مدخل:
      تأخذنا أقصوصة الصمت عبر مناخات وحشية القمع وجحيميته إلى مرجعيات نصية ضاربة عميقا في وجدان القارئ العربي، مخترقة بقوة نص الأقصوصة آخذة بتلابيبها نحو إحالات شتى وأجناس كتابية متنوعة منها الشعري ومنها القصصي على غرار روايات "اللص والكلاب" و"الشحاذ" لنجيب محفوظ، و"شرق المتوسط" و"الآن هنا" لعبد الرحمان منيف، وأقاصيص زكريا تامر ومحمد الماغوط... أما من النصوص الشعرية فيمكن أن نذكر على وجه الخصوص أشعار مظفر النواب. وهي نصوص تظل مهما سعى النص المبدع إلى طمس معالمها تطل لمحا من وراء الغيب فاتحة أرشيف الكتابة كاشفة كواليسها. وهي ملامح تشمل مختلف العناصر القصصية. ونعني بها أبنية السرد والزّمان والمكان والشخصيات. وحسبنا التأنّي لدى هذه الأبنية للوقوف على ملامح تلك المناخات وسبل صياغتها، غير أن ولوج النص يلبث رهين التوقف عند عتباته .
1- في عتبات النص:
     نقف في هذا النص على عتبتين اثنتين هما العنوان والتصدير.
1-1- عتبة العنوان: الصمت

Anfasse10122 الأكيد أنّ كلّ كتابة لاحقة أو بالأحرى مؤجلة ، تجبّ ما قبلها، تماما كما سوف نستشفّ من إرسالية شعرية تفنّنت في ملامسة الصّميم الإنساني، وطبيعيّ جداّ أن الازدهار الإبداعي ليس يتحقّق بسوى صقل التجارب ومراكمتها،مثلما أنّ الكمّ يولّد الكيف انتهاء.
هذا حين تعبق الوشاية وتتضوع من ذات شكّاكة قلقة تدمن كتابة ممسوسة بعذرية أبدية. نكتب وكأنّنا لا نكتب،لأنّ هواجسنا ما تنفكّ ترتع وتمتاح من تفاصيل حواشي تجريبية تندغم إيقاعاتها في نبض حياتي يتسارع مخترقا جيوبا غيبية مغرية ومحرّضة على المقامرات التعبيرية خارج التصنيفات الأجناسية،وطاعنة بانثيالات موسيقية لخطى عبورنا في انرسام شبه مثالي داخل حدود خارطة الحلم الذابل في دورة انخطافه و خفّة عبوره.
تلقّفا لنفحات الأمل العابر . نحو الأفضل وإن توهّما .نحو خلاص رمزي منوطة به منظومة ما يؤهّل الذات لمشاغبة أو مناطحة عالم تجاوز إنسانيتنا ببشاعته وسلبيته وشتى مناحيه المنقوصة.
سأنتظر خروج الحروف الصّامتة..

Anfasse10121َلاَ تراني ..................
كَقُبلَةِ ترابٍ / على / خدِّ نهر
كَسَرابٍ مخمورٍ / تائهٍ في لُجَجِ بحر
أمشي / غبارًا / رمادًا / فوق وجْهِ قبر
الشاعر عز الدين بوسريف

•قنديل بلون الماء
لا تقف أمام بابه
واترك نعليك
المبللة بقصائده الزرقاء
كي تراه لغةً
تطير بجناحي فراشة
بين الماء والهواء
يقول:
أراني بين يدي الشعر أنخطفُ
ومن فوق كتفي العالم أتأمل هذا العماء.
..............

anfasse29119لطالما اتهم شعرنا القديم بأنه شعر خالي من الفكرة قياسا إلى الشعر العالمي وتحديدا الشعر الأروبي، ذلك أن النقاد والدارسين خاصة المستشرقين أخذوا عليه مآخذ تلخص في كون شعرنا القديم سقط في فخ التقليد. فإذا كان امرؤ القيس قد وقف على الأطلال فبكى واستبكى حسب كثير من الشعراء أن هذا هو طريق الشعر وحده  وأن الشاعر الذي لا يبكي على الأطلال ليس بشاعر ، وأن القصيدة التي لا تستهل بذكر الطلل ليست بقصيدة ، حتى ولو كان الشاعر ما عرف طللا في حياته ، وأخذ على شعرنا أنه شعر الانفعال الحاد والعاطفة المشبوبة كأنها فرس جموح لا تسلس القياد للعقل ، وشأن العاطفة الحادة في الفن كشأن الشهاب يلمع فجأة نارا ونورا ثم يخبو ضوئه وينتهي رمادا ، والشعر رؤيا ذاتية وصياغة جديدة للعالم قوامها العاطفة الهادئة والفكرة المتأملة بغير مبالغة تشط عن حقائق الوجود أو تنكر في صلف ما هو من يقينيات الطبيعة والحياة ، وأما سقوط شعرنا في فخ الخطابية فذلك شأن لا ينكر ومن شأن الروح الخطابية أن تسطح الفكر والشعور وتجنح بصاحبها إلى الرياء، وتدفعه رغما عنه إلى كد الذهن في استقصاء الألفاظ المدوية والعبارات الرنانة والاستعارات البديعة والتشبيهات غير المسبوقة حتى يوصف صاحبها بالبليغ وبالشاعر المقوال ويستل من النفوس الإعجاب ومن القلوب المودة ومن خزائن السلطان المال الوفير .

anfasse29115لعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا ، إن الأدب الكلاسيكي الروسي ، هو الإسهام الروسي الحقيقي في تطور الثقافة العالمية . فهو يحتوي على عدد كبير من الروائع الأدبية ، التي لا زالت تحتل مكانة مرموقة في الأدب العالمي . وهذه حقيقة يعترف بها كل متذوق للأدب الرفيع ، أتيح له الدخول الى العالم الساحر لعمالقة الأدب الروسي ، عالم  العواطف الجياشة والمصائر التراجيدية ، الزاخر بالقيم الإنسانية ، والأخلاقية ، والروحية المشتركة بين البشر ، بصرف النظر عن العرق والدين والثقافة ، لذا فهي مفهومة وممتعة لجميع محبي الأدب الحقيقي في العالم حتى يومنا هذا .
عندما اطلع القاريء الغربي على الأدب الروسي الكلاسيكي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وقع في عشق هذا الأدب. ولم يمض وقت طويل حتى شرع نقاد الأدب في أوربا ومن ثم في أميركا ، يتناولونه بالبحث والدراسة، وأخذ عدد كبير من الكتاب الغربيين يتعلمون منه تقنيات الكتابة .
كان  القرن الماضي ، قرن الأدب الروسي الكلاسيكي  في الرواية ،والقصة ،والمسرح ، والسينما. قرن تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف ، ولم يستطع أي أدب  قومي ، او وطني في ابعد زاوية من عالمنا الفسيح ، أن يتجنب تأثير هذا الأدب الملهم ، الذي ترجمت روائعه الى أكثر من (170) لغة من لغات العالم مرات عديدة ، وصدرت في طبعات متلاحقة ، وحولت الى افلام سينمائية ناجحة في هوليود وفي بقية انحاء العالم. ويكفي ان نقول ان السينما العالمية أنتجت ( 234 ) فيلماً ، مستوحاة من قصص ومسرحيات أنطون تشيخوف، منذ ظهور السينما الصامتة وحتى اليوم .

Anfasse19118مدخل :
في خاتمة  رواية “الغريب” للكاتب و الفيلسوف الوجودي الفرنسي ألبار كامو ، حمّلنا ” مُرسو” بطل الرواية أمنية أخيرة قبل إعدامه وهي :”أن يحضر إعدامه جمعٌ غفيرٌ ، و أن يستقبلوه بصرخات حقدٍ” ، فاتنا ربما أن نحضر لحظة الإعدام   لكنّ الصّرخات الحاقدة ما تزال ممكنة خاصة حين نتذكرّ قول عبد الرحمان منيف في رواية ” شرق المتوسط ” إذ يهمس فينا : “أريدك إن تكون حاقداً وأنت تُحارب، الحقد أحسن المعلمين، يجب أن تحول أحزانك إلى أحقاد، وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تنتصر، إما إذا استسلمت للحزن فسوف تهزم وتنتهي، سوف تهزم كإنسان، وسوف تنتهي كقضية”  و لأننا نزعم الدفاع عن قضيّة سنلتزم بنصيحة هذا الأخير و نحققّ أمنية الآخر ، نعود إلى عنوان القراءة بعد أن بيّنا سبب وصفها بالحاقدة و نمر للحديث عن” الغريب البار كامو “، إذ لا نرى أيّ غرابة في وصف بطل روايته بالغريب برغم تكلّس مشاعر”مرُسو” و تبلّد أفكاره العبثيّة اللا مبالية  إلا إنها بالنهاية شخصية سرديّة و محض خيال ، لا واقع لها خارج سياقها القصصي أو زمنها الروائي لهذا كلّ ما يصدر عن الشخصيّة الرئيسيّة يمكن أن يفهم و إن يوضع في سلّته العبثيّة و الوجوديّة لكن مكمن الغرابة بالنسبة لنا هو كاتب الأثر  الذي بدا لنا في كامل الرواية -التي شغلت الناس منذ عقود – صاحب أجندة دفاع كولونيالية  هدفها التسويق لفرنسيّة الأرض الجزائرية وفي ازدراء تام للحضور العربيّ واقعا و تخييلا ضمن الرواية حاول التسويق أيضا للإنسانية الفرنسية التي تحاكم مواطنيها بتهمة ” دفن الأمّ بقلب مجرم” مهمّشا تمام التهميش الضحيّة العربيّ الذي قتل بدم بارد .

Anfasse09115أولا: الهامش
توطئة
منذ النقلات التي حققها العملاق نجيب محفوظ في الفن الروائي، تبوأت الرواية مكانها وتربعت على عرش الفنون والآداب، وظهر جيلٌ جديدٌ من الرواد، ساهموا في دفع حركة الإبداع في الرواية العربية، وبشكل خاص إبان الحقبة الناصرية، التي شهدت ميلاد العديد من الروائيين المهمين، والذين تركوا آثارًا لا تندرس في أدب الرواية بشكل خاص، والأدب بشكلٍ عام، وهي فترة كانت الظروف  الموضوعية مهيأة، وهي تغيرات كيفية، قامت على تراكمات كمية، منذ فجر الرواية الذي أَذنَّ له << محمد حسين هيكل بروايته زينب>> وواصل الإمامة يحيي حقي،  ثم نجيب محفوظ و..هلمجرا ، وذلك بالطبع جزء من ديناميكية وحيوية المجتمع المصري، ووجود القوى الثورية والمناضلة، التي تقاوم الاحتلال (  إبان الملك وأعوانه) والاستعمار و الهيمنة الجديدة فيما بعد، مربوطةٌ بالبعد الاجتماعي والطبقي( شعارات الاشتراكية).
ومن الذين برزوا في هذا الزمن، وأصبح لهم باعٌ طويل أديب  مقالنا << جمال الغيطاني، وقبل أنْ نبدأ موضوعنا نلقي الضوء على حياته و مسيرته الإبداعية، من خلال بانوراما سريعة، ستفيدنا  عندما نتعامل مع الرواية التي سنتحدث عنها بعد قليل.

Anfasse09112غدونا لذي الأفلاك لعبة لاعـــب 
أقول مقالا لست فيه بكــــــــاذب    
على نطع هذا الكون قد لعبت بنا
وعدنا لصندوق الفنا بالتعاقــــب
                            عمر بن إبراهيم الخيام

إذا كان المعري في الشعر العربي هو " شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء" ذلك أنه ضمن شعره آراءه الفلسفية في الحياة وخلاصة تأملاته وقراءاته في الفكر الفلسفي وقد جمع ذلك كله في  "اللزوميات"، فحق لشاعر نيسابور وعالمها عمر الخيام أن يدعى شاعر العلماء وعالم الشعراء، فقد جمع بين  العلم الدقيق والفن الأصيل وزاوج بين التأمل في العدد والتأمل في الوجود، فجاء في شعره كما جاء في علمه فرادة إبداع وأصالة فكر وصدق فراسة وحرارة وجدان، وحق  لزبدة إبداعه الشعري المعروفة بـ "الرباعيات" أن تنال مرتبة الخلود ومرتبة العالمية ، ذلك أنها خير ما أبدعته فارس من الشعر الجامع بين عمق الفكرة وجمال العبارة وصدق الشعور وحق لعمر الخيام أن يستوي بين شعراء فارس شاعرا فذا من كبار شعراء الإنسانية وأن تكون رباعياته زادا فكريا وجماليا وإنسانيا خير ما تهديه فارس إلى العالم .
وحياة الخيام غامضة لا نعرف عنها الكثير وأول شك ينتاب الباحث هو تحديد تاريخ ميلاده وقد تضاربت الروايات في ذلك ومن المرجح أنه ولد في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري وقد عاش في زمن السلاجقة

مفضلات الشهر من القصص القصيرة