يقول الشاعر والمترجم نور الدين ضرار في مقدمة منجزه الإبداعي الموسوم بباقات من حدائق باشو " تبدو قصيدة الهايكو للوهلة الأولى في تحققها على الورق مجرد بذرة حبر باهتة، أو زخة مطر شفيفة، سرعان ما تتفتق بالقراءة المتأملة عن كون شعري لامتناه في مشهديته بتناسل لوحاته الرمزية وتوالد صوره الموحية..."(1)
من هذا المنطلق لا يسع المتلقي في حقل الهايكو إلا أن يشارك المبدع في تقاسم القصيدة إحساسا وفكرا والتقاطا وتأملا...وكثيرا ما عودنا الهايجين عبد الحق الموتشاوي على اقتناصاته البديعة والتقاطاته المدهشة، فنجده يموج مع الطبيعة في حركتها ويقف لسكونها وينبهر بجمالها ويستوحي رسائل طالما عجز غيره عن فك شفراتها، مستحضرا في ذلك خاصية من أهم خصائص الهايكو"السهل الممتنع" كما يراها الباحث مراد الخطيبي(2) ...
الطبيعة ذلك الكائن الحي الذي يستنشق الهايكست عطره ويحس بكل عرق يسري في أحشائه يجد فيه الموتشاوي مرتعا خصبا لتصوير مشاهده، مومئا إلى غناها وتنوعها تارة، ومنبهرا بجمالها وعذوبتها طورا، وحانيا على عناصرها في كثير من الأحيان...
يقول الهايكست المغربي عبد الحق الموتشاوي:
إنها تمطر الآن
والأشجار
الأشجار ترقص(3)
هذا الهايكو الشتوي الذي اتخذ من زخات المطر محركا لهدوء الطبيعة وسكونها، وصورة مشهدية أولى "المطر الآن" وكأن الزمن يتوقف اللحظة كما توحي بذلك الآنية تاركا المجال للهايكست ليسجل بآلته الخاصة برهة جمال مائسة...
"والأشجار" هل هناك قطع قبلها، أقصد الدلالي لأن التركيبي أساسي في الهايكو، لتستأنف الواو مشهدا جديدا يوحي بثنائية مبنية على التناغم أم المشاهدة الفعلية لمنظر آخر محوره رقص الأشجار ولا يقل حركية عن المشهد الأول، أم أن الواو للمعية فيجرب الهايكست في الأشجار فعل الإمطار، بعد أن تتساقط قطيرات الماء من أوراقها حنوا على أمها الأرض، كصلة وصل معاكسة بعد الجذع الذي ينثر فروعه في حضنها فكأني بالمبدع يقول : هما يمطران معا...
أم هي واو العطف لنقف على لحظتين تشتركان في الرقص، فنتصور رقص المطر بفعل الريح التي تأخذه يمينا وشمالا كما الأشجار التي تتمايل خضوعا وطواعية في الظاهر، لكن الهايكست استبطن ذلك حين لامس العمق بجعله طربا وفرحا واستعدادا لعطاء وارف...
هذه الالتقاطة المدهشة تجربة حياة، فمن منا لا يحتاج قلبه الغض إلى جرعة من غيث نافع، تخرجه من دوامة أحزان لا تنقطع، ونضوب عاطفي لا يرتوي، أوعزلة ووحشة بنارها وحيدا يكتوي...جرعة هي الروح لابتسامة مفقودة، وتفاؤل لليل بهيم متشائم، وشروق جديد لشمس آفلة...فالماء رمز الحياة وأساسها، والنهل من ينبوعه وصال مع الوجود، وجرعة عشق سرمدية تسمو بالروح في مدارج السعادة والانتشاء...
تكرار كلمة "الأشجار" في السطرين الأخيرين حقق توازيا إيقاعيا من حيث إعادة المقاطع خصوصا المنبورة منها، ودلاليا بالنظر إلى مركزية الأشجار في هذا الهايكو عند تصوير الهايكست للحظة رقصها فرحا بقطرات المطر التي تزيدها طهرا وصفاء ونضارة وتنسي في عمرها ترقبا واستشرافا لزحف الربيع.
بالكيغو الواضح والتنحي والبساطة والإحساس بعناصر الطبيعة في أبهى تجلياتها يحقق هذا الهايكو كلاسيكيته ويتبوأ مكانة بين ناثري الجمال في جنس أدبي مائز يبحث عن موطئ قدم في الشعرية العربية الحديثة.
إحالات:
(1) نور الدين ضرار باقات من حدائق باشو مختارات مترجمة من هايكو اليابان دار الفنك الدار البيضاء 2019
(2) مراد الخطيبي شعر الهايكو بين اختزال اللغة وعمق الصورة سامح درويش نموذجا مجلة البحرين الثقافية ع 92
(3) صفحة الأستاذ عبد الحق الموتشاوي على الفايسبوك