" هذا المطلب لتغيير الوعي يبلغ تأويل الواقع بطريقة أخرى ، أي إدراكه بواسطة تأويل آخر. لذلك يتحرك التأويل دائما بين تأويلات أخرى...(انه) عملية تحدث داخل التمثيل ولذلك فإنها تبقى " [1]
استهلال:
يظل تناول المسألة الدينية من زاوية النقاش العمومي والتحليل العلمي والقراءة المعرفية أمرا راهنا ومطلبا حيويا وذلك من أجل ترشيد هذا الخطاب والتمييز بين البنية النصية والمعطى التاريخي والاجتهاد العقلي التي يتشكل منها وقصد رسم الحدود بين الدنيوي والأخروي وبين المقدس والمدنس وتنزيل الوحي في السياق الاجتماعي من جهة التلقي والانتظار ومن ناحية النداء والاستجابة والتفكير في سبل لتجاوز التنابذ بين القديم والجديد وبين التجذر والانفتاح وتدبير طرق ووسائط للخروج من المأزق الذي تردت فيه حضارة إقرأ نتيجة سجال التأويلات والأزمة السلطوية التي فجرها ادعاء القراءات المتعددة امتلاك الحقيقة المطلقة والتمثل المطلق للمقصود الحقيقي للشارع الأول وتنسيب الرؤي البشرية التي تم نحتها عن الديني.
فما الغاية التي فرضت عملية تطوير الخطاب الديني؟ هل هي إرادة التخلص من القديم وإخلاء الساحة للحداثة بماهي شرط التقدم في التاريخ أم العزم الفعلي على التجديد الاجتهادي دون الوقوع في المذهبية؟ أي تجديد لأي خطاب يمكن قوله عن الدين للناس أجمعين؟ وكيف السبيل إلى التسامح بين الأديان والتفاهم بين الطوائف؟ ومتى يكون الخطاب الديني منارة مضيئة في درب ترسيخ المواطنة وتدعيم الديمقراطية؟

نفتتح هذا الموضوع بهذا السؤال: هل حقيقة أن للفقيه منهجا غير المنهج الأصولي في استنباط الأحكام الشرعية من الخطاب الشرعي؟ وإذا كان له منهج خاص به، فأي معنى وظيفي يبقى للمنهج الأصولي الذي وضع أساسا لهذا الغرض، أعني استنباط الأحكام الشرعية من الخطاب؟
أعتقد أنه لا سبيل للإجابة عن مثل هذا السؤال إلا بالإجابة عن سؤال آخر قبله وهو: من هو الفقيه؟ ومن هو الأصولي؟
إذا انطلقنا من فكرة مسلمة لدى علماء الشريعة وهي أن حافظ المسائل المدونة في كتب الفقه ليس بفقيه، بل هو فروعي، وأن الفقيه هو المجتهد الذي ينتج الفروع من أدلة صحيحة فيتلقاها منه الفروعي تقليدا ويدونها ويحفظها، "والفقيه كذلك على حد تعبير الإمام الغزالي هو ذلك الذي يستطيع أن يتكلم في مسألة لم يسمعها ككلامه في مسألة سمعها"[1]، أما الأصولي فهو "من عرف القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية لأنه منسوب إلى الأصول.. ولا تصح النسبة إلا مع قيام معرفته بها وإتقانه لها"[2]، إذا اتضح هذا تبين لنا أن حديثنا هنا لن يكون شاملا لكل من الفقيه الحافظ والفقيه المجتهد والأصولي، بل يكون قاصرا على الفقيه المجتهد من جهة، والأصولي من جهة أخرى، لسبب بسيط هو أن كلا منهما ناطق عن نظر واستدلال. أما الآخر فهو مردد لما سمعه منهما[3].

مفهوم النص:
لا ينكر أحدنا عودة الديني من جديد ليشكل وبصورة مكثفة محورا للسجالات الفكرية داخل مجتمعاتنا المعاصرة، فالإسلام كدين، وكتراث فكري يسترد اليوم حيويته المطابقة لتسارع التاريخ في كل المجتمعات الإسلامية، إنه يلعب دورا من الطراز الأول في عملية إنجاز الإيديولوجيات الرسمية، والحفاظ على التوازنات النفسية-الاجتماعية، والأمر لا يقتصر على هذه الملامح فحسب. بل يمكننا أن نشير إلى ما أنتجه هذه العودة من قراء ممتازين داخل منظومة العقل الإسلامي أمثال: محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، وحسن حنفي، وطه عبد الرحمن وعلي حرب.. حيث استطاعوا أن يحركوا من جديد إشكاليات النص الديني الكلاسيكية، برؤية أكثر حداثية، بتوظيفهم آليات فعالة في إنتاج المعرفة حول النص، وكشف وتعرية عن ذلك الذي لا يعبر عنه، ولا يقوله، أو يمتنع عن قوله. ولم يجدوا أي حرج في اشتغالهم بالمناهج الغربية وتطبيقها لأجل فهم طبقات النص الديني. على الرغم من وجود حملة شرسة ضدهم مثلها ولا يزال يمثلها جماعات التكفير في زمن التفكير.

إن القرآن نص لغوي يمكن أن نصفه بأنه يمثل في تاريخ الثقافة الإسلامية نصا محوريا. وليس من قبيل التبسيط، كما يشير نصر حامد أبو زيد، أن نصف الحضارة العربية الإسلامية بأنها حضارة "النص"

anfasse25068يجد الدارس للشعر العربي القديم –منذ العصور الجاهلية إلى نهاية عصر الاحتجاج- تضاربا واختلافا كثيرا في روايته، وقد علل الدارسون القدماء والمحدثون ذلك، وأرجعوه إلى عدة أسباب، منها: القبلي والسياسي والديني والحزبي والشعوبي، ومنها طريقة حفظ وتداول هذا الشعر عن طريق الإنشاد الذي يعتمد على الذاكرة الحافظة التي تتعرض بدورها للسهو والنسيان مع مرور الأزمان، وتعاقب الأجيال.
إلا أن هذه المصادر والمراجع التي أرخت للشعر العربي القديم، وعملت على توثيقه وتناول نصوصه بالنقد والتحليل، قد أشارت في طياتها –وبطريقة غير مباشرة- إلى عامل آخر في هذا الاختلاف، ونعني بذلك (اللهجات/اللغات) العربية القديمة وأثرها في هذا التنوع في الرواية الشعرية. لأننا كثيرا ما نجد الدارسين من قدماء ومحدثين يرجعون بعض هذا التباين على أنه (لغة…). وكان العرب يطلقون مصطلح (لغة) على أي (لهجة) عربية قديمة. وأن اللغة العربية (الفصحى) كانت بمثابة نهر لروافد لغوية/لهجية لجميع القبائل العربية. وأن كل لهجة كانت لها خصائصها اللغوية التي تخضع لها وتميزها عن أخواتها الأخريات، أي تلك المؤثرات اللسنية للقبيلة والمنطقة الجغرافية، التي تتداول فيها هذه اللغة/اللهجة، وأن أثرها لحق هذا الشعر.
والمهتمون بحضارة بلاد العرب، ومنذ القدم، اختلفوا في أصول لهجات اللغة العربية الفصحى، وتاريخها البعيد والتي كانت منتشرة في الجزيرة العربية وأطرافها الأخرى، وهل هي نفسها التي وجدها الإسلام ونزل بها القرآن؟

anfasse25062الرموز المستعملة في هذا المقال :
∧ رابط الوصل ويقابله في اللغة الطبيعية بواو العطف 'وَ'.
∨ رابط الفصل ويقابله في اللغة الطبيعية بــ 'أَو'
← يرمز إلى الاستلزام ويعني 'إذا كان ...فإن...'
⊂ يرمز إلى التضمن .
∼ يرمز إلى النفي .
⊢ على يمين هذا الرمز تُذكر المقدمات وفي يساره النتائج المتولد بطرق مخصوصة عن المقدمات.

تقديم
يُعد علم الأصول علما استدلاليا بامتياز لكن تدريسه اتخذ مسارا آخر في كلياتنا فاكتُفي بحفظ المسائل عن تعلم النظر وكيفية الاستدلال على الأحكام ، ما غلب ملكة الحفظ على ملكة الاستدلال.... للأسف هذه المسائل المنطقية والاستدلالية في هذه المصنفات لم تُترجم بعد إلى لغة منطقية معاصرة ، وحتى أثبت صلة هذه المسائل بالمنطق المعاصر فإني سأعمد إلى ترجمة نُتفا منها ، معتمدا على كتاب المستصفى للغزالي.

anfasse19068مقدمة :
اعتبر بعض الدارسين أن مسالك التعليل أدلة على التعليل، ودرسوا هذا المسلك بناء على ذلك؛ قال الطوفي: "إثباتها (أي العلة) بدليل نقلي (…) وإثباتها بالاستنباط.." [1]،وذكر من جملة ذلك كله منهج السبر والتقسيم[2].
غير أن أكثر أهل الأصول اعتبروا مسالك التعليل بشقيها النقلي والعقلي طريقة ومنهجا لاستنباط العلل الشرعية والعقلية، وذهابهم هذا المنحنى ارتبط أكثر بمجالهم الجامع بين الأصول والفقه. غير أن الناظر يرى أن حديثهم عن السبر والتقسيم يضمر حديثين متوازيين، حديث عن طرق استنباط العلة وحديث عن الاستدلال، وهو نفسه قد نجده عند النظار من المتكلمين، وهكذا "يرى بعض المتأخرين أنه كان طريقا قائما بذاته، ويرى آخر أنه طريق لإثبات علة الأصل.."[3].
ولهذا ليس خيرا أن ننظر إلى منهج السبر والتقسيم كطريقة للبحث والاستدلال وطريقة في استنباط العلل. وإن كانت هذه الطريقة في الترتيب لم تصنف في باب الاجتهاد إلا ضمن آخر أبواب وسائل استنباط العلة، فقد يتبع الفقيه المجتهد عند استنباطه للعلة مسلكين:
الأول: نقلي ويعتمد فيه استخراج العلل المذكورة بالنص.
والثاني: استنباطي ويعمد فيه إلى طرق متعددة لاستنباط علة الأصل، وهنا سوف لا أشير إلى كل هذه الطرق وإنما سأقتصر على واحدة تعتبر مهمة في الدراسات النقلية كما هي مهمة في الدراسات العقلية، ولعلي أقصد بذلك منهج السبر والتقسيم.

anfasse15055«لكن التاريخ، ولحسن الحظ، احتفظ لنا بذكرى أولئك الذين كافحوا ضد التاريخ».

– Nietsche (Friedrich), considérations inactuelles, p339 ,montaigne,sans date.

مثّل «ابن رشد» قمّة الحضور الكوني للعرب، في حين شكّل «ابن خلدون» آخر عهد لهم بالمشاركة في الفكر الكوني. وتعني المشاركة في الفكر الكوني نمطا من تنظيم الحقيقة على نحو يسترعي أمما ويستدعيها للأخذ به وتبنّيه. هكذا نذكر أن أوروبا في لحظات حرجة من تاريخها حاربت الكنيسة باسم «ابن رشد» (الرشدية اللاتينية). وبهذا المعنى كان فيلسوف قرطبة بمثابة «تراث» مضاد للتراث،شأنه في ذلك شأن «الجاحظ» و»أبي حيان» و»الحلاج»…وهي أسماء تكثّف «الضديّة» على نحو خاص. لكن بعدما كان العرب حجة يأخذ بها غيرهم انتهوا اليوم إلى أن يصبحوا خطرا على قيمة الغيرية،ففي حين انغمس «ابن رشد» في فك ألغاز إحراجات عصره تشهد «داعش» اليوم على منعطف رهيب في مسار حضارة فقدت القدرة على توجيه نفسها.
إن أمارة القصور التي باتت عليها مساهمة العرب تنكشف جلية عند فحص أسرار استفراد الغرب بالريادة الروحية للبشرية وتقدّمه الحاسم في المنافسة المحمومة بين صيغ الكونية. الغرب إخراج غير مسبوق لمعنى الكونية. تفاصيل هذا المعنى يمكن ردّها إلى ركنين أساسيين:المعنى والزمان،وليس هذا غير معنى التّناهي. لذلك ليس صدفة أننا أكدنا في خاتمة واحد من أعمالنا الأخيرة،أكدنا الحقيقة التالية:»حين نتمكن من استضافة التناهي بوصفه عنصرا أساسا للفكر، آنذاك سنتمكن من استقبال الغرب حقا وفعلا بمعزل عن سراب استنساخه، سنستضيفه بطريقة ما ستصبح هي طريقتنا الخاصة ومساهمتنا المتميزة في التاريخ»(1).

anfasse08058jpgلقد اقترن مدلول التصوف بالعزوف عن الحياة، والإضراب "عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة"[1]، رجاء في التقرب من الله تعالى الذي بأمره ترفع حجب الحس، كي تنكشف الحقائق الربانية[2].

إلا إن تاريخ الصوفية وسير بعض رجالاتها، وتأملات أقطابها، تبدو جميعها أكبر من أن تنحصر في ذلك المدلول الرهباني للنسك أو تقف عند الممارسة الشعائرية للدين؛ بما أنها تقدم المتصوف في صورة المريد للنعيم في الدنيا قبل الآخرة، والعائق للحق عبر تجلياته في الخلق. فالمجاهدة ليست سوى مسلك لحظوي مؤقت، يتخلى عنه العارف، ويتعالى عن شروطه فور اعتقاده بلوغ أقصى درجات الولاية. عندئذ تسقط "عنه الشرائع كلها، من الصلاة والصيام والزكاة وغير ذلك، و[تحلل ] له المحرمات كلها من الزنى والخمر وغير ذلك.."[3]. وكأن "العبادة" في اصطلاح الصوفية كلمة مائعة رجراجة، تتمنع عن الحدود المعجمية، ومفهوم لا يحمل أي معنى سابق عن التجربة الحسية المتفردة والخاصة: "لقد جاء الولي الوهراني سيدي محمد بن عودة الشهير بترويض الأسود إلى بيت الولي عبد الرحمان […] داخل البيت وجد سيدي محمد الولي سيدي عبد الرحمان صحبة فتيات جميلات، فأظهر بعض الدهشة: إن الحضور الإلهي، قال سيدي عبد الرحمان يدرك بين الأقراط والضفائر، أكثر منه على قمم الجبال.."[4].

إذا كان الشهرستاني قد استخلص من استقصائه للمذاهب، والعقائد والديانات التي كانت تعتمل، بتصارعها، بلاد الإسلام، أن البشر لا يستطيعون تصور الغيبيات بالعقل النظري وحده، بل لا بد لهم –بشكل أو بآخر- من قياس يتوسل بالأجسام: تشبيها أو تعطيلا؛ فإن حتمية "التجسيد" عند الصوفية لم تكن إرغاما، بقدر ما كانت نزوعا بديهيا يقدمون عليه انطلاقا من إيمانهم بأن الله "كان وجودا منزها حتى عن الإطلاق. لا يوصف بوصف، ولا يسمى باسم، ولا يعرف بحد ولا برسم. ويطلقون عليه في هذه المرتبة "العماء" […] لا يعرف نفسه، ولا يراها، ولا يدري هو من هو […] ثم اشتاق أن يعرف نفسه وأن يرى ذاته، فتعين في صورة الحقيقة المحمدية، ثم راحت الذات تنتقل من مرتبة إلى مرتبة، حتى عين الذات هوية وماهية وصفة، أو ما من شيء إلا وهو اسم إلهي تعين في مادة. والحق […] لا يرى مجردا عن المواد أبدا.."[5].