غرضنا في هذا الصدد، فحص مدى قدرة الذاكرة الفردية على أن تكون شهادة على الواقع، من خلال النظر في هذين الاستفهاميين: ماهي رهانات بناء معرفة سوسيولوجية استنادا على ذاكرات الأفراد؟ ثم ما هي حدود ذلك؟
الذاكرة: مفهمة واستشكال:
بدءا نتصفح القاموس العربي لتحديد لفظة ذاكرة فنجد: ذَكَر، ذِكرا، جاد ذِكْرُه، وحفظه، فهو ذِكْرٌ، وهي ذِكْرَة، ومنه الذاكرة التي تفيد قدرة النفس على الاحتفاظ بالتجارب السابقة؛ وقدرتها على استعادتها1. والذاكرة ترد أيضا في القاموس العربي رديفا للفظة <<الحافظة>> الحمالة لمعنى القوة الذهنية القادرة على الاحتفاظ بالتجارب؛ والمعلومات من أجل إعادة إحيائها عن الاقتضاء، واللزوم. أو لمعنى الوعاء الذي تحفظ فيه الأوراق.2
ويعرض القاموس الفرنسي لفظة Mémoire (=ذاكرة)، ذات الأصل اللاتيني memoria: بوصفها الوظيفة التي بواسطتها يتمكن الذهن من المحافظة، والعودة إلى معرفة تم اكتسابها في وقت سابق3.
أما القاموس الفلسفي فيعتبر mémoire: ذاكرة - ذكرى، فعلا لإعادة إنتاج الماضي، وملكة لتمثله كماض. بما في ذلك4 الآثار والتواريخ؛ أو تلك الوظيفة النفسانية الرامية إلى إعادة إنتاج حالة وعي سابقة5. وبهذا المعنى تضحى الذاكرة خاصية أساسية للوعي الإنساني؛ على رأي "هنري بيرغسون"، بما هو مراكمة للماضي وصيانة له، عبر الزمن، صورا images ، أو ذكرياتSouvenirs 6.
نرتب على هذه التحديدات المعجمية الإفادات التالية:
الذاكرة هي تلك الاستطاعة الهائلة على استرجاع الماضي بتمثله ذهنيا؛ ونفسانيا، ثم اجتماعيا، فثقافيا. ومعلوم أن هذه الخاصية مقصورة على الإنسان ومستثنى منها غيره لأن الكائن الإنساني عقل، والعقل قوة إدراكية فاعلة تحمله على ممارسة مجموعة من العمليات الذهنية المعقدة مثل الشك، والفهم، والتصور، مثلما الإثبات، والنفي، فضلا عن الإرادة، والتخيل، والتساؤل، وهي كلها لوينات للتفكير، ومواصفات أساسية لحيوية الوعي7.
العودة إلى الماضي هي يقينا عودة إلى المخزون الذاتي من أفكار، وذكريات، ومحفوظات، و تعلمات، وخبرات سالفة لاستحضارها بكامل الشفافية والوضوح (=الوعي الذاتي)؛ أو بطرق معوجة و مرتجة (=اللاوعي). وهذا يشير إلى واحدة من الحدود الأساسية الفاصلة بين الإنسان والحيوان.
عملية التذكر تجعل الفرد متصلا بمحيطه الاجتماعي، والثقافي، ومتواصلا وأغياره كما بماضيه؛ و مستدمجا هذا الأخير في شخصيته الشيء الذي يحصل القول بتاريخية الإنسان [=التشديد مني]. بهذا إذن تكون الذاكرة إحساسا بالذات في فرادتها؛ ووعيا عميقا بالكينونة في ديمومتها، وصيرورتها معا.

 "إنّ الجامعات قاطرات التاريخ الحضاريّ للإنسانيّة، ومن الطبيعيّ أيضاً أن تشكّل التغيّرات والمتغيّرات الحادثة في المجتمع النوابض التاريخيّة لتقدّم الجامعات وتطوّرها، وذلك من منطلق أنّ العلاقة القائمة بين الجامعات والمجتمع هي علاقة صميميّة وجوديّة، تقوم على الفعل والانفعال والتجاوب والاستجابة الدائريّة المستمرّة عبر الزمان والمكان ".

1 - مقدّمة:

تشكل الحريات الأكاديمية في الجامعات الحقل الخصيب لنماء المعرفة الإنسانية وازدهار المعرفة الإبداع العلمي. وقد أدرك علماء الاجتماع التربوي هذه الحقيقة، فأعلنوها قانونا اجتماعيا صاغته التجارب الإنسانية وصقلته حركة الإبداع العلمي في كلّ المجتمعات. فالحريات الأكاديمية هي الإطار العام والشرط الموضوعي لوجود الجامعة وتطورها، كما أنّها التّربة الحاضنة لأدائها العلمي بسماته الإبداعية والابتكاريّة. وتأسيسا على هذه الحقيقة يرتسم تاريخ الجامعات نضالا من أجل الحرية والديمقراطية والإبداع العلمي، ويحفل هذا التاريخ بنماء الفكر الديمقراطي وتطوره في أحضان المؤسسات الأكاديمية العليا، وذلك انطلاقا من الأهمية المطلقة والضرورة التاريخية التي يمثّلهما توفر الديمقراطية بالنّسبة إلى العلم والمعرفة العلمية.

ومن يتأمّل بعمق ودراية في تاريخ العلم وتاريخ الجامعات يجد بأنّ النضال من أجل المعرفة والحقيقة لم ينفصل لحظة عن النضال من أجل الديمقراطية. ويَظهر له جليّا أنّ الحقيقة الديمقراطية تتحدّد دائما مع حقيقة الإبداع العلمي والمعرفي. ومن يرصد وقائع التاريخ سيجد بأنّ تراجع الحضارة والمعرفة كان نتاجا طبيعيا لتراجع القيم الديمقراطية وغياب الحرية. وبالمقابل، فإنّ قوة الحضارة ومدى ازدهارها يرتهنان بمدى الازدهار الديمقراطي الذي تشهده هذه الحضارة أو تلك. ويقرئنا التاريخ أن الحضارات المزدهرة كانت قبل ذلك قد شهدت ازدهارا ديمقراطيا سجل حضوره في أصل النماء الحضاري لهذه الشعوب التي صنعت الحضارة وتكاملت معها.

وفي عمق التحولات الحضارية كانت مؤسسات التعليم العالي، وما زالت، تشكل قاطرات التاريخ نحو العلم والديمقراطية. والقانون الذي يسود هذه المؤسسات لا يخرج عن القانون العام الذي يسود الحضارة: فمدى أصالة هذه المؤسسات ومدى قدرتها على تحقيق النهوض الحضاري والعلمي رهينان، وعلى نحو جدلي، بمدى الأداء الديمقراطي لهذه المؤسسات الجامعية في مختلف صيغها وتجلياتها. وبالتالي فإنّ المؤسسات الجامعية التي تعاني من غياب الأجواء الديمقراطية ستعاني بالضرورة من الجمود والتصلب اللّذين يتجسّدان في حالة عدمية قوامها حالة اغتراب شاملة تتمثل في انهيار أكيد لمختلف طاقات الإبداع والقدرة على الابتكار. وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة لا تقبل الجدل، وهي أنّ مستوى الأداء العلمي والديمقراطي لمؤسسات التعليم العالي والجامعي في مجتمع ما يمثّل المؤشر الحضاري على الدرجة التي بلغها هذا المجتمع في سلّم التطور الحضاري والإنساني.

كان "إميل دوركهايم" Emile Durkheim عالم اجتماع فرنسيا برز في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ويُنسب إليه الفضل باعتباره أحد المؤسسين الرئيسيين لعلم الاجتماع الحديث، إلى جانب كارل ماركس وماكس فيبر. ومن أهم ادعاءاته أن المجتمع هو واقع فريد من نوعه، وغير قابل للاختزال إلى الأجزاء المكونة له. يتم إنشاؤه عندما تتفاعل الضمائر الفردية وتندمج معاً لتخلق واقعاً تركيبياً جديداً تماماً وأكبر من مجموع أجزائه. ولا يمكن فهم هذا الواقع إلا من خلال المصطلحات الاجتماعية، ولا يمكن اختزاله في تفسيرات بيولوجية أو نفسية.

وحقيقة أن الحياة الاجتماعية تتمتع بهذه الخاصية من شأنها أن تشكل الأساس لادعاء آخر لدوركهايم، بأن المجتمعات البشرية يمكن دراستها علمياً. ولهذا الغرض، طور منهجية جديدة تركز على ما يسميه دوركهايم "الحقائق الاجتماعية"، أو عناصر الحياة الجماعية التي توجد بشكل مستقل عن الفرد وتكون قادرة على ممارسة التأثير عليه. وبهذه الطريقة نشر أعمالاً مؤثرة في عدد من المواضيع. اشتهر بأنه مؤلف كتاب "حول تقسيم العمل الاجتماعي، وقواعد المنهج الاجتماعي، والانتحار. ومع ذلك، نشر دوركهايم أيضاً عدداً كبيراً من المقالات والمراجعات، كما نُشرت العديد من محاضراته بعد وفاته.

(مكاشفة نقدية، واسْتِغْراب،،،)
” تعتبر الممارسات اللا إنسانية والقمعية على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية ضد الجماعات العرقية والدينية في معسكرات الموت (أوشفيتز)، إحدى العاملات الفارقة في تشكيل معالم الفكر النقدي لرواد النظرية النقدية.... لكن بالمقابل ألا يدعو هذا الحدث - الذي يُعاد تكراره من حيث المبدأ - مفكري النظرية النقدية المعاصرين (هابرماس، هونيث...) إلى إدانة ممارسات الكيان الصهيوني الغاصب في الإبادة الجماعية والقتل الوحشي والاعتقال التعسفي وانتهاك حقوق الإنسان ضد الشعب الفلسطيني صاحب الأرض..... سؤال برسم الإجابة وإعادة الطرح والتمحيص؛ لأن الإنسانية لا تتجزأ حسب مقولات النظرية النقدية لرواد مدرسة فرانكفورت “. (الكاتب)

كانت النظرية النقدية الاسم الذي اختاره مؤسسو مدرسة فرانكفورت في الفترة بين الحربين العالميتين لترمز إلى محاولتهم إنجاز وحدة النظرية والممارسة، وفيها وحدة النظرية مع البحث التجريبي، وكلاهما مع وعي متأصل تاريخياً بمشكلات العصر الاجتماعية والسياسية والثقافية. انطوت المحاولة على وعدٍ مغرٍ، وتبقى مهمة، لكنها واجهت أيضاً مشكلات اتضح أنه لا يمكن تذليلها، على الأقل من قبل أولئك الذين أثاروها بادئ الأمر (كريغ كالهون: النظرية الاجتماعية النقدية، ص60).

عند النظرية النقدية أن التأمل عنصر حيوي من عناصر العقل، فهو مرتبط بكلمة المرآة التي تعكس شيئاً آخر. ونحن حين نفهم شيئاً ما نعكس صورته. وهو انعكاس ليس له أي كينونة خاصة به بل هو ما يظهر لنا في تلك اللحظة. والشخص المتأمل هو من لا يقبل على نحو عقائدي جامد هذا المظهر أو ذاك على أنه كلّ ما هنالك، بل يدرك أن المظاهر تعكس صورة علاقة تاريخية محددة بين الذات والموضوع. ولقد تعلمت أن المنظرين النقدين حين يكتبون بأسلوبهم الديالكتيكي المتردد جيئة وذهاباً، والمتحول خلفاً وقدّاماً بين الذات والموضوع، إنما يكتفون بترداد ما رأوا أنه العصر التأملي المميز بين عناصر العقل ذاته “ (آلن هاو: النظرية النقدية – مدرسة فرانكفورت، ص20).

لا تستغني الحياة الواعية عن النقد، ولا يشك أحد في ضرورة النقد المتجدد للواقع السائد في نظم المعرفة والقيم والاجتماع، وأنماط الفكر والفعل والسلوك، إذ إن إحياء الحس النقدي معناه إحياء الحس بالحرية والاستنارة، وضرورة التغيير والتقدم والحوار المستمر. وعلى الرغم من تعدد مفاهيم النقد وتنوع أساليب تطبيقه وميادينه، فهو في تصوره البسيط المباشر يتضمن مناهج المراجعة والتقييم للأفكار والوقائع والأفعال التي تنطلق من معايير معينة، كما يستهدف الكشف عن تعارض تلك الأفكار والوقائع والأفعال مع هذه المعايير التي أصابها العجز والفساد، بُغية العمل على " رفعها " وتجاوزها. .... وطبيعي أن يبقى النقد الذي يكتفي بنفي الواقع القائم ونقضه وتعرية عيوبه وأخطائه في أدنى مستويات النقد، لأن النقد الصحيح هو الذي يضع " الضد " في مواجهة " القائم "، ويؤلف بينهما في " جديد " أعلى وأشمل وأكثر وعياً وخصوبة “ (عبد العفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ص9).

مقدمة:
محمد بوغالي أستاذ باحث مغربي في مجال العلوم الإنسانية. صدر له بالفرنسية سنة 1974 كتاب بعنوان "تمثل المجال عند المغربي الأمي". كان هذا العمل نتاج بحث تم إجراؤه في مراكش والجنوب الكبير بين 1969 و1971. ونظرا لكونه ظل بعيدا عن أفق معرفة قراء لغة الضاد، ارتأيت ترجمة مقدمته إليها خدمة لهم، والله هو المستعان.
"غالبا ما تم استعمال الإثنولوجيا المغربية وعلم النفس الاجتماعي من قبل كتاب مغرضين لتبرير أطروحات مشكوك فيها، ولا يمكن الدفاع عنها بشكل صريح، بحيث أن الاهتمام بها يصبح من قبيل المغامرة بالنسبة إلى المغربي. فعلا، لكونهما أوليا اهتماما خاصا بخلاصة الاستعمار فقد اكتسبا، في نظر الكثيرين، وضعا غامضا جدا، يخفي أحكاما مسبقة من كل نوع، ووضعا في نفس الوقت نصب عينهما أهدافا مشكوكا فيها. لهذا السبب يجد الوريث المباشر للمجتمع والتقليد المغربيين نفسه في وضع مريح قليلا، او في جميع الأحوال كمن نسميه "مفشي الأسرار".
من جهتي، أتقبل بصدر رحب اي تسمية من هذا النوع لأني ظللت مقتنعا بأن الإثنوغرافيا وعلم النفس الاجتماعي، رغم ما عرفاه من تجاوزات، ما زال يمكن لهما أن يكونا بمثابة طريق ملكية نحو استعادة بقايانا الدينامية من أجل تقويمها على نخو أفضل. نحن مقتنعون بأنه لاجل حقن مبحث نقدي وقابل للتآكل بالضرورة، مثل الإثنوغرافيا، بنسغ جديد فلا مناص من الاطلاع على تاريخه، أخطائه، وحتى تجاوزاته من أجل تقويمها. إن الاهتمام بذلك، بالنسبة إلى المغربي، يعني بالضرورة قلب الرؤى التقليدية والمعترف بها ضمنيا. هذا هو أفضل موقف سوسيولوجي بالنسبة إليه. وإذا كانت الإثنوغرافيا، في نظر كلايد كلوكهون، "هي في الغالب السبيل الأكثر قصرا للولوج إلى الذات"، فيجب عليها أن تكون بالنسبة إلينا الوسيلة الأكثر مباشرة التي نسترجع ونطالب بواسطتها بالصورة الاصلية لشعبنا لتطهيرها من النظريات والتصورات الأجنبية المغرضة. فإذا كانت قد استعملت، في كل مكان تقريبا بشمال إفريقيا، كحصان حرب وذرع تتعاطى خلفه لاستمتاعات مرضية من أجل تذوق راحة فكرية مضللة، تبقى مشاريع جرمين تيون، جاك بيرك وبيير بورديوه، لذكر الأقرب إلينا فقط، تشجيعا وضمانة حقيقية بالنسبة إلينا.
هنا، نسمح لنفسنا بوقفة منهجية سريعة نحبذها كتحذير من أعمال كثيرة تم إنجازها حول شعوب قيل إنها " بدون كتابة"، لاستعادة صيغة كانت في أصل عدد لا يستهان به من التجاوزات والخسائر في الإثنولوجيا. يجعل الكتاب ملخصات الأحداث الواقعية أكثر ثرثرة ولا يترددون ابدا في سحبها إلى المعنى الذي يريدون منها حقا أن تأخذه. لا تكفيهم بساطة المعطيات المعاشة فقط عندما يثقلونها بوفرة، سواء من أحكامهم المسبقة الخاصة، او بدلالات غريبة واجنبية في الغالب. أحيانا، وهم يتحيزون لا شعوريا إلى محاولة نظرية تبسيطية، يختزلون، ربما عن حسن نية، خصوصية الوقائع الاجتماعية المعاشة في خطاطات موضوعة عن سبق إصرار أو مرسومة سلفا.

"الثقافة مجموعة من الغايات الكبرى التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية، انطلاقا من طبيعته العقلانية وهي أعلى ما يمكن للطبيعة أن ترقى إليه"
الفيلسوف الألماني عمانويل كانط

1- مقدمة:

تشكل الثقافة العمق الوجداني في حياة الشعوب والأمم، وإذا كانت التنمية في جوهرها تعمل على تعزيز مستويات العيش المشترك بين الناس، والنهوض بحياة الأفراد في المجتمع، فإن الجهود التنموية لا يمكنها أبدا أن تنفصل عن التكوينات الثقافية للمجمتع. فالثقافة تؤدي دورا محوريا في العملية التنموية، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان من المفكرين أو الباحثين في الميدان التنموي المعاصر.

ومن البداهة بمكان أن الباحثين يدركون اليوم - أكثر من أي وقت مضى - القوة الهائلة للثقافة بوصفها حاضنا طبيعيا للرموز والقيم والشعور بالانتماء والهوية، وقد برهنوا في كثير من الدراسات والأبحاث على قدرة الثقافة على إضافة أبعاد جديدة مميزة وفعالة في مجال الحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات المعاصرة. وهذا ما أكدته المؤتمرات العالمية في العقود الأخيرة ولا سيما مؤتمر القمة العالمي للتنمية المستدامة الذي عقد في جوهانسبرغ في عام 2002، وكذلك ما أسفرت عنه فعاليات مؤتمر ريو +20من تأكيد كبير على أهمية الثقافة التنموية في عملية النهوض الحضاري بالمجتمعات الإنسانية.

وإذا كان تحقيق الاستدامة يتمثل جوهريا في عملية الاستخدام الملائم لموارد الكوكب، فإن الثقافة يجب أن تكون فاعلة في صلب الاستراتيجيات الإنمائية، لأن الثقافة تشكل الحاضن الأساسي للعلاقات الاجتماعية بين الأفراد، كما تشكل الناظم الحيوي السلوكي لعلاقاتهم بالبيئة والموارد الطبيعية التي تحيط بهم. ومن المؤكد اليوم عبر التجارب العالمية أن المبادرات والنهج الإنمائية التي تأخذ الثقافات المحلية في الحسبان تحقق مزيدا من النجاح والتفوق في تحقيق الأهداف التنموية المرجوة. وهذا يعني في النهاية ضرورة إدماج الثقافة في السياسات والبرامج التنموية من أجل تحقيق الاستدامة التنموية والنهوض الحضاري بالمجتمع.

           يتحدد المرمى الذي يحرك هذه المقالة في التفكير، باقتضاب ، في المعالم الأساسية للمنجز السوسيولوجي لبول باسكون ( 1932 – 1985 ) من خلال النظر في منطلقاته النظرية والمنهجية؛ والتطرق للحيثيات التي انبنى عليها مفهومه عن " المجتمع المركب ".

  من الملاحظ أنه لا يتخلف اثنان البتة في القول إن باسكون يمثل علامة فارقة في ما يرتهن بالإنتاج السوسيولوجي المغربي؛ بحثا وتنظيرا ، أهلته للانتماء ، بحق ، إلى سلالة الأساتذة الكبار الذين ساهموا في تأطير أجيال من الشباب  كانوا قد انفتحوا على كتاباته بشغف كبير فأفادوا منها بالإصغاء إلى أدق تفاصيلها و تضاريسها، أو تلك حالفها الحظ فاشتغلت معه غداة الإعداد للأوراش الكبر ى التي تطلبتها لحظة الاستقلال ومشروع بناء الدولة الوطنية في مستهل عقد ستينات القرن المنصرم .

كانت الأرياف المغربية بؤرة اهتمام باسكون طيلة حياته العلمية ؛وضمن هذا السياق طفق يعتبر السوسيولوجيا القروية نبيلة الوظائف لأن مهمتها  لا تتحدد  في تفسير اختلاف العادات ،والأنماط السلوكية وأساليب العيش فحسب وإنما أيضا في محاولة فهم الأنساق الثقافية للآخرين وتبين مصادر الاختلاف ومدى مساهمتها في الثقافة الوطنية ... بهذا المعنى انشغل باسكون بالتاريخ الاجتماعي للقرى وبالمسألة الفلاَّحِية  ennpaysa ؛ وبكل ما يرتبط بها من  قضايا محورية مثل الأرض والهجرة والديمغرافيا والمعتقدات وهي كلها  مشاكل ترتهن  في العمق ،سلبا أوإيجابا، بعملية التنمية وسيرورة التغير محليا ووطنيا...

يقول إميل سيوران (Emil Cioran) [1]: لا أحيَا إلاّ لأنّ في وسعي الموت متى شئت، ولولا فكرة الانتحار نفسها لقتلتُ نفسي منذ البداية". 
تبيّن الإحصائيّات العالميّة الرسميّة اليوم أنّ 703000 شخصاً ينتحرون سنويّاً، هذا عداك عن مئات الألوف من المحاولات الانتحاريّة الفاشلة. ومن المؤكّد أنّ كلّ حالة انتحار تشكّل بذاتها مأساة إنسانيّة في المجتمع. وقد صنّف الانتحار بوصفه رابع أهمّ سبب للوفاة بين الأفراد الّذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عاماً على الصعيد العالميّ، والواقع أنّ أكثر من 79% من حالات الانتحار العالميّة  تحدث في البلدان المنخفضة والمتوسّطة الدخل
.

1- مقدّمة:

احتلّت ظاهرة الانتحار مكاناً استراتيجيّاً في سوسيولوجيا دوركهايم، وشكّلت محوراً أساسيّاً من محاور اهتمامه. وقد عُرف دوركهايم بدراسته التاريخيّة الّتي أجراها عن الانتحار في أوروبا، وهي الدراسة الشهيرة الّتي كرّسها للبحث في ماهيّة الانتحار، وفي عوامل نشأته، ومظاهر حركته وانتشاره، ساعيا إلى استكشاف القانونيّات السوسيولوجيّة الّتي تحكمه. وقد نشر نتائج دراسته هذه في كتابه المشهور الانتحار (Le Suicide)([2]) عام 1897. ويشكّل بحث دوركهايم حول الانتحار عملاً سوسيولوجيا كلاسيكيّاً فذّاً، يتميّز ببراعته المنهجيّة، وعمقه المعرفيّ وقدرته الخلّاقة على توليد الإلهام السوسيولوجيّ للمفكرين والباحثين على مدى أجيال متعاقبة. وقد شكّلت دراسته هذه أحد أكثر الأعمال وضوحاً وأهمّيّة في علم الاجتماعيّ الكلاسيكيّ التأسيسيّ، وارتقى هذا العمل إلى صورة نموذج علميًّ سوسيولوجي فريد في بنيته وتكوينه استلهمه علماء الاجتماع وغيرهم من المفكّرين والباحثين في مجال العلوم الإنسانيّة على امتداد القرن الماضي وما يزالون ([3]). ويعترف معظم النقّاد في مجال علم الاجتماع بأنّ مبحث دوركهايم عن "الانتحار" يتّسم بأهمّيّة تاريخيّة فائقة في مجال علم الاجتماع وذلك لاعتبارات ثلاثة أساسيّة:

يتمثّل الأوّل في أنّ دوركهايم اعتمد في بحثه عن الانتحار- ولأوّل مرّة في تاريخ علم الاجتماع- المنهجيّة العلميّة الّتي أسّسها ورسّخها في كتابه قواعد المنهج (Les regles de la methode en sociologie)، إذ قام بتطبيق المنهج السوسيولوجيّ (قواعد المنهج) بصورة واضحة ورصينة في هذا العمل، وقد أعطى هذا الأمر أهمّيّة استراتيجيّة كبيرة لهذا العمل، إذ إليه يشار اليوم بوصفه البحث السوسيولوجيّ الأوّل الّذي أخذ صورة طابع بحث ميدانيّ أكاديميّ منهجيّ إمبيريقيّ، وقد اعتمد دوركهايم في هذه الدراسة على معطيات اجتماعيّة إحصائيّة، وانتهج التحليل الإحصائيّ، واعتمد الملاحظات العلميّة الرصينة ليجسّد بذلك المنهج السوسيولوجيّ الرصين الذي نادى به في هذه الدراسة على أكمل وجه ممكن.