وبين القمامة؟قمت بحركة مصطنعة كي أبعد عني اهتمامه الجشع، فكرمي لم يؤهلني إلى أن أمنح لغريب –ولو كان في محنة-ما أحمل من متاع زائد على جسدي العاري.كنت أول من أفقده الخوف شجاعته.كما كنت غير مسرور من نفسي .ندمت لأني وجهت نظرته الهائجة نحو مركز الفقر...لم انصعت لتلك الحركة المصطنعة الوقحة؟ولم انصعت لذلك الهلع "[10].
يتضح أن للآخر تأثيرا على الأنا.بوصفها عنصرا قابلا للتأثر بالمحيط، وتختلف طبيعة هذه التأثيرات ف"في الواقع وعلى الصعيد الفينومينولوجي الفعلي ،هناك طرق متعددة يؤثر فيها الآخر على الذات وذلك في فهم الذات لذاتها ،ويرسم بالضبط الاختلاف بين الأنا التي تقيم وتتثبت ،والذات التي لا تعرف نفسها إلا من خلال هذه التأثيرات بعينها"[11]وهكذا نجد أن الآخر يساهم في فهم الذات والتمكن من استيعاب ما لم يتم التوصل إليه لولا تواجد الآخر.وفي ذلك يتحدث الراوي ويقول :"كانت تحمل معها من سفراتها بعض تلك الأشياء العجيب التي تضعها على طاولة صغيرة من الخشب العتيق كما لو كانت علامة على العالم.قارنت بين البلدان التي زارتها وتلك التي قمت بزيارتها.أم إثارة البلدان التي كنت أجهلها ،أو تلك التي ما تزال كذلك بالنسبة لي .فقد أيقظت في إحساسا بالغربة .بدأت أنظر إلى ستوكهولم من الخارج وقد غمرني إحساس بالذنب والعبثية.أغمضت عيني وما كدت أفتحهما حتى كانت لينا منتصبة أمامي "[12].
من خلال كل ما سلف .نتساءل هل تمكن الخطيبي من إيهامنا بأن بطله غربي الأصل والنشأة؟ هل فعلا تحرر الكاتب من سلطته التاريخية المحكومة بالعروبة والارتباط بالشرق وعدم التخلي عن كل مقوماته ومميزاته.التي تعد عند الغرب مجرد أثقال زائدة على الثقافة أو أمور طالتها المغالاة ؟ أسئلة شتى تصب في هذا الشأن.وانطلاقا من تحليلينا الخاص وجدنا أن الخطيبي بالرغم من أنه حاول جاهدا من أن يوضح لنا أن بطل روايته غربي يؤمن بالاختلاف والانفتاح والتحرر في العلاقات الإنسانية عامة والاجتماعية أو حتى العلاقات الجنسية على وجه التخصيص.إذ نجد أن هناك أمورا ذات نفحات شرقية تطفو لتظهر لنا تلك النزعة المشرقية التي تظل حاضرة في السلوكات والتصرفات التي تصدر عن بطل الرواية.المسألة التي توضح هذا الاستنتاج هي تلك التي تعلقت بعلاقاته مع النساء.إذ ظل الرجل الشرقي العربي والمغربي على وجه التحديد حاضرا بقوة.فمهما تحرر الفرد في سلوكه اليومي إلا وكان هناك نوع من التحفظ على ما يجري بينه وبين الجسد الأنثوي والحضور النسائي. إذ لا زالت هذه الشخصية تؤمن بقيم الفحولة فيما هو متعلق بالمرأة وبجسدها.وهذا انطلاقا مما أورده في النص "كانت تلك هي الليلة الأولى التي قضيتها عند لينا.ليلة ستتكرر بغير انتظام.إنه لا تزامن الليل والنهار.كانت مضاجعتها تتطلب بروتوكولا ضد الحمل لم يسبق لي أن عرفته مع دونيز ولا مع عشيقاتي .وضعت حجابا واقيا ومرهما خاصا .كان بروتوكولا مزعجا بالنسبة لي.ربما لأنه كبت في الرغبة في إنجاب طفل منها.فدخلت حريتي النزقة والمتوحشة في مواجهة اختيار ذي طابع لوثري.يدعو إلى المسؤولية .لكن بشكل صارم.قد أكون وضعت الأصبع هنا على لحظة حقيقية أو على ضعف في فحولتي أو على رغبة عمياء من رغباتي !لكن وبالرغم من هذه الوقفات كانت لعبتنا الشبقية تتابع طريقها"[13] .
قد يقول قائل أن البطل قد اختار الحديث عن علاقة جنسية غير شرعية أي خارج مؤسسة الزواج، وهذا أمر مخالف للأعراف والتقاليد العربية عموما والمغربية على وجه التخصيص لكن لا ننسى أنّ"المجتمع العربي عرف شتى أنواع العلاقة المؤسسية بين الرجل والمرأة في إطار مشروع النكاح.غير أن هذه العلاقة الشرعية لم تقف أبدا حائلا بينهما في ممارسة مشروعة للاتصال الجنسي والجسدي خارج مؤسسة الزواج الشرعية "[14] أضف لذلك أن الخطيبي اختار ان يكون بطل روايته متزوجا وله طفل.لكن علاقته الزوجية كانت على وشك الانهيار بسبب الخيانة التي تعرض له الزوج من طرف زوجته.إذ ضبطها رفقة رجل في مطبخ بيته، في نفس الآن كان هو يمارس عاداته ونزواته مع نساء أخريات دون أن يسمح لنفسه بقطع علاقته مع زوجته.لكن بمجرد أن وجد الزوجة تفعل مثل ما يفعله هو قرر الهرب وإعطاء نفسه سنة من التفكير.وهنا يصدق المثل الشائع :"حلال علينا حرام عليهم " يقول :"من أين ابدأ قصة خلافنا ؟يا للبلادة !لازالت الدهشة تغمرني حين أفكر في ذلك اليوم الذي رأيتك فيه تقبلين بول في المطبخ.تراجعت خطوة إلى الوراء وخرجت للتو.كيف أرى إليك دون أن أرتعش.خارت قواي كان محو تقززي شيئا قاسيا علي.أعرف ،تعرفين أنه حدث عارض شبه تافه لكن رؤيتي تشوشت وعقلي أيضا "[15].وهكذا مهما حاول الخطيبي إخفاء الهوية العربية فهي تظل بارزة خصوصا إذا تعلق الأمر بالمرأة.إذ يعد العربي الأكثر غضبا وتوترا فيما يتعلق بعلاقاته مع المرأة."شيء ما انكسر في علاقتنا .شيء غير قابل في الواقع للحل .لتتذكري أني فيما بعد وجدت نفسي في مواجهتك عاجزا عن ضبط غضبي .كان غضبا رهيبا .ورغم سرعته وهياجه لم يكن ذاك الغضب سوى ضياعي الأول.كنت أنتظر منك تفسيرا مهذبا لما حدث ،قادرا على إيقاف عنف إرادتي"[16]
[1] :ماجدة حمود:إشكالية الأنا والآخر نماذج روائية عربية.سلسلة عالم المعرفة رقم 398 مارس 2013 ص:8
[2]:ماجدة حمود:إشكالية الأنا والآخر، نماذج روائية عربية.سلسلة عالم المعرفة رقم 398 مارس 2013 ص:9
[3] :عبد الكبير الخطيبي :صيف في ستوكهولم :ص 12.
[4] :نفسه ص:9.
[5] : ماجدة حمود:إشكالية الأنا والآخر، نماذج روائية عربية.سلسلة عالم المعرفة رقم 398 مارس 2013 ص:13
[6] "عبد الكبير الخطيبي :صيف في ستوكهولم ص:39.
[7] :محمد بهاوي:في فلسفة الشخص .نصوص فلسفية مختارة ومترجمة افريقيا الشرق 2012 الجزء الخامس ص:3 من المقدمة.
[8] : ماجدة حمود:إشكالية الأنا والآخر، نماذج روائية عربية.سلسلة عالم المعرفة رقم 398 مارس 2013 ص:14.
[9] :محمد بهاوي :في فلسفة الغير .نصوص فلسفية مختارة ومترجمة افريقيا الشرق 2012 الجزء السادس ص:5.
[10] :عبد الكبير الخطيبي :صيف في ستوكهولم ص :40-41. بتصرف.
[11] : محمد بهاوي :في فلسفة الغير .نصوص فلسفية مختارة ومترجمة افريقيا الشرق 2012 الجزء السادس ص:37.
[12] :عبد الكبير الخطيبي :صيف في ستوكهولم:ص:53-54.
[13] عبد الكبير الخطيبي :صيف في ستوكهولم:ص:66.
[14] : فريد الزاهي:الصورة والآخر رهانات الجسد واللغة والاختلاف.كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط الطبعة الأولى 2014. ص:11.
[15] :عبد الكبير الخطيبي :صيف في ستوكهولم ص:68-69.
[16] :نفسه ص :69.