إن الغوص في أعماق المجموعة القصصية للقاص المغربي "محمد برشي" وهو ابن بلدة توجد في الجنوب الشرقي للمغرب ، يكشف بين ثناياها مشتركا حياتيا يربط حياة أبناء الجنوب بخيط يجعل أي قارئ لعمله الإبداعي يقف وقفة بين الأسطر ليسترجع شريط حياته الماضية ؛ سواء في طفولته أو مراهقته وخصوصا في مرحلة الدراسة الجامعية التي استأثرت صفحات الكتاب أن تكشف عنها ٠ وتبرز قيمة تلك القصص في ميل مبدعها تارة إلى الجدية في السرد لشد انتباه القارئ وليس أي قارئ إنما أولئك الذين ينتمون لنفس البيئة وطفت في عقولهم فكرة اجترار نفس المعاناة دون التفكير في بديل ينقل واقعهم إلى أفضل ولو في تفكيرهم ، وتارة أخرى يتوسل بالسخرية كبعد فني له قيمة رمزية ٠٠ يعمد من ورائه إلى الثقافة السطحية السائدة في المجال الجغرافي الذي ينتمي إليه وكذا إلى إبراز الوعي الفكري المحدود لدى فئة عريضة من المجتمع الذي لازال يعاني من ويلات الجهل والأمية٠
ويتجلى البعد الواقعي للمسرود في مؤلف " نرجسية الرجال" من خلال اعتماد الكاتب لضمير المتكلم في سرد عدة قصص تربطها بحياة الكاتب رابطة كونه سارد لها ؛ بتوظيفه ضمير المتكلم متبنيا الرؤية مع كمصاحب لصوته كسارد وكبطل لتلك القصص ٠ فضلا عن تبنيه تقنية التواري خلف الأحداث كسارد يعلم كل ما تحمله الشخصية في دواخلها ، والقصص المتضمنة في أثره الأدبي تربطها رابطة ارتباطها بفئات اجتماعية تعيش ويلات واقع ينخره التهميش ؛ ويعكس هشاشة الواقع الاجتماعي ٠
وفيما يخص اللغة المعتمدة فهي ذات بعد ايحائي يهدف من خلالها القاص إلى تقديم كل ما يلزم للقارئ دون تركه في عناء البحث والتقصي عن المراد إنما يقدم له كل ما يشبع تشوقه لما ستؤول إليه الأحداث بعبارات مقتضبة ومعبرة وذات صفة شاعرية تنم عن تمكن القاص من لغة السرد مع ميله في بعض الأحايين إلى الانزياح اللغوي تماشيا مع العبث الذي تعيشه بعض الشخصيات ٠ ومايزيد من غنى لغة الكتاب توظيفه لتقنية التهجين بإقحامه لبعض العبارات العامية من الدارجة المغربية علاوة على استعمال لغته الأم الأمازيغية بحمولتها الثقافية والرمزية ٠
ولسبر أغوار الإنتاج الذي أثمره القاص ابن مدينة ـــــ ملعب ــــ بتنجداد الحاصل على الاجازة في القانون ؛ يكفي القول بأنه تكلم باسم فئات محددة من المجتمع ، والجامع بين هذه الفئات أنها ضحية واقع قد تكون اختارته لنفسها أو قد يكون العكس ، كما تحضر الثنائيات بحمولاتها الدلالية والثقافية والفكرية : الأنا ـــ الآخر ، الرجل ـــ المرأة ، العلم ـــ الجهل ، الشرق ـــ الغرب ، الفقر ـــ الغنى ٠٠٠
وبين دفتي الكتاب استوقفني العنوان الذي ارتأى القاص أن يجعله جملة اسمية تجمع بين كلمتين تحيلان على الاقصاء والطرف المقصي هنا هو المرأة ؛ حيث ابتدأت المجموعة بقصة عنونها الأديب "كمين الواتساب" ، فهذا العنوان من أول وهلة يجعلك كقارئ تفطن إلى أن المضمون سيتمحور حول شخصية وقعت ضحية ما أفرزه العقل الالكتروني من آلات ووسائل وقعت بين يدي أشخاص لا يعلمون من التكنولوجيا إلا الاسم غير أن مقصود القصة هو كشف ذلك الذئب الذي يسكن الرجل والذي يخفيه حتى يصل مبتغاه فتنكشف حقيقته ، وتكون المرأة ضحية له ٠ نفس النتيجة نجدها في القصة الأخيرة من المؤلف إلا أنها بسيناريو مغاير ؛ حيث عمد القاص الى تبيان الأنانية التي يقصي بها الرجل مكانة المرأة ٠٠ دون تفكيره في عواقب ذلك وما قد يسببه من أزمات وعقد نفسية تجعلها تحمل عبء ذلك لتعيش حياتين : إحداهما تتقاسمها مع الناس والأخرى تعيشها داخليا ومن هذه القصة الأخيرة اقتبس القاص عنوان الكتاب .
ويلعب سارد الحكايات على وتر الهموم التي تعكر صفو عدة شخصيات من حكاياته حيث تنبعث منها نغمات البؤس والمعاناة وكذا الصراع الداخلي الذي يُدخل بعض الشخصيات في متاهات نفسية تكاد توصل الشخصية إلى ما لا تحمد عقباه ٠ علاوة على تناول الكاتب لبعض المغامرات الجنسية التي خاضتها شخصية من قصة "الإيدز" رغبة من الكاتب في الكشف عن أثر غياب التربية الجنسية في المجتمعات المصنفة ضمن قائمة العالم الثالث ، اعتقادا منها أن الخوض في أمور الجنس يفتح باب الجحيم على مصراعيه ؛ غير أنه جحيم جعل شخصية هذه القصة تعيش نغمة فرح على وقع أسى ضحايا شركة النجاة ٠ إلى جانب ذلك فقد سلط الكاتب الضوء على الحياة الشقية التي يعيشها الطالب المغربي ؛ وخصوصا المنحدر من الجنوب الشرقي ، مع إبرازه للأزمات النفسية التي تعكر صفو فئة من الأطفال المتخلى عنهم في مجتمع توغل في المفارقات ، كما لم يفوت الكاتب الفرصة دون التصريح بمجمل الصفات التي يتصف بها أبناء المنطقة من نية صادقة ودماثة الأخلاق كما تعكس ذلك قصة " اتق شر من أحسنت إليه " ؛ والتي جسدت قيما هجينة تسود في المدينة المثخنة بالفوارق الطبقية ، بإباحة استغلال الأغنياء للفقيرات جنسيا ، وتحاشيا للفضيحة قد يجعل ذلك الضحية تبحث عن حل ولو على حساب ضرب القيم الانسانية عرض الحائط ؛ إلا أن بطل الحكاية رغم المكيدة التي حيكت له ، وبراءته مما وُجِّه له ؛ ارتأى الإبتعاد عن المكان ٠
أما حكاية "ما بعد الاجازة" فهي تمثل صورة كاريكاتورية لواقع الطالب المغربي الذي تتلقّاه أيدي الشارع ، بعدما تلقي به أسوار الجامعة خارجا ، ليخوض في مرارة البحث عن بداية حياة جديدة بعدما وضع أوزار حرب ضروس مع سنوات من الدراسة والمثابرة ؛ يخرج منها منتصرا بذلك الرصيد المعرفي الذي يختزنه ، بينما يخرج منهزما عندما تلحن على مسامعه نغمات السخرية من قبل (مْعلمي) البناء الذي يمارسون ساديتهم على الموجزين ذوي الحظ السيء ، إلا أن ٱخر القصة يجعلنا نستشف أن معاناة البطل ستنفرج بعد توصله بخبر مفاده أنه مقبول ومرحب به في بلاد العم سام ٠ وانطلاقا من هذا يتبين لنا أن الكاتب في عالم الغربة ؛ حيث يشده الحنين ونوستالجيا ماضيه ومنطقته ما يجعله ينسج قصصه على هذا المنوال ٠
عموما فالمجموعة القصصية الموسومة ب "نرجسية الرجال" لعبت دورا أساسيا في جعل قارئها يبوح لنفسه بقواسم مشتركة بين أحداث بعض قصصها وبين واقعة من وقائع مرّ بها في حياته ٠ لذلك فالعمل الإبداعي لمحمد حرشي ذو بعد واقعي ، كما أن له الفضل في خلق فكرة أن المغرب العميق رغم الهشاشة التي يعيشها ؛ له الاستطاعة في إنجاب أقلام إبداعية تتغنى بنغمة الأمل في واقع قاس قسوة مناخه ، وابن منطقة تنجداد من طينتهم ٠
بقلم ذ٠رشيد ابراهيمي
8 _ 2 _ 2020