• تقديم
    يستأثر التّواصلُ الإشهاريُّ بأهميّة بالغةٍ في عصرِ الاقتصادِ الرأسماليّ المُشرعِ على تحولاتِ السّوقِ. إنه-بهذا المعنى-أسُّ العمليّة التجاريّة؛ فبواسطتهِ يَتَأتى للشركاتِ الترويجُ لمنتجاتها، وتحقيقُ الأرباحِ المنشودةِ. وبواسطتهِ، أيضاً، يغدُو بِمُكنةِ هذه الشّركاتِ خلقُ مستهلكٍ شرهٍ، وجائعٍ، لا يني يطلبُ المزيدَ لإشباعِ رغباتٍ دائمةِ التفجُّر في داخلهِ. وبعبارة أُخرى، يتحدّد الإشهارُ-استناداً إلى تعريفاتِ القواميس-بِعَدِّهِ شكلاً من أشكالِ التّواصلِ الجماهيريِّ؛ وُكْدُه حَفزُ المُستهلكِ على شراءِ منتجٍ ما، أو اعتناقِ تصورٍ في الحياةِ.

الإشهارُ، استتباعاً، نشاطٌ مركبٌ أو عملٌ تقنيٌّ يقتضي تضافر مجهوداتِ مختصّين في مجالاتٍ معرفيّة مختلفةٍ. بيانُ ذلك؛ أن المرسلةَ الإشهاريّة ليست حيزاً غفلاً؛ بل إنها-كما سنتعرّف ذلك مع جُون ماري درُو-فضاءٌ منظمٌ من العلاماتِ والرّموز المتماهيّة، والتي تستمدُّ نُسغها من الثقافة والأعماقِ الميثولوجيّة والأنثربولوجيّة والنفسيّة والاجتماعيّة للمستهلكِ. وبهذا، فهي تستبطنُ استراتيجيّة غايُتها المُثلى إقناع المستهلكِ، طوعاً أو قسراً، بجدوى وفعاليّة المنتجِ المُسْتَهْلَكِ.

1
التفاعل الإنساني مع عناصرِ التاريخ وتراكيبِ البُنى الاجتماعية ليس له قانون ثابت ، لأن شرعية التفاعل الإنساني مُستمدة مِن قُدرته على توليدِ قوانين جديدة ، وكسرِ القوالب الجاهزة ، والخُروجِ مِن الأُطُر المفروضة على أنظمة المجتمع التي تُعْتَبَر المُحرِّك الحقيقي لتاريخ الفرد والجماعة . والتوليدُ المُستمر للقوانين المعرفية يهدف إلى تكوين أنساق مجتمعية وظيفية تستطيع الربطَ بين حركة التاريخ والحراك الاجتماعي في الظواهر الثقافية ، باعتبار أن الثقافة هي النسقُ الحاكم على انعكاسات الشعور في الواقع المادي ، والسياقُ المُتحكِّم بفلسفة العلاقات الاجتماعية ، التي تعتمد على المبادئ الأخلاقية ، وتستند إلى المعايير الإبداعية .
2

 1
وظيفة الطاقة الرمزية في اللغة هي تجذيرُ الفكر الاجتماعي في الشعور الإنساني ، وتكريسُ الشعور الإنساني في الظواهر الثقافية ، مِمَّا يَدفع باتجاه توليد أنظمة فكرية نَقْدِيَّة ، تستطيع ضبطَ حركة التاريخ اللغوي في التحولات الاجتماعية ، واستعادةَ العناصر المعرفية التي غابت في طَوَايا التاريخ . وهذا يعني أن مفهوم النقد في الأنظمة الفكرية يقوم على الرابطة بين التاريخ اللغوي والتاريخ الإنساني ، ويستمدَ القُوَّةَ مِنهما ، مِن أجل إنشاء إطار عقلاني يستوعب التَّغَيُّرَ في تفاصيل بناء المجتمع ، والتَّغييرَ في جُزئيات تفسير المعرفة . والإشكاليةُ في هذا السِّياق تكمن في عَجْز الأنساق الاجتماعية عن التمييز بين النَّقْد والنَّقْض بشكل عملي تطبيقي . والقُدرةُ على التعريف اللغوي لا تستلزم بالضَّرورة القُدرةَ على التأطير الواقعي ، لأنَّ الذاتي يختلف عن الموضوعي ، والنظري يختلف عن العملي ، ووضعُ النظرية يختلف عن تطبيقها .

1
تفسير الظواهر الاجتماعية يرتبط بتأويل الرموز المعرفية في اللغة.وكُلُّ مُجتمع إنساني لا يعيش داخل اللغة، سيجد نَفْسَه بلا هُوِيَّة ولا بَصْمَة ، وهذا يعني أنَّ إيقاع الحياة اليومية سيعيش في الفراغ ( خارج الزمان ) ، وتاريخ التحولات الشعورية سيعيش في العَدَم ( خارج المكان ) . لذلك ، يجب على الإنسان إعادة اكتشاف اللغة ، لَيس مِن أجل إكمال نَقْصِه أوْ توسيع أُفُقه فَحَسْب، بَل أيضًا مِن أجل تكوين منظومة وجودية قادرة على تكوين الدَّلالات اللغوية في الأنساق الاجتماعية ، وتفجيرِ الطاقة الرمزية في اللغة ، كَي تصبح اللغةُ قادرةً على توليدِ الأزمنة والأمكنة باستمرار ، وتأسيسِ قواعد منهجية لتفسير الظواهر الاجتماعية ضِمن صَيرورة ثقافية ، تستطيع تحويلَ الشكل إلى مَضمون، وإحالة المَضمون إلى مُستويات الوعي الفردي والجماعي . وعمليةُ ارتباط المَضمون بالوَعْي تُجسِّد فلسفةَ اللغة رمزيًّا واجتماعيًّا ، لأن هذه العملية هي التي تُشكِّل نظامَ المعرفة الإنسانية الذي يتكوَّن مِن المَعْنى والوَعْي بالمَعْنى . وهذه الثنائيةُ الفكرية تُمثِّل مركزَ الظواهر الاجتماعية ، الذي يُحوِّل الطاقةَ الرمزية في اللغة إلى كُتلة إنسانية في المجتمع .

 1
البُنية الاجتماعية هي التجسيد الحقيقي لأحلام الإنسان ضِمن منظومة إنتاج الوَعْي ، وتوظيفه في السِّياقات الثقافية ودَلالاتِ الهُوية التاريخية . وهذا التجسيدُ لَيس فلسفةً للوجود الاجتماعي في الوَعْي الإنساني فَحَسْب، بَل هُو أيضًا صِيغة عقلانية تَرْمي إلى إعادة بناء التاريخ المُتَشَظِّي في أعماق الإنسان وتفاصيلِ المُجتمع ، من أجل تحقيق التكامل بين الخصائص الجوهرية لحركة التاريخ والمعاني الحَيَّةِ لرمزية اللغة . وهذا التكامل مِن شأنه كشف المفاهيم الفلسفية المركزية التي تُسيطر على أعمال الإنسان ، وتتحكَّم بسُلوكه ، وترسم مسارَ حركته في غُربته الوُجودية واغترابه عن ذاته . وإذا نجح الإنسانُ في إيجاد علاقة منطقية بين طاقةِ التاريخ المُحرِّكة للأحداث الواقعية وطاقةِ اللغة المُحرِّكة للمشاعر الدفينة ، فإنَّه سَيَنجو من الاغتراب الذاتي ، ولَن يَشعر بالصراع بين الوَعْي المعرفي وانتحارِ المَعنى . ومُشكلةُ الإنسان في الأنساق الحياتية تتَّضح في طبيعة تركيب العَالَم الذي يعيش فيه ، فهو يعيش في عَالَم يَنتحر فيه المَعنى ، وتَؤُول فيه قيمةُ الكِيان الإنساني إلى شُعور بالغُربة وانفصالٍ عن الذات ، وتصير شُروطُ الكَينونة الإنسانية معاييرَ استهلاكية فاقدة للرُّوح والغاية . وينبغي استنباط حُلول عملية لهذه المُشكلة من المعرفةِ النقدية والخِبرةِ الحياتية والتجربةِ الاجتماعية ، للحفاظ على تماسك المجتمع الإنساني في وجه التحديات الوجودية والأزمات الوِجدانية .

1
تحويل الأفكار الثقافية إلى ظواهر اجتماعية يتطلَّب إزالة الحدود بين الشعور والوَعْي ، وفتحهما على تاريخ الوجود الإنساني بكل تفاصيله . والغايةُ من هذه العملية تكوين أساس منطقي للمجتمع ، باعتباره نظامًا للمعاني الرمزية في سُلوكيات الفرد واتِّجاهات الجماعة ، ومنظومةً للتجارب الوجدانية والتغيرات المادية . ولا يُمكن للمجتمع أن يجد هُويته الشخصية ومَعناه الوجودي وماهِيَّته التاريخية إلا إذا انفتحَ على نَفْسِه ، وفَكَّ العُزلةَ عن أنساقه الداخلية ، وكَسَرَ الحواجزَ بين دَلالات الوَعْي وتطبيقاته . والإشكاليةُ المركزية في بُنية العلاقات الاجتماعية لَيست شُعور الفرد بالغُربة ، وإنما اغتراب المجتمع عن ذاته ، بسبب غرقه في متاهة النظام الاستهلاكي المُغلَق ، وهذا يُشعِر الفردَ بأنه مُنفصل عن الفاعلية الشعورية والتفاعلِ الاجتماعي ، وأنَّه يَدُور في حَلْقة مُفرَغة ، وعاجز عن إيجاد مكان له في سِياق عملية الاتِّصال بين أجزاء المجتمع . وإذا وَجَدَ الفردُ نَفْسَه خارج عملية الاتِّصال الاجتماعي ، فقد القُدرةَ على التواصل مع العناصر الثقافية والمُكوِّنات اللغوية . وهكذا تتكرَّس القطيعةُ المعرفية بين التَّصَوُّرات الذهنية المُجرَّدة والتطبيقات الاجتماعية المحسوسة .

 1
البحث عن منظومة لغوية رمزية تستطيع تفسيرَ تاريخ الفِعل الاجتماعي ، وعلاقاته المتشابكة في البيئة المُعاشة ، وانعكاساته الثقافية على شخصية الإنسان وبُنية المجتمع ، يتطلَّب استنباطَ تراكيب فلسفية مِن الواقع المادي ، ويستلزم إيجادَ رموز معرفية على تماس مباشر مع الحياة العملية . والواقعُ المادي هو منبع فلسفة الأفكار ، والحياةُ العملية هي مصدر التفسيرات للظواهر الاجتماعية الحاكمة على السلوك الإنساني ، الذي يُمثِّل منظومةً عقلانيةً تشتمل على الموضوع ( الإنسان ) والحامل ( الواقع ) والمحمول ( الذهن ) . ومهما كان العقلُ الجمعي مُتَمَيِّزًا ومُتَفَرِّدًا ، سيظل أداةً وظيفيةً للنهوض بالواقع ، لأن العقل الجمعي لَيس بَرَّ الأمان ، وإنما هو وسيلة للوصول إلى بَر الأمان . وهذا يعني أن العقل والواقع كِيانان مستقلان تربطهما مصلحة متبادلة ومصير مُشترك، والعلاقةُ بينهما يتم تحديدها وفق طبيعة التفاعل بين الإنسان واللغة من جهة ، والإنسان والمجتمع من جهة أخرى . وهذا التفاعل المُزْدَوَج يُمثِّل الخُطوةَ الأُولَى لتحويل الإنسان إلى كَينونة لُغوية ، وتحويل المجتمع إلى كِيان إنساني .

1
يُمثِّل التجانسُ في العلاقات الاجتماعية نظامًا ثقافيًّا مركزيًّا،وقيمةً أخلاقية مُرتبطة بطبيعة السلوك الإنساني. والتجانسُ لا يعني التطابق التام ، أو التقليد الأعمى ، أو اعتماد سياسة القطيع. وإنما يعني التوافق في المبادئ الأساسية ، والاتفاق على الأفكار العامَّة ، والوصول إلى نقطة مشتركة في مُنتصف الطريق ، واعتماد الحُلول الوسط ، التي تضمن تحقيق مصالح الجميع بلا إقصاء ولا تمييز . لذلك كان التجانسُ بناءً عقلانيًّا قبل أن يكون بناءً اجتماعيًّا ، ومنظومةً فكرية تُساهم في صناعة العقل الجمعي من أجل تحقيق التكامل لا التماثل .
2
الإشكاليةُ في فلسفة البناء الاجتماعي هي أن البعض يعتقد ضرورة تحويل الناس إلى نُسَخ مُتشابهة لتحقيق التوافق ، ويؤمن بحتمية صَهر جميع الهُوِيَّات والثقافات في بَوتقة واحدة لتحقيق التجانس ، ويَتمسَّك بأهمية إزالة الاختلافات في الآراء ووُجهات النظر لتحقيق الوَحدة . وهذه الأفكارُ تُمثِّل خطرًا حقيقيًّا على طبيعة النسيج الاجتماعي ، لأن كُل إنسان يمتلك بصمته الحياتية الخاصَّة ، ويُمثِّل نظامًا وجوديًّا قائمًا بذاته ، ويُشكِّل منظومةً فكرية مُستقلة ، ويُجسِّد هُوِيَّةً عقلية مُختلفة . وكُل إنسانٍ نُسخةٌ أصلية ، ولا يُمكن تحويله إلى نُسخة مُقلَّدة ، والأصل لا يَكون فَرْعًا . وهُنا تكمن قُوَّة الإنسان باعتباره الجِنس المُفكِّر الأرقى والنَّوع الحياتي الأسْمَى .