لقد غلب على ظن كثير من الباحثين المعاصرين أن أصول الفقه علم تجريدي لا علاقة له بواقع الناس، محتجين على ذلك بأن ما يدرسونه ومايتدارسونه داخل المدارس ومدرجات الجامعات لايجدونه مطابقا للواقع ما يدفعهم للقول بمثل هذه التفسيرات  المغلوطة. هذا يطرحنا على سؤال لماذا أصول الفقه؟ وما الغاية منه؟

إن هذا السؤال يجعلنا نرجع للبحث في تاريخ نشأة هذا العلم، كيف نشأ الفكر الأصولي وكيف تطور، إلا أان هذا يستدعي أن يخصص له بحث مستقل ومفصل.

إذا كنا ندرك جميعا حقيقة أصول الفقه ونعتبره  كمنهج في البحث والبناء، أي البحث في الأدلة وبناء الأحكام، فإننا سنجزم بأن هذا أمر متعلق بمنهج تنظيمي، ولايمكن أن يكون التنظيم تجريديا، هذا من جهة. ثم من جهة أخرى إذا ما أردنا أن نقرأ الفكر الأصولي كي نفهم حقيقته، فلابد أن نقرأه قراءة موضوعية وواقعية، وليس قراءة تجريدية متعالية. ولعلي أقصد هنا بالواقعية، قراءة الفكر انطلاقا من واقعه، إذ أن هذا الأخير هو الذي يكشف لنا عن الصورة الحقيقية للعلم أو الفكر.

نحن لا ننكر أن هناك بعض القراءات التجريدية لهذا العلم جردته من علميته وواقعيته، لكن هذا ليس دافعا للقول بانتهائه والحكم بموته.

يجب أن نعلم جميعا أن أصول الفقه قبل أن يكون علما، فهو منهج تفكيري يبحث في أدلة الأحكام بدقة عالية، ولذلك أطلق عليه ((منطق المسلمين))، ذلك لأنه يشبه المنطق الأرسطي في وضع قوانين توجه العقل الفقهي في عملية التفكير وبناء الأحكام، وتحفظه من الوقوع في الأخطاء في تفسير النصوص الشرعية، فالأصول "هو قانون عاصم لذهن الفقيه من الخطأ في الاستدلال على الأحكام، كما أن المنطق عاصم لذهن الفيلسوف من الخطأ في التفكير"[1]

كتاب عبارة عن دراسة علمية رصينة من إنجاز الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز، صدرت طبعته الثانية عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت سنة 2011، يتضمن ثمانية فصول موزعة على ثلاثة أقسام رئيسية (222 صفحة). يذهب الكاتب إلى أن قلة من الباحثين – سواء العرب أو الغربيين – من ركز على البعد السياسي من المشروع النبوي، إذ استأثر الجانب الديني والدعوي بالقسط الأوفر من اهتمامهم، ذلك أن النبي (ص) كان أيضا قائدا سياسيا (ما يميزه عن مجموعة من الرسل) تَوَسل بوسائل السياسة والقوة المادية للتمكين لرسالة الإسلام، وكانت تصدر منه تقديرات واجتهادات سياسية لا تخلو من فطنة وبعد نظر. وهكذا يتحدد موضوع البحث في "تكوين المجال السياسي الإسلامي والموقع التأسيسي للمشروع النبوي فيه". وفي هذا الصدد، لا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بالمشروع السياسي النبوي وعظمة قائده محمد (ص).

وعليه، فقد شغلت المسألة السياسية مكانة مركزية في الإسلام منذ صدره الأول لحاجة الرسالة الدينية إلى سلطان سياسي يرسخ دعائمها، ويوسع من رقعة انتشارها، ويضمن بذلك استمراراها ومنعتها. فما هي مظاهر وتجليات حضور مشروع سياسي نبوي؟

أولا: الوظيفة السياسية للحرب

رغم تشديد البعض على المضمون الديني الصرف للحرب، فإنها تنطوي أيضا على وظيفة سياسية تكتيكية ضرورية لخدمة الهدف الاستراتيجي الديني، مثل إضعاف شوكة العدو (قريش) اقتصاديا وتجاريا لحمله على الدخول في الإسلام، إذ ليس يخفى وجود اعتبارات "سياسية" و"اقتصادية" تفسر تعنت قريش ورفضهم لدعوة الإسلام، تتمثل في الخوف من تضرر مصالحها المادية والتجارية التي تدرها عليها الأصنام والأوثان (القوافل التجارية الكي كانت تفد إلى موسم الحج بمكة... إلخ)، فضلا عن حاجة المسلمين الماسة إلى خوض الحروب من أجل توفير الموارد الاقتصادية الضرورية عن طريق تحصيل الغنائم، باعتبار ضعف اقتصاد المدينة الفقير حينئذ مقارنة بمكة التي كانت تعد قوة تجارية كبرى. ولما كانت "الحرب خدعة" بتعبير النبي (ص)، جرى الحرص على نسف تحالفات العدو إبان الحرب عبر نشر الأخبار الكاذبة المضللة.

تمهيد:
تندرج هذه الدراسة في إطار التأريخ لأدبية مدغرة الشعرية، لاسيما شعر المديح النبوي المدغري، كجزء لا ينفصل عن الأدب المغربي الأصيل في أبعاده الأدبية والروحية والصوفية، فقد أسهم شعراء مدغرة على مدى قرون في الدينامية الفكرية لمجتمع الواحة، مستلهمين من محبة النبي «صلى الله عليه وسلم» المتجذرة في نفوسهم، أفكارهم الدينية، وهي الأفكار التي ترجموها إلى أشعار مدحية، تخاطب روحَ وعقلَ ووجدانَ وفؤادَ الإنسان المدغري المُحِب في الجناب النبوي الشريف، فالتدين من السمات الأساسية التي تطبع شخصية المجتمع الواحي المدغري، لذلك أبدع هؤلاء الشعراء في نظم قصائد مدحية نبوية شريفة إبداعا يليق بمكانة النبي «صلى الله عليه وسلم»، موظفين أغراضا شعرية ترسم فيها قصائد المديح النبوي المدغري عبر أبياتها تجليات العشق المحمدي كما عاشه هؤلاء الشعراء، فالتغريدة النبوية المدغرية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدين وبالمقدس في أغلب أشعارها، سواء في الشعر الفصيح أو الملحون، بهذا المعنى تسموا المدحة النبوية المدغرية بلغتها الشعرية المدحية فصيحا وملحونا فوق الزمان والمكان إلى عوالم روحانية مشرقة، لتضيء ظلام النفوس الحائرة، والأرواح المنكسرة والقلوب المكلومة، إنها تستمد من الوحي الإلهي القرآني والسنة النبوية الشريفة، وكذا من شعر المديح النبوي السني الصافي الخالص روحانيات نورانية مضيئة، تفيض منه محبة النبي «صلى الله عليه وسلم»، لتروي ظمأ الأرواح العطشى وتشفي مايعتري صدور الخلائق من غم وهم وأحزان، تطهيرا للروح والبدن من الأدران الدنيوية التي تحجب نور الهدي المحمدي.

كثيرا ما أصبحنا نسمع في الآونة الأخيرة أن الفقه الإسلامي لم يعد يعالج قضايا الواقع، بل أصبح فقها يغلب عليه طابع الترديد والتكرار والتقليد، مما أدى إلى الإعراض عن الفقهاء وفتاواهم التي لاتتجاوز سقف الحفظ والاجترار، بل ولم يظهر عليها أثر الاجتهاد. إذ أنهم يعيدون ترديد الفتاوى القديمة ويسقطونها على واقعنا المعاصر دون أدنى تأمل في الواقع ولا أخذه بعين الاعتبار، مما أثر على الفقه الإسلامي بشكل سلبي.

وهنا نطرح السؤال ؛ هل فعلا لم يعد الفقه قادرا على مسايرة العصر وأحداث الواقع التي تتولد يوما بعد يوم، أم أن الفقيه هو الذي لم تعد له القدرة على النظر والتأمل والاجتهاد في الفتاوى وبناء الأحكام؟

لقد سبق وان قلت في مقال سابق إن الفقه ابن زمانه، وإن الواقع له تأثير كبير في إصدار الفتاوى وبناء الأحكام، لكن وعلى ما يبدو أن بعض متفقهة زماننا أضحى يغلب عليهم الجمود، إذ يمكن أن نسميهم فقط "ناقلي فقه" وليسوا فقهاء. ولست أدري هل مثل هؤلاء بالفعل فقهاء، أم يدعون ذلك فقط ، وعلى العموم فإن الفقيه الحقيقي هو الذي ينزل الواقع منزلة النص حين لا وجود لنصوص قطعية في المسائل المعروضة، أما القياس على الفقه الجاهز فإنما يزيد الطين بلة ويجعل فتاوى الفقيه بعيدة كل البعد عن واقعه ومتعارضة معه.

ولعلنا إذا تأملنا في الفتاوى القديمة وجدناها ذات واقعية تامة، إذ كان الفقيه يفتي انطلاقا من واقع المستفتي وحاله. وهذا موجود أيضا حتى في فقهياتنا المعاصرة، وإن بشكل قليل قد لا يراه أكثر الناس، فإذا ما أخذنا بعض الوقائع التي وقعت في زماننا ورجعنا إلى أجوبة الفقهاء عنها، لوجدناها أجوبة تلامس الواقع وتتماشى وكليات الشريعة ومقاصدها في الآن ذاته.

كنت طرحت على نفسي سؤالا لغويا استشكاليا متداخلا مفاده: هل صوت الحرف باللغة اية لغة من اللغات المعاصرة هو ابجدية نحوية؟ ام هو خاصية الافصاح عن معنى الصوت؟ هنا يكون رسم الحرف الابجدي النحوي كتابة يحمل دلالة خاصية المعنى المجرد من الصوت المنطوق جهرا بالكلام.

الحقيقة التي لا يمكننا اغفالها هي ملازمة رسم الحرف للصوت والاختلاف النحوي بينهما هو في معنى الصوت سواء كان الصوت منطوقا غير مرسوم أم مكتوبا .

الفرق بين الحرف المكتوب ضمن نص طباعي لغوي مقروء تداوليا هو ملازمته لصوت له معنى. لا توجد ابجدية قرائية حروفها بلا صوت دلالي له معنى.

اما في رسم الحرف اللغوي على جدار او داخل لوحة فهو يمتلك التعبير المقصود واحيانا يكتسب الجمالية الفنية على حساب فقدانه الصوت الدال الخفي او المسموع. فالحرف داخل نص مكتوب طباعة هو غير الحرف داخل لوحة تشكيلية, فالحرف في كلا التوظيفين هو دلالة تشكيلية بلا صوت لا منطوق ولا صامت.

وجدت جوابي الخاص بي ان رسم الحرف غير التشكيلي يشير الى ابجدية نحوية يلازمها صوت له معنى. رسم الحرف بالابجدية اللغوية هو شكل رمز يحمل دلالة صوتية ذات معنى. الحرف الابجدي عماد الكتابة وكي يتوفر على هذه الميزة ضروري ان يكون مرسوما بشكل متفرد عن غيره من حروف لغة ما, والثاني ان يحمل الحرف الابجدي دلالة صوتية ايضا متفردة ليس شرطا صوتا منطوقا لسانيا, والثالث والاخير ان الصوت المدّخرالذي يحمله الحرف نطقا او صمتا يشير الى معنى محدد مقصود.

صوت الحرف عند الانسان هو من ضمن نحو لغوي بينما الاصوات التي تطلقها الحيوانات تحمل في بعضها فقط معنى وغالبية اصوات الحيوان لا معنى لها حتى داخل نوعها كونها تتسم بالعشوائية التي لا يحكمها تفكير عقلي كما هي عند الانسان..


شكل الحرف اللغوي الخاص بالانسان سواء اكان مجردا من قيمته الجمالية الفنية داخل لوحة او عمل فني تشكيلي يؤطره . في انجاز تشكيل لوحة خط او لوحة رسم فنون تشكيلية. اي عندما نرسم الحرف كتابة ضمن نص مقروء او منطوق مكتوب, او نرسمه باسلوب فني كما هو  في التوظيف التشكيلي الجمالي في رسم لوحات الخط او لوحات التشكيل او لوحات البوستر بالرسم على الجدران والامكنة العامة في مختلف اجناس الفنون التشكيلية الجمالية التي تحتاج توظيف رسم الحرف الصامت في اللوحة.

بهذا النوع من الاسلوب التوظيفي الجمالي يكون رسم الحرف داخل لوحة يفقده خاصية الصوت حتى الصامت الملازمة لرسم شكل الحرف كوحدة ابجدية منفصلة او متصلة. كما يفقد بالضرورة الملزمة له خاصيته النحوية التي نجدها بالكتابة العادية التداولية. هنا كتابة حرف البوستر وخط اللافتات المرفوعة بالايدي او الثابتة في اماكن محددة لها لا يفقد الحروف ابجديتها الصوتية الصامتة ذات المعنى المراد المقصود بل يؤكدها قراءة.

الصوت بلا نحو عند الحيوان

الحيوانات لا تمتلك لغة لها ابجدية ذات اشكل تدل على اصوات لها معنى. بل تمتلك اصوات اغلبها عشوائية وبعضها تعبّر عن مداليل استعمالية محدودة. بمعنى ليس كل الاصوات التي تطلقها الحيوانات ذات مداليل قصدية داخل النوع الحيواني من جنسها باستثناء بعض الاصوات التي تكون مفهومة داخل النوع الواحد مثل التنبيه الى خطر محدق, رغبة الجماع الجنسي, قدرة التنبؤ بالتغيرات المناخية الطارئة, وجود طعام يتشارك به القطيع والخ من حاجات مشتركة تبعد نوع الحيوان من الانقراض.

لماذا نقول إن الانسان يمتلك فرادة لغوية لا تشبه وغير موجودة لدى غيره من الكائنات بالطبيعة.؟ للاجابة فقد سبق لي ذكرها بمقال سابق منشور لي اختصرهنا بعض أهم نقاطه:

الانسان يمتلك ابجدية لغوي نحوية منتظمة لا يمتلكها غيره من الكائنات. الابجدية عند الانسان نظام لغوي قائم بذاته نسقيا في التعبير عن كل شيء يدركه العقل.

الصوت اللغوي الانساني صوت يحمل معنى محدد مقصود الدلالة. وهو صوت بدأ عند الانسان بتطور بايولوجيا استخدام الحنجرة صوتيا عنده بمساعدة اللسان على تمكنه اخراج اصوات لغوية تحمل معنى مشترك لقوم من الاقوام يتشاركون العيش المشترك والمصير الواحد ولهم عادات خاصة بهم يقدسونها او يتفقون الحفاظ عليها معنويا...

ميزة الانسان انه امتلك لغة تداولية متفردة عندما تمكن من رسم الصوت اللغوي وتوزيعه على رموزذات اشكال محفورة او منقوشة على حائط او قطعة جلد او اي شيء اخر يتفق عليه داخل مجموعة من البشر يؤشر مداليل قصدية مشتركة لها اصوات تدل على معانيها.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى. بمعنى ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه لا يدركه العقل في فهم معناه. فالعقل تفكير لغوي تجريدي في التعبير عن معنى.

الصوت الصادرمجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار علم النفس السلوكي اللفظي بزعامة فريدريك سكينر1904 - 1990 الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى. من المهم ذكر ان ادراك العقل يسبق تعبير اللغ عن الشيء ذاته.

لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية مجتمعية – معرفية متعددة الاستعمالات داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات تبدأ بالكهفية البدائية وتشكيل ونحت في عصور لاحقة معاصرة التي يجري توظيف اللغة كمنظومة ابجدية جماليا فنيّا فيها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر.

كما اشرنا له سابقا رسم شكل الحرف باللغة هو خاصية نحوية من جملة قواعد وضوابط في اختراع ابجدية لغوية متكاملة تحتوي عددا محدودا من الاحرف المنتظمة نحويا خاصة بقوم من الاقوام مثل اللغة العربية 28 حرفا اساسيا اضاف لها بعضهم الهمزة كحرف لتصبح 29 حرفا والانكليزية 26 حرفا والسامية 22 حرفا وهكذا مع تعدد اللغات بالعالم. لا حاجة التذكير ان شكل كل حرف في ابجدية لغوية لقوم من الاقوام او امة من الامم يختلف رسمه وصوته عن باقي الحروف الاخرى داخل منظومة القواعد النحوية.

لكن يبقى رسم شكل الحرف ناقصا يحمل مداليل تاويلية فائضة وقراءات مختلفة ويخلق تصورات متباينة لا يكتمل معناه الدلالي النحوي بالنسبة لكل فرد منفردا لوحده او ضمن مجتمعه الا بملازمة صوت معين لكل شكل حرف مرسوم او مكتوب متفق على اساسيات تحكمه مثل شكل الحرف , صوته الدال عليه, معنى دلالة ذلك الصوت الخاص به.. الحرف خارج منظومة القواعد العامة التي ذكرناها لا قيمة حقيقية له كرسم لشكل معيّن متفرد.

مثال تاكيد ما ذهبنا له توظيف رسم شكل الحرف باللوحة التشكيلية الفنية او بلوحات انواع الخطوط كما عندنا بلغتنا العربية كرمز جمالي تكويني فني يدخل جزءا بصميم تكوين جمالية اللوحة لكنه مقطوع الصلة عن التنظيمية النحوية القواعدية لتلك اللغة.

حروف لوحات الخطوط العربية تطورت عبر العصور فنيّا جماليا وكان لدور رائد الخطاطين من غير العرب المعاصرين الشيخ ابو حامد الآمدي التركي دورا كبيرا جدا في تلمذة الخطاطين العرب على يديه واجازتهم ممارسة الخط العربي. لتستقرالخطوط العربية اليوم في ابرزها على عدد من الخطوط والاشكال منها خط النسخ, الثلث, الرقعة, الكوفي, الديواني, الجلي الديواني, الفارسي "التعليق",خط الطغراء, خط الاجازة, والخط المغربي وخطوط رسومات حروفية اخرى تدخل في المنحى الجمالي. وتعتبر لوحات الخط العربي اليوم من نفائس تراثنا الثقافي العربي المتناقل عربيا وعالميا.

نحوية الحرف اللغوي

نحوية الحرف باللغة لا يحددها رسم شكله خارج الكتابة التداولية المطبوعة اليوم. بالكتابة الحرف لا يفقد ابجديته الدلالية في التعبير عن معنى يلازمه صوت خافت او منطوق. بل يفقد القيمة الجمالية الفنية في توظيفه الفني داخل تكوين رسومات ولوحات ما لا حصر له. الحرف بالكتابة المجتمعية اللغوي الخاصة بقوم من الاقوام (وظيفة) غير جمالية ولا فنية بمعيارية مقارنة توظيف الحرف بالفنون التشكيلية والمنحوتات واللوحات الجدارية والمتنقلة ولوحات الخط العربي عندنا وهكذا.

في اللوحة التشكيلية وتوظيف الحرف جماليا يفقد الحرف العربي قيمته النحوية القواعدية كابجدية منضبطة. رسم الحرف باللوحة هو (فن) ورسم الحرف بالكتابة اللغوية المعرفية والادبية هي ( نحوية ) ابجدية منتظمة. والحرف في التوظيف الفني باللوحة متحرر تماما من اي التزام لغوي سوى توكيد حضور الناحية الجمالية الفنيّة.

اي هو في الوقت الذي يشكل حضوره داخل تكوين عملية الابداع المهني باللوحة كقيمة جمالية لا يستهان بها الا ان الحرف الجمالي داخل اللوحة يفقد نحويته الابجدية القواعدية بسبب عشوائية التوظيف الحروفي داخل تكوين اللوحة.. حينما يكون شكل الحرف الفني الجمالي داخل اللوحة (ثابتا) كحيّز امتلائي كتلوي لسد فراغ في تقنية اللوحة فنيّا في سد الفراغات وتوزيع الالوان والكتل وغيرها.

حين اشرنا سابقا قبل اسطر ان رسم الحرف داخل اللوحة هو بمثابة تحنيط نحتي له يحرره من كافة الالتزامات النحوية واللغوية حتى بالمعنى والصوت, فمرد هذا الاستنتاج ان توزيع اشكال الحرف داخل اللوحة يكون اعتباطيا عشوائيا يغلب عليه اللاشعور في طغيان الحس الجمالي المبهر له. فرسم شكل الحرف داخل اللوحة يستنفده توزيعه الكتلوي (المكان) وانتقالاته اللونية داخل اللوحة بكل اريحية فنية جمالية حسب اسلوبية الفنان.

متى ما اكتسب الحرف الصوت تحرر من المهنية الاسلوبية الجمالية ويخرج من تشكيل اللوحة ليعود الحرف الى حقيقته الاصلية على انه رمز لغوي نحوي له دلالة تعبير تجريدية داخل منظومة لغوية تحكمه خاصيتي الصوت والمعنى. الحرف صوت ومعنى من خلالهما وبهما يكتسب تراتيبية تسلسله ضمن القواعد النحوية للغة.لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى.

علي محمد اليوسف

ايها الطير الطائر!
لا افهم لغتك، ولا تفهم لغتي
فلماذا لا نتفاهم بلغة الحب
ما دام كلانا يلهج باسم المحبوب؟

قراءة "كتاب المحب والمحبوب" للفيلسوف رامون لول المكتوب في الاصل باللغة الكتالانية تقودنا على الفور الى الاستنتاج بان هذا الفيلسوف يستلهم شعر الحسين ابن منصور الحلاج والشعر الصوفي الاسلامي اجمالا في هذا النص الذي اراد له ان يكون بمثابة سيرته الصوفية. وهناك ايضا نصوص اخرى يؤكد من اطلع عليها بلغتها الاصلية انها تستلهم هي ايضا قصائد الحلاج الذي عاش بين عامي 244 - 309 هـ (858 - 922 م). لكن كيف اطلع رامون لول الذي عاش بين عامي 1235 و1313 على قصائد الحلاج في تلك الفترة من الحياة الثقافية لاوروبا الوسيطة والمظلمة؟

لنلاحظ اولا ان مؤلفات رامون لول ظلت مجهولة تماما في الاوساط الفلسفية الغربية حتى فترة قريبة وبشكل مستغرب رغم الشهرة الواسعة التي نالها كرائد لفلسفة الحب الالهي في الغرب المسيحي الكلاسيكي وكأحد اهم ثلاثة مفكرين عرفتهم اوروبا القرن الثالث عشر الميلادي الى جانب توما الاكويني في ايطاليا ودون سكوت في انكلترا. حيث ظل كتابه "الفن الكبير في الكشف عن الحقيقة" المكتوب باللغة اللاتينية في عام 1276 بمثابة المرجع الوحيد حول افكاره، في حين وجدنا ان الفترة ما بين صدور ذلك الكتاب ووفاة لول في 1313 هي الفترة الاهم في الخصب والنضج الفلسفي لديه. اما السبب الرئيس المباشر الذي وقف وراء اغفال مؤلفاته اللاحقة فيتمثل كما نعتقد بقيام البابا غريغوار الحادي عشر باصدر مرسوم كهنوتي بادانة الآراء الصوفية لرامون لول وبحظر تداول مؤلفاته ما كرس انصراف المهتمين والمترجمين عنها.

والحال ان لول الذي يلقبه الباحثون الآن بفيلسوف الحب الروحي، كان من نوادر الفلاسفة المسيحيين الذين تشبعوا بالثقافة العربية - الاسلامية فأحبها وانتمى لها كأحد ابنائها. فقد اندفع لتعلم اللغة العربية منذ شبابه واتقنها اتقانا مثيرا فراح يدرسها في الاديرة والمعاهد ثم قام منذ عام 1275 بتأسيس دير لتدريس اللغات الشرقية وخصوصا اللغة العربية. وقد توج ذلك بكتابة العديد من مؤلفاته الفلسفية واللاهوتية باللغة العربية مباشرة يأمل الباحثون ان يتم العثور عليها بعد ان اصبحت مفقودة تماما.

في علاقة الدين بالتدين تسود في بيئاتنا العربية  مقاربتان اثنتان ، الأولى مكتفية  بظاهر النص من غير اهتمام كبير بتأثير العقل وسياقات التاريخ والاجتماع والمذهب في فهمه  وتنزيله ، ففهم فـئـة  للنص هو ذات النص[1]، وبذلك فإن فهم السلف حجة على من دونهم دونما اعتبار للسياقات الموضوعية الداعية لترجيح فهم على فهم ، وحكم على حكم[2]، وتقف المقاربة الثانية على النقيض من الأولى  ، فتنفي أصلا أن يكون للنص وجودا في ذاته، إنما هي أفهام وتمثلات في أذهان أصحابها وفق إكراهات التاريخ وإغراءاته ، فالنص يذوب في ذهن صاحبه بمجرد تلقيه ، وتغيب حقيقته وراء حجاب كثيف من الأفهام والتمثلات المحكومة بالواقع ، المنضبطة به والمسيجة بسياجه[3]، وبهذا تتم إزاحة النص وأحكامه إزاحة كلية  أو شبه كلية ، فلا يبق إلا الواقع، ولا يتم الاعتراف إلا به.

نتيجة المقاربة الأولى أن يتم الاستغناء بظاهر النص عن ضوابط فهمه وتنزيله من حافات السياق والقرائن[4]، ونتيجة الثانية أن يتم  الاستغناء بالتدين عن الدين  ، وبالعقل عن النقل ، وبالعلم عن الشرع[5] .

وهكذا يجد المتابع نفسه بين خيارين متضادين  ، وموقفين متنافيين ، إما اعتبار النص وإزاحة تأثير الواقع في ذهن المتلقي ، وإما اعتبار الواقع وإزاحة تأثير النص .

فكيف نخرج من منطق الثالث المرفوع هذا ، والذي كثيرا ما يتم حشر الناس فيه دونما إرادة منهم ولا وعي ؟ خاصة وأننا ندرك أن النص قد جاء للتأثير في الواقع هداية وإرشادا من جهة ، وأن هذا النص لا يدرك إلا من خلال سياقي الورود والتنزيل[6] من جهة أخرى .

الدين وضع إلهي علوي ثابت[7] ، والتدين كسب إنساني أرضي متغير[8]  ، وليس العلوي المطلق كالأرضي المتغير ، من حمل هذا على ذاك فرط في الثوابت فأضاع البوصلة ، أو جمد المتغيرات فكبح تقدم الحياة ، وكل ذلك واقع معاش ، وتاريخ منقول .

  • في مدارسة المقاربة الأولى:

إن الأصول الكلية للشريعة جاءت لأجل تحقيق مقاصد الشارع، وبالتالي فإن كل ما يوافق الشرع من أصول اجتهادية كالمصلحة المرسلة...، وإن لم يوجد مايشهد له بالصحة من الأدلة النقلية، فإنه يعتبر أصلا صحيحا، ذلك لأنه وإن لم يشر الشارع إليه، إلا أنه وافق مقتضى عموم الكتاب والسنة، بل والمقصد العام من التشريع، أي جلب المصالح ودرء المفاسد، فالذي يشهد لمثل هذه الأصول الاجتهادية هو عموم الكليات المصلحية للشريعة.
فإذا كانت هذه الكليات تشهد لهذا الأصل أو ذاك بالصحة والضبط ، فأنه يلزم الأخذ به وجعله أصلا معتبرا من أصول التشريع، لأن الأصول الكلية تبقى عامة تجري على كل ما يوافقها ويحقق المصلحة المعتبرة شرعا.
لقد أنزل الشارع سبحانه الخطاب ليبين للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة على التمام والكمال، وهذا البيان الذي جاء به الخطاب الشرعي إذا فهمه المكلف فهما جيدا سليما أدى به إلى تحقيق مراد الشارع الذي قصده منه، وهو عمارة الأرض وإصلاحها وحسن الخلافة فيها، هذا إذا ما فهم المكلف ماجاء به الخطاب من أوامر ونواهي وأحكام...، فإن هذه الأحكام ليس مقصودة في ذاتها بقدر ماهي وسائل يتوسل بها للوصول إلى تحقيق مراد الشارع من هذه الرسالة الربانية الخالدة. إنه إعمار الأرض وبناء حضارة إنسانية راقية على أسس متينة وقوية تجمع بين المادي والروحي على حد سواء، وتسعى إلى إصلاح أحوال الناس دينا ودنيا، وهذا فيه معنى كمال الشريعة، ولا يبقى إلا الفهم السليم لها، ذلك لأن الفهم السليم يؤدي إلى التنزيل السليم للأحكام، حسب الأحوال والأزمان والأماكن...، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال الوقوف على معاني الخطاب ودلالاته واستنباط أحكامه وحكمه. فإن الفقه والأصول وعلوم الآلة من العربية كلها وضعت لأجل فهم الخطاب الشرعي فهما سليما صحيحا بعيدا عن الشبهات والهوى.