يقول الأشعري في الغلاف الخلفي لديوانه: "سيرة المطر"
" سيج الحلم في قفص من الكلام
ما العمل؟
لو يعود الفتى للزمان المشقق
مازال في الوقت متسع لاختمار الرماد" (1)
استوقفني في هذا التعبير أمران إثنان:
الأول: اعتراف الشاعر بأن حلمه أصبح سجين شعره دون أن يدري ما السبيل إلى تحرره من هذا العقال.
الثاني: ارتباط صوته الشعري بنثر الرماد الذي يصر صاحبه على مزيد من الوقت لاختماره.
وهذا ما أملى علي عنوان هذه الدراسة التي سأحاول فيها قراءة تجربته في ديوان "سيرة المطر" هذه التجربة الإبداعية التي أراد لها ألا تتوقد وتشتعل- كما هو واضح في الاستشهاد وتحت سبق إصراره لتركب أهوال المواجهة وصياغة رؤى تبـشر بمـا كان ـ وما زال ـ يضطرم في أحلام الساعين من المخلصين إلى التخطي والتجاوز، بل هي تجربة يعترف صاحبها مسبقا بأنها لن تقو إلا على اجترار الأسى والألم والكمد ونثر الرماد في عيون القراء والمتلقين.
إن المتأمل في تجربة محمد الأشعري الشعرية، والمتتبع للمسار الذي انخرطت في غماره، يدرك بسهولة كم هو البون الشاسع، بين توقد طموح البداية، وانطفاء وميض النهاية. وهذا لعمري ما يطرح أكثر من سؤال.
فبين تاريخ صدور ديوان: "صهيل الخيل الجريحة (1978) وديوانه الأخير "حكايات صخرية" (2005)، مسافة زمنية طويلة لم تسعف الشاعر السبعيني المغربي محمد الأشعري أن يسترسل في بوحه الشعري بصفة متواترة نظرا لانشغالاته الحزينة التي ورطته في ممارسة سياسية جرت عليه الكثير من الوبال، وهو ما أثر سلبا على تجربته الشعرية التي لم تستطع أن تراكم الدربة والمراس الضروريين من أجل أن تتضح وتتشكل بطريقة طبيعية تساعد قارئ هذه التجربة كي يقف على منحنيات تحولها، ويرصد مراحل تطورها من جهة، كما أن هذه التجربة لم تحافظ على المسافة الضرورية التي يجب أن تبقى بين الذات الشاعرة والانغماس الفعلي في الوظيفة السياسية اليومية التي تزج بهذه الذات فيما يؤثر سلبا على الحرية الضرورية التي تقي الشاعر مما هو مبتذل من المصالح الآنية، والصراعات الضيقة من جهة أخرى.
وهذا لا يعني أن الشاعر يجب أن يتملص من وظيفته الاجتماعية، بل على العكس من ذلك، شريطة أن تتوفر لديه المهارة الفنية لصياغة رؤاه الشعرية بعيدا عن حرفية الانعكاس الممجوج.
إن فضيلة الاعتراف بسمو الرسالة الشعرية، تقتضي أن يحافظ الشاعر على منطقة محرمة وجب صيانتها حتى لا يتحول إلى بوق للسياسي الذي يسكنه.
ومن ثم اعتقد أن هذا السبب الجوهري، هو ما أساء لتجربة الأشعري، بدليل أنه لم يعد لاعتصار ما تبقى لديه من قريحة شعرية إلا بعد أن سدت في وجهه أبواب الطموح السياسي.
فالشعر لم يكن في يوم من الأيام ملجئا لممارسة النكوص، أو مجالا يستهوي الفاشلين، بل كان وما يزال منارة للأحرار ومرفئا للمبشرين بحلم البشرية.
والمتأمل في تجربة محمد الأشعري الشعرية يسهل عليه الوقوف على الفرق الواضح بين فترة توهج عطائه الشعري، الذي كان مرتبطا بمرحلة كانت فيها الآمال مشرعة على مستقبل واعد بفعل التراكمات التي كانت تعج بها الساحة الفكرية والثقافية والسياسية إبان السبعينيات من القرن الماضي، وما كان يختلج فيها من اختيارات واضحة فرضتها الطبقة العاملة، وطلبة المعاهد والكليات ونخبة من "الانتلجنسيا" التي كانت تقود هذه التطلعات وتحفر لها مجاري في الواقع اليومي المغربي بفعل الوعي المتزايد بالظروف الاقتصادية والسياسية، وبين فترة فتور هذا التوهج الشعري، وتوقف صبيبه الذي بدأ ينذر بالعقم في مرحلة التسعينيات ـ من القرن الماضي ـ وذلك بفعل انحسار ذلك المد الذي عرفته الفترة السابقة تحت عوامل عدة كان من أبرزها تقوية النفوذ السلطوي الذي صال وجال، وأذاق الفئات المتطلعة لغد أفضل أبشع أنواع القمع والتنكيل، وهذا ما نتج عنه أحد أمرين وهما:
إما صمت المفكر والمبدع والمثقف، وانصرافه للانكماش في موقعه الضيق.
وإما الانضمام للسلطة تحت ضغط الإكراه أو الإغراء على السواء.
سيرة المطر: أو التوغل في خراب الذاكرة
إن أهم ما يؤطر تجربة محمد الأشعري في ديوانه: "سيطرة المطر" هي هيمنة أوجاع الذات المحاصرة بالمشاكل اليومية والمنجذبة إلى استرجاع صور الماضي المترسبة في لا وعي الشاعر عبر حفره في خراب الذاكرة، واستحضار زمن اليفاعة والصبا.
يستهل الأشعري ديوانه هذا ببث الرماد في عيون متصفحه منذ الوهلة الأولى بقصيدته: "نوافذ لعودة البحر" حيث يرسم فيها ملامح الأفق المظلم الذي لا تبدو فيه بارقة أمل أمام ما يحاصر الوطن من يباب امتدت شطئانه حتى نضب الضرع وجف الزرع، إذ يقول:
" لا مقلة تتوحد بالأفق
لا اخضرار يهب على جسد موغل في الندى
لا اضطرام يؤول سنابل مبثوثة في الثنايا" (2)
لينتقل بعد ذلك إلى حشو قصيدته وتأثيثها بجو اليأس الغامر الذي يحاصر الوطن الذي أصيب بالعقم من جراء ما يعيشه من جفاف:
"كأن امتداد السحاب مغامرة لا تفي وعدها
ستقول انحسار ويبتلع الموج شطئان هذا اليباب
أو نضوب، وينبجس الماء من حدقات الينابيع
غير أني أرابط في نقطة البدء
أمامي: حريق الأغاني التي وعدتني بصحراء يفتضها شجر مستحيل
وخلفي: هبوب المجيء الذي لم يعمر طويلا" (3)
يبدو للمتأمل في مقاطع هذه القصيدة التي يفتتح بها الشاعر مجموعته الشعرية:"سيرة المطر" أنه حريص على إدانة ذاته إدانة تكاد تكون "مازوخية" لأنها مشلولة الإرادة، وعاجزة عن الحركة والفعل، ويتضح هذا بجلاء حينما يقول في نفس القصيدة:
" هذه المرايا التي انتشرت حول أنفسنا
لم تعد تتقبل من وجهنا غير اسما له البالية
كل ما يتدفق عبر تجاعيده من منابع أو فلوات
يداهمنا حين نأوي إلى الصمت
ويضيع متى اشتعلت رغبة العودة المفجعة" (4)
بهذه الطريقة، ينصاع الأشعري لنفث صور الحزن السوداوي ونثرها في ثنايا القصيدة حيث يسترسل في إدانة ذاته وذوات الآخرين لأنها أصبحت مغلولة ومستكينة للصمت وللأحلام الخشبية، وغير قادرة على التحرك:
" ها نحن فوق الجياد الكسيحة نشهر أحلامنا الخشبية
عل الظلال التي انهمرت فوقنا تتحول سحبا
عل المرافئ تنبت من يأسنا فجأة (5).
وفي قصيدة: "سيرة المطر" والتي اختارها الشاعر لتشكل محور ديوانه، فهي عبارة عن حفر في الذاكرة المتشظية والمثقلة بهموم مرحلة تاريخية كانت مليئة بآمال عريضة سرعان ما خبا وميضها مع مرور الزمن، لتسلم الشاعر إلى اجترار أحلام أجهضت في مهدها، ومن ثم ينساق إلى استحضار الزمن المنفلت من عقاربه، واسترجاع صور طفولته التي كانت منغمسة في الرتابة والبؤس الطاغيين على حياة البادية بنواحي "زرهون" مسقط رأس الشاعر. إنها صور يومية للذات المتعبة التي يحياها الإنسان القروي، يسترسل الأشعري في التقاطها عبر الارتداد إلى الزمن الرتيب الذي كان يحكمها، في فضاءات مكانية اعتاد المواطن البدوي على التعامل معها يوميا كي ينحت منها رزقه الذي لم يكن يحظى منه إلا بالفتات.
وأهم ما يؤثث فضاء هذه القصيدة، صور ـ تكاد تكون فوتوغرافية ـ عن الحياة العادية في الريف المغربي الذي يؤطرها تثاقل الزمن: الفجر – الصباح – وسط النهار- المساء، المرتبط بصور المكان: الأفق – منابع المياه – الشجر – الحقول – الجبال – الغابات....
"وكان الصباح طريا
وحفيف الصنوبر مستيقظا
والديوك النشيطة تستقبل المطر المتردد
مفعمة بالأهازيج
....
وفي اشتداد الظهيرة
يخرج من عتمة الغرفة الموصدة
شبح امرأة ناعسة
تتقي وهج الشمس
بسواد ظفائرها
...
اتوقف عند اختفاء الظلال الثقيلة
...
هذا المدى غصة في المساء الطويل". (6)
بهذه الطريقة يسترسل الشاعر في توظيف تقنية "الصورة الفوتغرافية" ليعيد على القارئ شريط الحياة الرتيبة ـ كما كان يحياها الإنسان القروي ـ عبر التقاط جزئياتها المترسبة في ذاكرته. وهو بفعله هذا ـ إنما كان منساقا وراء تجربة الاحتفاء بالتفاصيل اليومية عبر توظيف لغة تقريرية بسيطة، واستعمال صور تشبيهية بسيطة مع توالي الفقرات الشعرية التي تنتقل بالقارئ من محطة زمنية إلى أخرى وفق تسلسل زمني "كرونولوجي".
أما قصيدة: "نشيد السحاب" فهي عبارة عن مرثية للشهيد عمر بنجلون الذي شغل اغتياله الرأي العام المغربي باعتباره رمزا من الرموز التي حظيت بتقدير المغاربة. إنها تأمل في فاجعة قتل إنسان بريء يعيد الشاعر فيها تفاصيل اغتياله على يد حركة إسلامية متطرفة، ويبرز مدى تعاطفه اللامشروط مع هذا الرمز الذي كان يشكل علامة مضيئة لهيئة حزبية تربي الشاعر في أحضانها، ويرثيه بحرقة بالغة:
" سلاما أيها المنفي في موت بلا شطئان
دعني أنبش القبر الذي ما جف بعد
وأعرض البذلة السوداء
والقميص الناصع ورتق الخنجر الدامي
دعني أعيد ملامح الأشياء
حتى لا تموت وراء نسيان التفاصيل" (7).
وينتقل الأشعري في القصائد التي احتلت الحيز الأكبر في ديوانه:"سيرة المطر" إلى اجترار هموم الذات المنهوكة بفعل ضغط الواقع، وعدم قدرتها على مواجهته، وهي على التوالي:
"غرفة الطلبة، العلاقة، قطار الثامنة، حالات، الحروف، نهار أزرق، غيمة حمقاء، رجلان.."
إنها عبارة عن قصائد ذاتية محضة لا تضيف جديدا إلى قارئها، إذ يهيمن عليها البوح بأسرار الذات المحاصرة والمتبرمة تارة، أو يسرد فيها الشاعر بعضا من الأحداث المرتبطة بمحطات من عمره المنفلت، تارة، أو يستعيد فيها علاقات عابرة تركت ندوبا غائرة لم يستطع التخلص منها تارة، أو ومضات خمرية كان يستعين بها على مغالبة الزمن الذي كان يدور دورة فارغة تارة أخرى.
وهي قصائد تنحى فنيا إلى توظيف أساليب اللقطة الفوتغرافية العاكسة عبر تقطيع زمني غالبا ما يعتمد على أسلوبين اثنين:
إما الزمن الترابطي التلاحقي.
وإما "الفلاش باك"، بتوظيف الزمن اللولبي الاسترجاعي.
وهي تقنيات سقط الشاعر تحت تأثيرها حينما كانت القصيدة المغربية المعاصرة تبحث عن تحديث النص الشعري، ورفده بتجارب فنية جديدة على مستوى الشكل، غير أن هذه القصائد ضحلة على مستوى المضامين، تدل على فترة تلكأ الشاعر فيها عبر انسياقه لنوازع الذات المغلولة، والمحاصرة بالمشاغل اليومية التافهة لموظف بسيط في أسلاك الوظيفة العمومية، لتسلمه إلى نوع من الحزن ـ الذي يكاد أن يصبح مرضيا لديه ـ بفعل ثقل الواقع، وعدم قدرة الذات على مواجهته وتجاوزه.
وفي القصائد التي يحتتم الشاعر بها مجموعته الشعرية ميل واضح لاسترجاع صور الماضي البعيد لأمكنه لصيقة بذاكرته، كقصيدة: "قباب باهتة... قرميد ناصع"، وهي قصيدة في وصف ضريح مولاي إدريس الأزهر بزرهون، يفوح منها انخطاف الأشعري لهذه المعلمة التراثية التي تركت بصمات واضحة في خيال الطفل الذي يسكنه يرسم لها ملامح ينبعث منها مدى عبق التاريخ المتجسد في فن العمارة الإسلامية، والشاهد على الدور الحضاري الذي نهضت به مثل هذه المعالم:
"لسنوات طويلة تأملت قبة الولي الناتئة في بياض المدينة
كانت أضخم شيء أخضر نلمحه من قمة الجبل
...
سنوات طويلة كانت قبة الولي، بقرميدها الأخضر
وعمودها النحاسي ذي الكرات السبع، والهلاك النحيل
تمر في ارتعاشنا الصباحي كأغنية خضراء
وتسكن لأيام طويلة أحلامنا المكتظة بوجوه الأنبياء
وغدران الجنة الموعودة
وطواويس تحملنا على ريشها الناعم وتطوف بنا فوق
قباب باهتة وقرميد ناصع" (8).
يتضح من هنا النموذج مدى هيمنة الذاكرة على الذات الشاعرة التي أصبحت أسيرة لصورها المترسبة في ذهنه كلما هم باسترجاع زمن طفولته.
وينحو الشاعر في قصيدة: "مرثية المجنون" نفس المنحى، حيث يعود إلى اعتصار ذكرياته حول "خيام ابن عامر" ليستعيد بعضا من شريط الأيام التي قضاها بها حينما كان طفلا يافعا؛ فتستوقفه تجربة حب بريئة يروي تفاصيلها كلما تذكر هذا المكان:
" سأمر بين خيام عامر
لا السيف يلمع في الخباء
ولا وصيفات العشيقة يحتمين بدعمعها
ولا يذبن شعري في الحطام
أنا الجريح نفيت نفسي في الكلام "(9)
هكذا يدور الشاعر/الفتي دورة فارغة حين يعمد إلى استعادة ذاكرته المتشظية المشروخة التي تجبره على اعتصار الحزن السوداوي. غير أنه يصر في جل قصائد ديوانه هذا على استغذاب الحنين إلى الفترات المنفلتة من عمره رغم إيمانه ـ مسبقا ـ بأنها لا تساعده إلا على نثر الرماد المختمر في عيون القراء، وعزاؤه في ذلك ـ كما يعترف ـ هو غنيمته بهذا الكلام المسيج بين دفتي هذا الديوان، وهو قانع بذلك على أية حال:
" ينهض بيننا المجنون ملتبسا
أعيدوا للصدى صوتي
لم تكن إلا القصيدة وحدها
جسدا لوجدي
...
وذابت في احتباس الموج
لم تكن إلا القصيدة وحدها
عبرت شرايين القبيلة مرة
وتناثرت وجها تكسره المرايا
والعذابات الصغيرة
واحتضار القافية" (10)
بهذه الطريقة تطوح الذكريات بالشاعر في متاهتها لتوقعه في حبالها التي لا يستطيع منها فكاكا، وتدور به دوران الرحى لتسلمه إلى الإحساس بالغربة والتشرد، لأنه لم يعثر فيما استعاده من ذكريات على نفسه، وهذا ما يدفعه في النهاية إلى استشعار مهانة الغربة في آخر قصيدة يوصد بها ديوانه "سيرة المطر" تحت عنوان: "عودة":
" في احتقان الكلام تدور الرحى وتدور
ويستيقظ الولد المتلاشي
من بعيد يجيء بلا أمل في العثور على نفسه
يتصدر صمت المكان
ويبدأ سهرته النازفة:
قلت لك
قبل عقدين لا أتذكر
أنا سنعثر في بعضنا ذات يوم.
...
لم تكن تتصيد خلف السحاب
ملامح وجهي
وتعبث بالكلمات المعادة
حتى تدور الرحى
وتدور المسافات ما بيننا
وتغيم العلاقة.(11)
ها قد اعترف الشاعر أن إبحاره في الذاكرة لم يغنم منه بالمأمول، وأن حلمه في العثور على نفسه قد خاب، وأصبح سجين شعره المثقل برغائبه التي لا يدري ما السبيل إلى تحقيقها ومن ثم ينثال عليه السؤال الجوهري الذي لا يعرف له جوابا: ما العمل؟
الهوامش:
محمد الأشعري: "سيرة المطر" نشر وتوزيع النشر العربي الإفريقي" الرباط، ط 1، 1988.
محمد الأشعري: "سيرة المطر" من قصيدة: "نوافذ لعودة البحر" ص 9.
محمد الأشعري: نفسه ص 10.
محمد الأشعري: نفسه ص 11
محمد الأشعري: نفسه ص 12.
محمد الأشعري: "سيرة المطر" ص 15-17 و27 (بتصرف)
محمد الأشعري: "نشيد السحاب" ص 30.
محمد الأشعري: "قباب باهتة... قرميد ناصع" ص 62-63.
محمد الأشعري: "مرئية المجنون" ص 75-76.
محمد الأشعري: نفسه، ص 77.
محمد الأشعري: "عودة"، ص 77-78.