إلى حميد المهداوي: "لقد رابت الحفلة يا صديقي" ص 5
إن الرواية هي فضاء تخييلي بامتياز، إذ تمنح المؤلف الانسان مساحة ورقية للتعبير عن دواخله آلاماً وآمالا، أنواراً ونيراناً، إلا أنها –وبالرغم من كل ما تختص به- تظل ابنة هذا الواقع الذي يشكل منطلقها الأساس، ومسعاها الأسمى، بينما التخييل يتخذ فقط أبعاداً فنية وجمالية، وبناء عليه، فإنه لا يمكن أن ننظر للرواية باعتبارها نسيجاً من وحي خيال صرف لا تتقاطع حدوده مع الأبعاد الوجودية الأخرى بما في ذلك الحياة الواقعية.
وفي هذا السياق، يقترح علينا الروائي والصحفي المغربي عبد العزيز العبدي في روايته الجديدة، الصادرة عن مطبعة Teamprint نهاية العام المنصرم، والتي اختار لها عنوان "الدبابة"، أن يُدخلنا –كما عودنا دائماً- في عالم ساخر يمتزج فيه الجد بالهزل، البكاء بالضحك، الحكمة بالجنون والهبل.
هكذاً -إذاً- ينزوي عبد العزيز العبدي في زاويته المعتادة ويهزأ من كل شيء -كمن يجلس على حافة الجنون- غير عابئ بما يقع من حوله، غير مهتم بهؤلاء الحمقى الذين يظنون أنفسهم عقالا، يرشدوننا ما هو الصواب وما هو الخطأ، ويحددون لنا -وفقاً لمشيئتهم- ما ينبغي أن يكون وما لا ينبغي أن يكون، ويصنفوننا إلى أبرياء ومجرمين.
في ظل واقع متشظي يحيض بألف وجع وألف انفجار، وألف ألم وألف انكسار، يقرر عبد العزيز العبدي أن يركب دبابته / روايته -بكل عزم واقتدار- ويشهرها في وجه كل من يعترض سبيله، ويطلق عليه قذائف موت، قذائف حبر، قذائف حياة. فهل تراك قد أعلنتها حرباً؟ أم تراك قد أعلنتها حبراً؟
هل هي صدفة أم خدعة؟ بين الحبر والحرب، يجد العبدي نفسه شارداً في عالم خبيث ممتلئ بالمتناقضات، فلا يجد أدنى حرج في إدخال أشخاص حقيقيين –من عظم ولحم- إلى عالم الورق، دون شك ولا ارتياب، فتجده يكلفهم عناء تحمل خيالاته وأوهامه، فيورطهم في حوادث قاتلة ومميتة، مختبراً بالمصائب مدى صبرهم وتحملهم لخيالاته. إنهم قصاصات ورق، ارأف عليهم يا هذا.
لا يجد حميد وصديقه البوعزاتي شيئاً يفعلانه تجاه ما أمر به سيد الفضاء الذي يعود بهما إلى زمن الطفولة الأولى، حيث كانا مهووسين بامتلاك دبابة حقيقية، ومن أجل ذلك كانا يصنعان دبابة ورق، ويلهوان بها، وفي ذلك إشارة إلى الطفولة العنيفة التي مر بها الفرد المغربي، فمأساته الحقيقية تبدأ منذ طفولته، لتمتد إلى شبابه وهرمه.
يدفع العبدي بشخصيته البوعزاتي إلى أوربا ويجعله مستقراً بها، فيصير رجلا ذا طول وعرض، وذا جنسية استوانية، والطفل الذي بداخله لازال هو هو، لم يتغير، لازال مولعاً بالدبابات، لكن هذه المرة لا يريدها من كرتون، بل من حديد ودم، دبابة حقيقية يشتريها بحر ماله من شبكة دولية تنشط في الاتجار بالسلاح.
يتصل البوعزاتي بصديقه القديم حميد ليطلعه على الأمر: "حميد لقد اقتنيت الدبابة التي طالما حلمنا بها، لقد اقتنيتها وسنعمل على إدخالها إلى المغرب"، ويقع على عاتق حميد أن يدخلها للبلاد: "سيتكلف حميد بإدخالها إلى المغرب، واستقدامها إلى سلا، ليضعها في الحديقة قبالة العمارة التي نقطنها."
جاء اليوم الموعود، وجاءت الدبابة العجيبة على شاكلة "سحلية بنية واقفة على قدميها الخلفيتين"، وتسلمها في مدينة مليلية "المحتلة"، "خلف حاجز الجمارك وعلى الأرض المغربية"، لكنها حقاً دبابة عجيبة، ناطقة لا تتحدث إلا ما ندر، ولا ترصدها ردارات ولا مخابرات، خُلقت لتعيش طليقة حرة لا يصلح احتجازها ولا سجنها، فهي تجيد الانصهار والتماهي في الشوارع وبين الدروب.
حكاية الدبابة هي حكاية لم تكتمل بعد، تموت في منتصف عمرها، أو تبدأ حياتها في منتصف العمر، فتعيش النصف الثاني أو الأول شبه حياة، شبه موت، وشخصية العبدي -التي تتقد لهبا- لم تعد تطيق الانتظار خارج النص. ها هي ذي تتجسد شيئاً فشيئاً لتنسف نصاً بكامله، حياة برمتها، فكل ما قيل "كان مكتوباً سلفا في مكان ما"، وتم "نسخه على الورق".
رواية "الدبابة" هي رواية ثائرة، تنطلق من الواقع لتنسفه نسفا بعد ذلك في غيابات الوهم والعبث، تخترع شخوصاً، وأماكن وأزمنة ثم لا تجد حرجاً في الزج بالجميع في العدم، العبث، اللاشيء. وظيفهما ليس هو تقديم إجابات، بل وظيفها هي طرح أسئلة معقدة تظل لأجوبة مستحيلة، وتركها جوفاء معلقة على اللوح تنتظر نظرة قارئ ينفخ الروح فيها، يعيد لها الحياة.
رافضاً مبدأ البدانة في النص الروائي، على حد تعبير سعيد يقطين، اختزل العبدي روايته في 148 صفحة من الحجم المتوسط، وقسهما إلى ثلاثة وعشرين فصلا، لكل فصل عنوانه الخاص، ودفقاته الشعورية الخاصة به، لكن ما يغلب على النص هو أسلوب الاستفهام الذي سيطر على النص منذ بدايته حتى نهايته، فالنص بدأ بسؤال: "لا أدري لم تريد التملص من إنجازك العظيم؟" وانتهى بسؤال متبوع بنفي: "هل علي أن أنهي هذا النص اللعين؟ لا أعتقد... لا أعتقد.... لا أعتقد."
كما يغلب على النص توظيف أسلوب انسيابي، وأوتوماتيكي، حيث تمتزج الفقرة بالجملة، وتتماهى العبارة وشبه الكلمة لتصنع ذات النص، وتؤسس لأسلوب متفرد في الكتابة والتعبير، وظيفه الأساس هو تجاوز وطأة الرصانة والامتلاء، ومناشدة عالم ممكن تحتل فيه البياضات مكاناً لا بأس به في النص.
مثل قطعة لهب تواقة لهبة ريح، مثل طوق ياسمين تواق للتربع فوق أجنحة نورس، هي الدبابة التي امتطاها العبدي ليطلق بقذائفه الحبرية على الواقع السياسي المرير للبلاد، واقع ما فتئ يقمع حرية التعبير، وينكل بشرفاء الوطن وأحراره أشد تنكيل.