1
يُمثِّل التجانسُ في العلاقات الاجتماعية نظامًا ثقافيًّا مركزيًّا،وقيمةً أخلاقية مُرتبطة بطبيعة السلوك الإنساني. والتجانسُ لا يعني التطابق التام ، أو التقليد الأعمى ، أو اعتماد سياسة القطيع. وإنما يعني التوافق في المبادئ الأساسية ، والاتفاق على الأفكار العامَّة ، والوصول إلى نقطة مشتركة في مُنتصف الطريق ، واعتماد الحُلول الوسط ، التي تضمن تحقيق مصالح الجميع بلا إقصاء ولا تمييز . لذلك كان التجانسُ بناءً عقلانيًّا قبل أن يكون بناءً اجتماعيًّا ، ومنظومةً فكرية تُساهم في صناعة العقل الجمعي من أجل تحقيق التكامل لا التماثل .
2
الإشكاليةُ في فلسفة البناء الاجتماعي هي أن البعض يعتقد ضرورة تحويل الناس إلى نُسَخ مُتشابهة لتحقيق التوافق ، ويؤمن بحتمية صَهر جميع الهُوِيَّات والثقافات في بَوتقة واحدة لتحقيق التجانس ، ويَتمسَّك بأهمية إزالة الاختلافات في الآراء ووُجهات النظر لتحقيق الوَحدة . وهذه الأفكارُ تُمثِّل خطرًا حقيقيًّا على طبيعة النسيج الاجتماعي ، لأن كُل إنسان يمتلك بصمته الحياتية الخاصَّة ، ويُمثِّل نظامًا وجوديًّا قائمًا بذاته ، ويُشكِّل منظومةً فكرية مُستقلة ، ويُجسِّد هُوِيَّةً عقلية مُختلفة . وكُل إنسانٍ نُسخةٌ أصلية ، ولا يُمكن تحويله إلى نُسخة مُقلَّدة ، والأصل لا يَكون فَرْعًا . وهُنا تكمن قُوَّة الإنسان باعتباره الجِنس المُفكِّر الأرقى والنَّوع الحياتي الأسْمَى .

1
قواعد المنهج الاجتماعي ليست آلِيَّاتٍ ميكانيكية محصورة في الأُطُر النظرية ، وبعيدة عن الواقع المُعاش، وإنَّما هي تيارات معرفية واعية ، تشتمل على منطق التاريخ ، وفلسفة التغيير ، وضرورة التطبيق . وهذا يَدفع باتجاه تحقيق التوازن الداخلي في العلاقات الاجتماعية ، وتحقيق الاتِّزان بين الأفكار الذهنية وعناصر البيئة ، وُصولًا إلى حالة الثبات في جسد المجتمع . والثباتُ لا يعني جُمود الأفكار ، وتَحَجُّر المنظومة العقلية ، بَل يَعني الوقوف على أرض صُلبة من أجل الانطلاق إلى الأمام . وإذا كان المجتمع هو الكِيان الحاضن لأحلام الإنسان العابرة للزمان والمكان ، فإنَّ الثَّبات هو كَينونة التَّحَوُّل الدائم ، وصَيرورة التغيير الاجتماعي ، حيث يتمُّ الانتقال مِن الوَعْي المُجرَّد إلى الوَعْي بالتَّغيير ، الذي يَقُوم _ بالأساس _ على الوَعْي بالتاريخ ، لأنَّ التاريخ شَرْط المعرفة ، ولا يُمكن تغيير عناصر المكان إلا بمعرفة عناصر الزمان .

1
البحث عن المصادر الثقافية للعلاقات الاجتماعية ينبغي أن ينطلق من طبيعة الرموز في اللغة ، التي تَحمل الألفاظَ والمعاني والمشاعرَ. وعندما تنتقل حركةُ العناصر الفكرية الفاعلة في المجتمع مِن المشاعر إلى التصورات ، فإنَّ تاريخ الفِكر الإنساني سيزداد وُضوحًا ، ويَسهُل تحليله ظاهريًّا وباطنيًّا . وإذا انكشفَ التاريخُ الحاكم على الفِكر الإنساني ، فإن الثقافة الحاكمة على العلاقات الاجتماعية ستنكشف . ولحظةُ الانكشاف هي الحَد الفاصل بين المعنى الحقيقي والوَعْي المُزيَّف . واللغةُ _ باعتبارها حاملةً للرُّموز المعرفية ومحمولةً على الظواهر الإنسانية _ تستطيع الوصول إلى أنوية المجتمع الداخلية ، وكشف العلاقات الهَشَّة بين الأفراد خَيَالًا وواقعًا ، وتحديد التَّشَوُّهات التي تُصيب العلاقات الاجتماعية معنويًّا وماديًّا .

1
حقائق الوجود الاجتماعي تُمثِّل نظامًا إنسانيًّا قادرًا على تأويلِ الأنساق الثقافية وتجميعِ الإفرازات المعرفية، وتركيزِها في بؤرة الأفكار التي تتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية . وإذا انتقلت الظواهرُ النظرية ذات الطبيعة الفلسفية من التَّجريد إلى الواقع، فإنَّ معايير جديدة ستنشأ في المجتمع ، وتُعيد صياغته وفق أساس عقلاني أخلاقي ، يُوازن بين الشعور المعنوي باعتباره ماهيَّةً وجوديةً للتماسك الاجتماعي ، وبين المصلحة المادية باعتبارها قُوَّةً دافعةً لأحلام الفرد وطاقاتِ الجماعة . وعمليةُ التوازن بين الشعور المعنوي والمصلحة المادية هي الضمانة لحفظ المجتمع كَجِسْم حَي وفَعَّال، يملك القُدرةَ على مُمارسة أنشطته الحيوية، وتحقيق الاستقرار الذاتي في المشاعر الإنسانية والأفعال الإبداعية والتطبيقات الواقعية ، بدُون الحاجة إلى إسناد خارجي ، أو البحث عن شرعية خارج حدود المجتمع ، لأن المجتمع الحَيَّ والفَعَّال هو مانح الشرعية لِنَفْسه ، وواضع القوانين لنظام حياته ، ولا يَنتظر الشرعية مِن أحد ، ولا يأخذ القوانين مِن غَيره. وهذه هي فلسفة الوجود الاجتماعي النابعة مِن طبيعة كِيانها ، والعارفة بحدوده ، والمُدرِكة لأبعاده .

1
معنى الظواهر الثقافية في الأنساق الاجتماعية مرتبط بالجوانب الذهنية للفِعل الفردي ، وتطوُّرِ الفِكر للجماعة الإنسانية . والظواهرُ الثقافية لا تُصبح منظومةً فكرية مُكتملة بنَفْسها وقائمة بذاتها ، إلا إذا تكرَّست فرديًّا وجماعيًّا ، وتجذَّرت في بُنية العَقْل الواعي القادر على صياغةِ المفاهيم المعرفية ، وتنظيمِ الأنشطة الإبداعية ، وتكوينِ التجارب الحياتية ، وإنشاءِ التصوُّرات المُستقبلية . وهذه المُركَّبات الوجودية هي الضمانة الأكيدة لصناعة إطار مُجتمعي أساسي يشتمل على إدراك الأحداث التاريخية ظاهريًّا وباطنيًّا ، واشتقاقِ قانون تفسيري لها في ضَوء المبادئِ السَّببية ، والحقائقِ المنطقية ، ومناهجِ التحليل الوظيفي .
2
الظواهرُ الثقافية لَيست تأمُّلاتٍ لصُنع التاريخ وفَهْمِ مَغزاه الفِكري فَحَسْب ، بَل أيضًا تَكوينات عقلانية تُشيِّد معالمَ العلاقة بين السَّبب الثقافي والأثَر التاريخي ، بحيث يكون التاريخُ نتيجةً حتميةً للثقافة ، وتكون الثقافةُ قاعدةَ الانطلاق للتاريخ. وهذه التكامليةُ تعكس أهميةَ الحقائق المنطقية في الربط بين الثقافة والتاريخ، وتحليلهما ضِمن مجالات البناء الاجتماعي ، الذي يُحدِّد الطبيعةَ الذاتية للعناصر ، والوظيفةَ الوجودية لها . وهذا يُثبِت أن الثقافة والتاريخ كِيانان يَقُومان على ثلاث ركائز : السَّببية والمنطقية والوظيفية . وهذه الركائز مُجتمعة تَمنح الشرعيةَ للبناء الاجتماعي المُتكوِّن من الثقافة والتاريخ ، وتُعطيه مشروعيةَ البقاء في عَالَم مُتغيِّر ، وهذا يعني امتداد البناء الاجتماعي في مشاعر الإنسان ، وتحوُّلاتِه المعنوية والمادية في الزمان والمكان ، وامتداد تفاصيل الحياة المُعاشة في إفرازات العقل الجَمْعي وطبيعةِ اللغة الرمزية .

 1
المنظورُ العقلاني في الحياة الاجتماعية لا يعني تجريدَ الإنسان من القيم الروحية،وقتلَ مشاعره وأحاسيسه، وتفريغَ ذاكرته من الذكريات ، وإحداثَ صراع بين الألفاظ والمعاني في لُغة التخاطب اليومية ، وإنما يعني تأسيس الكَينونة الإنسانية على قواعد المنهج العِلْمي ، مِن أجل إيجاد تفسير منطقي للسلوكيات الإنسانية والوقائع التاريخية ، والربط بينهما ضِمن إطار معرفي يحفظ التوازن بين الظواهر الثقافية والأنشطة الاجتماعية ، وهذا يدل على أنَّ المسار الإنساني في فلسفة التاريخ ليس مقصودًا لذاته ، وإنما هو طريق يُوصل إلى الهدف النهائي والغاية المصيرية. والغايةُ مِن وُجود الإنسان في التاريخ هو تكوين الثقافة وبناء المجتمع . وإذا استوعبَ الإنسانُ طبيعةَ مَوقعه في الأحداث التاريخية ، باعتباره فاعلًا لها ، ومُنْفَعِلًا بها ، ومُتفاعِلًا معها ، فإنَّه سَيَفهم دَوْرَه المركزي في بُنية المجتمع تاريخيًّا وثقافيًّا، ويقوم بأدائه على أكمل وجه ، بلا عُقَد نَفْسِيَّة ، ولا شُعور بالظُّلم، ولا غرق في متاهة الغالب والمغلوب ، ولا إدمان لَعِب دَور الضَّحِيَّة ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى المُصالحةِ بين الإنسان ونَفْسِه ( السلام الداخلي )، والمُصالحةِ بين الإنسان ومُجتمعه ( التوازن الخارجي ) . وعندما تتكرَّس الغَايَةُ الشريفة القائمة على الوسيلة النظيفة في المجتمع مَعْنًى ومَبنى ، فإنَّ الغَائِيَّة ستُصبح فلسفةً اجتماعية قائمة بذاتها ، أي إنَّ لكُل سُلوك إنساني في الإطار الاجتماعي هدفًا وغَايَةً ، وهذه الغَايَةُ هي سبب التقلُّبات الإنسانية والتغيُّرات الاجتماعية . وأركانُ فلسفة الغَائِيَّة هي الوَعْي والرمز والمعرفة والضَّرورة الحتمية .

 1
المُجتمعُ الحقيقيُّ لا يُؤَسِّس سُلطةً معرفية من أجل تَغييب العقول ، والتلاعبِ بالمشاعر، واحتكارِ الوَعْي ، وإنَّما يُؤَسِّسها بهدف تحريرِ التفكير من التقليد الأعمى ، وصناعةِ طبيعة لغوية رمزية قادرة على حمل الأشواق الروحية والنزعات المادية . وكُل سُلطة معرفية فاعلة في ذاتها ، وفَعَّالة للعناصر المُحيطة بها ، لا بُد أن تتجذَّر في اللغة دَلالةً منطقية ، ثُمَّ تترسَّخ في السُّلوك تجربةً عقلانية ، ثُمَّ تتكرَّس في الواقع مُمَارَسَةً اجتماعية . وهذه الأطوار الثلاثة تُعيد تعريفَ المجتمع اعتمادًا على التوازن بين الدَّور الوظيفي ( التطبيق العَمَلي ) والغاية المنشودة ( الحُلْم الجَمْعي ) . وتأصيلُ السُّلطة المعرفية في أعماق الواقع المُعاش ، يَكشف الثغراتِ في النظام الشُّعوري للإنسان ، ويُحدِّد الفجواتِ في علاقة المعرفة بالزمان والمكان . وهذا يُوضِّح أهميةَ السُّلطة المعرفية باعتبارها ظاهرةً ثقافيةً ونظامًا اجتماعيًّا قادرًا على كشف العُيوب بُغية تصحيحها . وكُل فِكْر إنساني يَمتلك حركةً تصحيحية ذاتية نابعة مِن كِيانه ، وغَير مفروضة عليه من العناصر الخارجية ، يُمثِّل فِكْرًا إبداعيًّا مُتحرِّرًا من الأوهام والضغوطات والمُسلَّمات الافتراضية ، والمنظومةُ الفكرية الحُرَّة قادرة على تحرير العلاقاتِ الاجتماعية بين البشر ، والعلاقاتِ المادية بين عناصر البيئة ومُكوِّنات الطبيعة . وحريةُ الكِيان ( البُنية القائمة بذاتها والمَوجودة في مجالها الحيوي ) شَرْط لتحرير الكَينونة ( الوجود المُشتمل على الشعور والتفكير والعمل ) . ووَحْدَها الذات الحُرَّة قادرة على تحرير غَيْرها .

تحافظ جماعة بشرية ما على استمرارية وجودها بقدر حفاظ أفرادها على إرادة العيش معا، مبدأ أساسيا لوحدتها وتميّزها عن غيرها من الجماعات. وبضعف هذه الإرادة أو غيابها تنهار حياة الجماعة بسرعة عجيبة. ولن يمنعها عن ذلك ما شيّدته من حضارة أيّا كانت عظمتها. يكفي النظر إلى آثار أمم وامبراطوريات خلت، لندرك أهمية ذلك. إنّ إرادة الإنسان في العيش ضمن جماعة على أساس مشترك جامع وموحّد، هو الأصل في قوّته وقدرته على البناء والتشييد، وهو الدافع إلى ابتكاره أشكالا مختلفة من التنظيمات لحفظ حياة المجموعة وتطويرها وضمان استمراريتها. تعرّف " اللجنة الدائمة حول العيش المشترك (AIMF) " العيش المشترك" بوصفه:" مسارا ديناميكيا يضعه كل الفاعلين لصالح الاندماج كما الشعور بالأمن والانتماء. إنّ الدعوة إلى العيش المشترك هو الاعتراف والاحترام لكلّ أشكال التنوّع، ومقاومة للتمييز والإقصاء، وتيسير التعايش المنسجم. وبتجسيد العيش المشترك ، يشتغل مختلف الفاعلين في الوسط على التشاور لتيسير بروز قيم مشتركة تساهم في السلم والانسجام الاجتماعي".