يعرف المشهد الروائي المغربي، تأليفا ومتابعة ونقدا، حركة حيوية ونشاطا دؤوبا منذ سنين عديدة، ولعل مساهمة ثلة من الأسماء الجديدة بإنتاجاتها الروائية، وحرصها على مواصلة الكتابة، والمضي قدما في درب الإبداع الطويل، زاد من حركية ونشاط هذا المشهد. ومن بين الأسماء التي سعت إلى تأكيد حضورها في الساحة الأدبية، وخوض رهان التطوير والإضافة النوعية لصيغ الكتابة الروائية؛ الكاتب المغربي مصطفى الورياغلي الذي أصدر روايته الأولى "جنة الأرض" سنة 2013، قبل أن يُثنّيَها سنة 2016 بروايته الجديدة "أبواب الفجر"، التي تخيّرتها هذه الورقة كي تكون موضوعا للقراءة والمساءلة والتذوق.
إن أول ما يستوقف القارئ لرواية "أبواب الفجر" عنوانها الذي فضله الكاتب من بين عدة عناوين لا شك أنها قد انثالت عليه ، قبل أن يطمئن إلى هذا العنوان الذي وجد فيه - ربما- قدرة على الإيحاء إلى عوالم الرواية، أو إثارة تحفز على الإقبال عليها ، قصد قراءتها والكشف عن ملابساتها وخباياها.
عند الوقوف على هذه العتبة النصية، يتبين أنها تندرج ضمن فئة العناوين الخبرية، فهي عبارة عن جملة اسمية خبرية ، تتكون أساسا من خبر لمبتدإ محذوف تقديره هذه(هذه أبواب الفجر)، ولما كانت هذه الأبواب موضوع الإخبار في هذه الرواية وعليها مدارها، فإن ذلك يدفع المتلقي إلى التساؤل عن طبيعة هذه الأبواب التي ستدور حولها القصة، خصوصا أن إضافة كلمة "الفجر" إلى "أبواب" زادت من التباس وغموض المراد منها، فالفجر – كما هو معلوم – هو وقت انكشاف ظلمة الليل عن نور الصباح، وقد يكون هذا الفجر –حسب تقسيم الفلكيين- صادقا أو كاذبا، الأمر الذي يعمّق المفارقة الدلالية بين الكلمتين ويباعد العلاقة بينهما، لارتباط الكلمة الأولى بالجماد وإشارة الثانية إلى الزمن، لنكون بذلك أمام جملة مجازية تقوم على تكسير العلاقات المنطقية بين الأشياء، فاتحة مجالا واسعا لمحاولة الفهم والتفسير والتأويل،عاملة على إغراء القارئ للدخول إلى عالم النص، قصد مضاهاة توقعاته وﭐفتراضاته ، بما يقدم له العمل من تعابير وأحداث وشخصيات وعوالم حكائية وسردية.
تتكون رواية "أبواب الفجر" من أحد عشر فصلا، كل فصل منها يحمل عنوانا يشير إلى إحدى شخصيات الرواية.
تولَّت الحكي في الفصل الأول (الطاهر – القاسم "الخروج") شخصية الطاهر التي احتلت مركزَ الصدارة فيه، لذا، فهو ينفرد بالكلام في هذا الفصل ، متولِّيا زمام الحكي وتقديم الأحداث، فيحكي عن خروجه هاربا مع أهله من منطقة الشاوية إلى بلاد الريف(نهاية القرن التاسع عشر)،بعد أن ثأر لمقتل أخيه القاسم الذي كان قد أحب فتاة من قبيلة معادية، ليُقتل بعدها مع الفتاة من قِبل عائلتها تطهيرا لشرف القبيلة.
يصل الطاهر بمساعدة مريدي إحدى الزوايا إلى منطقة الريف، ليقيم فيها مع زوجته وأبنائه، إلى جانب زوجة أخيه القاسم وأولادهما، متحملا مسؤولية إعالة ورعاية أسرتين.
أما الفصل الثاني من الرواية(الياقوت :زوجة الأخ) فقد تكفلت فيه شخصية الياقوت،زوجة أخ الطاهر، بحكي قصتها مع زوجها الراحل، بدءا من لقائهما الأول إلى حين وصوله إليها جثة هامدة، متطرقة إلى الحديث عن مشاعرها وهواجسها بعد وفاة زوجها، بائحة برغبتها في الزواج من شقيق زوجها الذي لم يكن يخطر على باله هذا الموضوع، وإن كان أمر الزواج من ﭐمرأة أخرى ظل يراوده منذ وصوله إلى بلاد الريف، قصد المزيد من العصبية والنسل، وهو ما تأتى له بعد زواجه من ﭐمرأة من قبيلة بني ورياغل، كبرى قبائل الريف على الإطلاق، الشيء الذي جعل الياقوت تشعر بالهوان وخيبة الأمل، فتقرر ليَّ ذراع الطاهر، وتطالبه بحقها وحق أبنائها من إرث زوجها القاسم.
1- الرواية للكاتب المغربي مصطفى الورياغلي،منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،المغرب ،الطبعة الأولى،2016 .والإحالة إلى صفحات الرواية تتم داخل متن القراءة.
وفي الفصل الثالث(يوميات صحافي طموح)، يأخذ الكلمة صحافي إسباني شاب ليحكي عن تفاصيل قدومه من مدينة برشلونة إلى المغرب، قصد تغطية الأحداث المتسارعة التي تعرفها منطقة الريف، جراء المواجهات العنيفة والدامية بين القوات الإسبانية وسكان المنطقة، فيخبر هذا الصحافي عن إحدى هذه المواجهات التي كان شاهد عيان عليها، والتي دارت رحاها بأحد حصون مدينة مليلية، عندما حوصر مع فرقة من الجيش الإسباني وعدد من المدنيين مدة شهر كامل من طرف سكان المنطقة الأمازيغ ، حتى فُـكّ الحصار يوم السادس والعشرين من نونبر سنة 1893.
في الفصل الرابع المعنون بـ (صهر الشريف الطاهر"حملة بوشتى البغدادي قائد محلة السلطان")، يتولى مهمة السرد صهرُ الطاهر الذي يكشف عن تفاصيل حملة قائد السلطان بوشتى البغدادي على قبيلة بقيوة، وكيف قضى على زعمائها وأعيانها غيلة وغدرا، متطرقا إلى حيثيات هروبه إلى مدينة تطوان مخافة الوقوع بين يدي رجال هذا القائد، وذلك بمساعدة صهره الشريف الطاهر الذي دبر له أمر رحيله من المنطقة.
أما في الفصل الخامس الموسوم بـ(سلّام ولد الطاهر"غواية البارجة كونشا") فقد تعهد بالسرد أحدُ أبناء الطاهر النجباء، وقد تحدث في هذا الفصل عن دوره الفعال في الإيقاع بالسفينة الحربية الإسبانية كونشا،التي جنحت إلى أحد سواحل الريف، ليتمكن المجاهدون من الاستيلاء عليها وعلى كل محتوياتها، إلى جانب أسرهم كل من كان عليها، بما فيهم الصحافي الإسباني الذي تكلفت بحراسته أسرة الطاهر،ريثما يرى المجاهدون فيه أمرا.
وبخصوص الفصل السادس(الكامل ولد قاسم"العاشق والبحر")، يتولى زمام الحكي فيه الكامل ﭐبن أخ الطاهر، ليخبر عن حبه الشديد لابنة عمه شمس الضحى، وكيف أنهما كانا يتبادلان هذا الحب منذ الصغر،مفصحا عن طبعه اللين المسالم، المخالف لطبع شقيقه عمار،المحب للسيادة والسيطرة. تقدم الكامل لخطبة ﭐبنة عمه الطاهر، وهو موقن من موافقته، إلا أن العم رفض هذه الخطبة ، وقرر تزويج ﭐبنته لأحد أعيان قبيلة معروفة بالمنطقة، لتُقفَل بذلك في وجه الكامل أبواب الأمل.
في الفصل السابع من الرواية(زيان ولد الطاهر"مقتل الأب")، يقوم زيان ،أحد أبناء الطاهر، بسرد تفاصيل مصرع والده على يد أحد خدامه ، الذي قُـتِل بدوره رميا بالرصاص على يد زيان أثناء محاولته الابتعاد والهرب من جزاء فعلته.
تُتَّهم زوجةُ العم، الياقوت، وأبناؤها بالضلوع في هذه الجريمة، ويصر الغالي ولد الطاهر على الثأر لدم أبيه، لتضطر العائلة المتهَمة إلى الهروب،طالبة الوساطة من أحد شيوخ الزوايا المعروفة الذي أقنع الغالي بالعدول عن قراره، محفزا إياه على مواصلة دعم المجاهدين ومؤازرتهم ، كدأب والده من قبل.
وفي ما يتعلق بالفصل التاسع(خوان خوسيه بيريث"جاسوس إدارة الشؤون الأهلية")،فقد افتَتح السردَ فيه وأنهاه، جاسوس إسباني بمنطقة الريف يدعى خوان خوسيه بيريث،وقد حكى في هذا الفصل عن الظروف والملابسات التي سبقت معركة أنوال،وعن بعض أطوارها التي جرت في العشرين من يونيو سنة 1921،كما أخبر عن دوره في تهريب الصحافي الإسباني الأسير الذي كان في عهدة أسرة الطاهر،مستغلا في ذلك صداقته وقربه من ﭐبن أخيه الكامل.
وعن الفصل العاشر(الحسن ولد الطاهر"الشاهد الذي رأى")،أوكِل السردُ فيه إلى الابن الأصغر من أبناء الطاهر، الذي كان قد رحل في وقت سابق مع أسرته من بلاد الريف للعيش في مدينة تطوان.اِمتدت الأيام بهذا الابن ليقدم شهادته لأحد أحفاده على ما عاين من وقائع وما عايش من أحداث، أيام المقاومة والجهاد ضد الاحتلال الإسباني ونظيره الفرنسي، لكون هذا الحفيد بدا شديد الحرص على تتبع أخبار عشيرته وأفراد أسرته، ليرصد دورهم في تلك الأحداث والوقائع، كما أنه من أهل صنعة الكتابة والتأليف،الأمر الذي جعل الجد يعهد إليه بكنانيشه التي سجل فيها مذكراته وشهادته على تلك الحقبة الزمنية من تاريخ بلاد الريف.
أما في ما يخص الفصل الأخير من فصول الرواية(من وحي كنانيش الجد)، فقد ﭐضطلع السارد، من خلال المذكرات التي أودعها الجد لحفيده، بعرض بعض التفاصيل المتعلقة بأسْر الكامل ولد الطاهر وموح أكوح ،زوج شمس الضحى، وكيف أنهما استُشهِدا معا، جنبا إلى جنب، في مهمة فدائية سعت إلى تحرير بعض المجاهدين من قبضة الإسبان، متطرقا إلى وقْع خبر مصرعهما على شمس الضحى التي ترحمت عليهما، وبكتهما معا دون حرج أو ندم.
من خلال تتبع سير أحداث فصول هذه الرواية ومجرياتها، يتضح أنها تدور ما بين نهاية القرن التاسع عشر إلى ما بعد استقلال المغرب، بيد أن الفترة الزمنية التي رامت الرواية التركيز عليها،هي فترة الثورة الريفية التي قامت في وجه قوات الاحتلال الإسباني للمنطقة وقتئذ.
تبتدئ الرواية بخروج الطاهر من أرضه هاربا إلى بلاد الريف، وتنتهي بسرد الحفيد لبعض ذكريات جده(الحسن بن الطاهر)التي أودعها أحد كنانيشه الكثيرة، وبين هروب الجد وسرد الحفيد، جرت أحداث عديدة ﭐستطاعت الرواية من خلالها أن تلقي المزيد من الضوء على عدد من القضايا السياسية والاجتماعية، التي وسمت تلك الحقبة الزمنية من تاريخ المغرب، كاشفة عن التضحيات الجسام التي بذلها الريفيون من أجل التخلص من مطرقة الاستعباد وسندان الاستبداد، وعيش معنى الحرية والكرامة، مبرزة في الآن نفسه مصير تلك التضحيات والبطولات التي آلت كلها إلى الفشل والضياع، بعد أن ﭐستطاع أصحابها الأوائل، في وقت من الأوقات، أن يعيشوا أياما مجيدة، ذاقوا فيها حلاوة النصر، وعرفوا خلالها معنى العزة والفخر والكرامة.
لقد طرقوا أبواب التغيير بإصرار، وﭐجتهدوا، وبذلوا العطاء، وﭐجتمعوا بإيمان على قضيتهم العادلة،لا يبتغون منها ربحا ذاتيا ولا مصالح شخصية، إلا حفظ الدين والأرض والشرف،فـﭑنفتحت الأبواب أمامهم مشرعة، لتُهِلّ أنوار فجر التحرر على المنطقة، كاشفة عنها ظلمتها الحالكة، منيرة أمامها الطريق للدخول إلى عهد جديد متطور،داعية جميع قبائلها إلى تحمل مسؤوليتها تجاه الأخطار المحدقة بالوطن، وضرورة التخلص مما ﭐستفحل بها من جهل وتخلف وتشرذم، لكن سرعان ما ستنغلق هذه الأبواب، وسيتبين أن هذا الفجر الذي ﭐنفتحت عليه لم يكن إلا فجرا "كاذبا"، دام للحظات فقط، لتعود المنطقة وقاطنيها إلى سابق عهدها، تعيش حال الظلمة والسواد الحالك، في ﭐنتظار أن تُفتح الأبواب من جديد على فجر "صادق" هذه المرة، تشع أنواره وتلوح في الآفاق، لتستنهض القيم والمبادئ التي زرعتها الثورة في نفوس أبنائها، زمن البطولات المشرق.
لقد بدا واضحا في هذه الرواية أن صاحبها عمل على جمع وثائق وشهادات متنوعة، تتعلق بالفترة الزمنية التي ركز عليها ليصنع منها مادته الحكائية، الأمر الذي جعل الجانب التاريخي- المرجعي يحضر بقوة بين فصولها، متداخلا مع الجانب التخييلي الذي يقتضيه جنس الرواية عموما،ليشتغلا معا جنبا إلى جنب في تناغم وتماه.
وما بين هاجس الأمانة التاريخية وما تواضع عليه المؤرخون، وبين مقتضيات الفن الروائي كانت تتجاذب أحداث "أبواب الفجر" ومجرياتها، بيد أن الكاتب حاول إيهام القارئ بشتى السبل أن كل ما تقدم له الرواية هو عين الحقيقة، وأن دوره ﭐقتصر فقط على الربط بين الشهادات والوثائق، ملتزما الحياد التام أمام ما تعرضه من معطيات ووقائع،فـذِكر تواريخ الأحداث وضبطها باليوم والشهر والسنة(اليوم الثاني من أكتوبر 1893(ص57)- في السادس والعشرين من نونبرعام1893(ص72)- يوم 17 يونيو1921(ص209)...)،وتحديد فضاءاتها(حصن سيدي ورياش(ص62)- حصن كابريراس(ص72)- معسكرأنوال(ص209)- مركز دْهارأوبرّان(ص208)...)،والتدقيق في أسماء الأعلام المعروفة لدى المؤرخين- سواء كانت لأفراد أو لغيرها-(القائد مولاي عبد السلام الأمراني بوثمنت(ص76)-القائد بوشتى البغدادي الممثل الشخصي للسلطان(ص76)- محمد بن عبد الكريم الخطابي(ص209)- الكولونيل موراليس(ص172)-الجنرال مانويل فرناندس سلفستري(ص173)- البارجة الحربية كونشا(ص86)...)،من شأنه أن يدفع الشك إزاء ما يُروى، ويدعو إلى الاقتناع بمصداقية الراوي وموضوعيته،وتقدير جهده في تحري الصدق والأمانة.
كما أن ﭐنتهاج الروائي لنظام سرد يقوم على إعطاء الكلمة للشخوص كي تتعهد بسرد حكاياتها وشهاداتها،جاعلا منهم شخوصا سيرذاتيين يشيرون إلى أنفسهم بضمير المتكلم (أنا) - الذي هيمنت سلطته على السرد- مستحضرين ذكرياتهم عن الناس والعصر،عارضين ملامحهم النفسية والجسدية، مبرزين أفعالهم في مختلف الأحداث التي عرفتها المنطقة، تدعو المسرود له إلى التعامل مع المحكي بـﭑعتباره كلاما صحيحا ذا مصداقية، يصدر عن تجربة ذاتية حصلت فعلا في زمان ومكان محددين، وهي الآن تُروى على مسامعه، فضمير المتكلم يُعَدّ ضميرا واقعيا توثيقيا، يُضفي على المحكي طابع الحقيقة والواقعية.ولعل الشاهدين التاليين يمثلان لما سبق أحسن تمثيل:
يقول السارد خوان خوسيه بيريث في الفصل التاسع:"ليلة بيضاء. أقصد بلا نوم، أما هي فقد كانت سوداء، والأسود منها في الطريق.
يوم 19 يونيو 1921م: قلق وحزن وعجز!
يوم 20 يونيو1921م: وصلت معسكر أنوال تعزيزات عسكرية مهمة. فيلق سان فيرناندو المكون من كتيبة من ثمانمائة مقاتل من الحَرْكة الصديقة(مغاربة يحاربون إلى جانبنا مقابل راتب محدد)(...)
يوم 21 يونيو 1921م:أشرف الجنرال سلفستري بنفسه على إعداد حملة جديدة لإغاثة حصن إغريبن المحاصر"(ص210-211).
ويقول السارد الحسن ولد الطاهر الذي أخذ الكلمة في الفصل العاشر:"إليكم شهادتي بما شهدتُ من الوقائع والأحداث، أبرئ بها ذمتي أمام الله والناس والتاريخ.
اسمي الحسن بن الشريف السي الطاهر عميد الزاوية الطاهرية.نسبنا شريف محقق،وشجرتنا موصولة الغصون والفروع إلى جذع آل البيت الطيبين الطاهرين(...)والحمد لله،الذي لا يحمد على مكروه سواه،أن طال بي العمر إلى هذا الزمن الأغبر الرديء،وامتدت بي الأيام إلى أن رأيت الأحفاد،أحفاد الولي الصالح الطاهر،يبيعون أرض آبائهم للغريب،ويهاجرون إلى بلدان النصارى خلف البحر،ليكدحوا كالعبيد.ومن بقي منهم،زرع في الأرض المباركة عشبة الكيف الخبيث،وتعاطى تجارة الحشيش(...)(ص 219)
فهذان الشاهدان أنموذجان للصيغة الخِطابية التي قامت عليها كل فصول رواية "أبواب الفجر"،ماعدا الفصل الأخير منها،جاعلة منها مرويات تقترب من جنس كتابة الأنا وبعض فروعها، كالسيرة الذاتية واليوميات والمذكرات والاعترافات...التي تتسم جميعها بقوة الإحالة المرجعية،مستوحية أسلوبها وطريقتها في قص وتسجيل ما جرى من وقائع وأحداث.
وقد زاد من قدرة هذه الصيغة الخِطابية(ضمير المتكلم)على الإيهام بالواقعية في هذه الرواية، لجوء مستعمليها إلى التصوير السردي، والاهتمام بوصف التفاصيل والتطرق إلى أدق الجزئيات، مثيرة بذلك في ذهن المتلقي صورا بصرية حية تجعله يتابع الحكي، ويتقبل ما يُعرض عليه من غير شك أو تردد. ولعل المثال التالي يوضح دور هذه الصور التي تحمل في طياتها دعوة إلى تصديق كلام السارد والوثوق به. يقول سلام ولد الطاهر في الفصل الخامس من الرواية متطرقا إلى حيلته التي أوقعت بالسفينة الحربية "كونشا": "أخذتُه وركبتُ فرس الفقيه،واتجهتُ صوب قمة الحافة المطلة على البحر ناحية الشمال.وهناك ترجلتُ،وربطتُ الفرس إلى صخرة،وأخذت أنحدرُ بين الصخور وسط الضباب،إلى أن وصلتُ صخرة كبيرة مسطحة تشرف على الساحل من عل،يهم الواقف فوقها أن يمد يده ليلمس الماء في الأفق،حيث يلتقي بالسماء.أخرجتُ "أبوقار" من الكيس الذي حملتُه فيه،ونفضتُه جيدا،ومسحتُ داخله بتلابيب القميص،ثم قلت بسم الله،وأخذت نفسا عميقا،ونفخت بصوت خفيض مرة وثانية وثالثة،حتى إذا ضبطتُ الصوت الذي أريد،واطمأننتُ إلى محاكاة صفارةَ الجزيرة،استجمعتُ كل قواي ونفخت نفخة قوية،متطاولا في الضباب جهة البحر،مثل ذئب يعوي في قمة جبل."(ص95)
إن المتأمل لهذه الصورة السردية، يلاحظ أن السارد قد ﭐعتمد فيها على تتابع الأفعال في شكل صور حركية مفصّلة، ملتفِـتا إلى وصف الأشياء التي وقعت عليها هذه الأفعال،جاعلا المسرود له يرسم أبعاد هذه الصورة وكأنه يشاهدها بعينيه الاثنتين،الأمر الذي يجعله يطمئن إلى كلام هذا السارد، الذي لا يفتأ يؤكد حقيقة ما جرى، وأنه كان مشاركا فيه أو شاهدا عليه، تسعفه في ذلك لغته الفردية التي تميزه عن باقي الرواة. ومثل هذه الصور التي لا يدع فيها السارد حركة ولا فعلا إلا تعرض إليه ،بغية التأثير والإقناع بما يُروى، كثيرة بين صفحات "أبواب الفجر".
ورغم كل هذه المعطيات التي تجنح بالرواية جانبا كي تستقر بين أحضان التاريخ والمرجع، نافية عنها ما هو تخييلي، مؤكدة اقتصار دور الروائي في التقصي والتوثيق، تتوزع بعض القرائن داخل الرواية التي تغري بهذا الروائي وتفضح حضوره، رافضة أن يكون مجرد موثق أو مؤرخ، كقرينة الميثاق الروائي الذي أبرمه مع القارئ على ظهر غلاف الرواية (العنوان الفرعي:رواية)،والذي بمقتضاه يثبت صلة نصه بعالم التخييل، وكذا قرينة تخيُّر الوثائق والشهادات وتنظيمها وفق ترتيب معين، والذي قام في هذه الرواية على بناء تصاعدي يحترم إلى حد بعيد النظام القائم على الترتيب الزمني الميقاتي، لأن الكاتب رأى في هذا التنظيم ما يخدم رؤيته ووجهة نظره، كرؤيته الخاصة للزمن التي تتأكد من خلالها العلاقة بين الماضي والحاضر، متيحا للقارئ عيش التاريخ مجددا وفق تسلسله المنطقي، ليدرك أسباب ما وقع سابقا وما ترتب عليه من نتائج لاحقا، مؤكدا أن ﭐلتفاته إلى الماضي لم يكن إلا من خلال قضايا حاضره.
وتنضاف إلى القرينتين السابقتين، قرينة حيل الكتابة الروائية وألاعيبها، التي تعمل أحيانا على تغييب السارد الفعلي وإعطاء الكلمة لسارد صوري، سارد من درجة ثانية،هو من يتكفل بفعل السرد ويقوم مقام السارد الحقيقي، فتبدو الشخصية التي أوكل إليها السرد وكأنها مستقلة بذاتها ومنفردة بموقفها، في حين أنها ملتزمة بالدور الذي تؤديه في القصة، وأنها وُظفت وفق اختيار معين يُراد من وراءه تمرير عدد من الرسائل والإشارات بكيفية ملتوية.
إن منزلة رواية "أبواب الفجر" بين منزلتي الواقع والتخييل، ومراوحتها بينهما، تدفع المتلقي إلى تلقيها تلقيا مزدوجا، يتداخل فيه التخييلي الفني بالمرجعي التاريخي، ويلتبسان لدرجة التماهي، وإن هذه المراوحة بين الواقع والتخييل، ومحاولة رسم الحدود الفاصلة الحاسمة بينهما، من الأمور التي تخلق متعة القراءة في هذه الرواية وتزيد من لذتها، بجانب ما زخرت به من معالم فنية وجمالية، تدفع إلى الانجذاب إليها، وتزيد من درجة الترقب والتفاعل مع أحداثها وشخوصها، الأمر الذي طبعها بسِمة خاصة، جعلت منها تجربة متميزة لصاحبها وإضافة نوعية للفن الروائي بالمغرب.